إذا تناقش طرفان، فنحن إمّا أمام شخصين مثاليين يحاولان الوصول
إلى ما يعتقدان أنه الصواب من خلال نقاشهما، بصرف النظر، عمن ثبت أنه على حق فيهما.
وإمّا أننا أمام مباراة في الجدل، يحاول خلالها كل طرف، أن ينتصر، حتى ولو كان مقتنعاً
في قرارة نفسه بأنه على خطأ. المفكر المغربي، الدكتور حسان الباهي، قدم لترجمة كتاب،
"فن أن تكون دائماً على صواب"، للفيلسوف الألماني أرثور شوبنهاور. وفي مقدمته
أوضح أن الشخص المزيف، يبني الحجج أثناء النقاش لأغراض تضلل الآخرين، بهدف إثبات صحة
وجهة نظره، فيلبس رأيه غير المنطقي ثياباً تجعله يبدو وكأنه منطقي. إذا دخلتم في نقاش
مع شخص، فلا بد أن تكونوا قاطعين في أسئلتكم، ولا تدعوا شيئاً يفوتكم دون استيضاحه،
بحسب الباهي. إذا وجدتمونه يراوغ، ولا يرد عليكم بإجابات واضحة شافية، فالأفضل أن تقطعوا
النقاش معه، كي لا تضيعوا وقتكم، أو يصل الأمر إلى سجال شخصي، يرهق ذهنكم بلا داع،
وقد يدفعكم إلى التشاجر معه.
وفي الحديث عن الفرق بين النّقاش والجدال لا بدّ من إيضاح
مفهوم النّقاش، وهو الذي ورد في علم الاجتماع كشكل من أشكال التّخاطب، والتّواصل بين
الأشخاص والتفاعل فيما بينهم بأسلوب عفوي ووفق قواعد تدل على الأدب والاحترام، وفي
النّقاش يجب أن تلتزم الأطراف المتناقشة بمهارة الاستماع والإنصات للطّرف الآخر، مع
عدم التّعصب للآراء الشّخصية والأخذ بها ورفض أيّ رأي مخالف، ومن آداب النّقاش ألّا
يكون النقاش بهدف الشّهرة وتسليط الأضواء وإثبات الرأي فقط، وعندما يلتزم الإنسان بقواعد
النّقاش وآدابه يمكن حينها إيجاد حلول للمشاكل التي تواجهه، واكتساب المعارف والمهارات،
بالإضافة لمشاركة الآخرين الأفكار والاستفادة منها مع تأثر الشخص بأفكار غيره. مفهوم
الجدال ، فمصطلح الجدال مأخوذ من جدل الحبل؛ أيّ فتله وكأنّ المجادل يفتل برأيه على
الشّخص الأخر، فالجدال إذًا هو أشبه بطريقة الصّراع بالأفكار ليثبت الشّخص وجهة نظره
وصحتها، فإذا جادل النّاس بعضهم بعضًا فإنّ ذلك يدل على الخصومة والشدة بالحوار، ومقابلة
حجة الشّخص المجادل بحجة الأخر، وقد قال الجرجاني بأنّ الجدال هو إثبات الإنسان لوجهة
نظره بحجة أو ما شابهها.
والجدال مذموم؛ وهو
الجدال بالباطل، فلا يرجى النّفع من هذا النوع، والمجادل فيه يتصف جداله بأنّه لا ينبني
على أسس علمية.
وعن أَبي أُمَامَة
الباهِليِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه
ﷺ: أَنا زَعِيمٌ
ببَيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَببيتٍ
في وَسَطِ الجنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإِن كَانَ مازِحًا، وَببيتٍ في أعلَى الجَنَّةِ
لِمَن حَسُنَ خُلُقُهُ حديثٌ صحيحٌ، رواه أَبُو داود بإِسنادٍ صحيحٍ.
وعن جابرٍ :
أَن رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّ
مِنْ أَحَبِّكُم إِليَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجلسًا يَومَ القِيَامَةِ: أَحَاسِنَكُم
أَخلاقًا، وإِنَّ أَبْغَضَكُم إِليَّ وَأَبْعَدَكُم مِنِّي يومَ الْقِيامةِ: الثَّرْثَارُونَ،
والمُتَشَدِّقُونَ، وَالمُتَفَيْهِقُونَ، قالوا: يَا رسول اللَّه، قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ،
وَالمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا المُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: المُتَكَبِّرونَ رواه الترمذي
وقال: حديثٌ حسنٌ.
والنّقاش يتميز عن
الجدال، بأنِّه المناقشة ويدخل في ضمنها الحوار والمناظرة، وتكون بترداد الكلام في
النقاش بين المتناقشين، كلٌ منهما يحاول إثبات صحة رأيه، ولكن مع الرغبة في إظهار الحقّ
ودحض الباطل، أما الجدال فيراد منه أن يُلزم المجادل الشخص الأخر برأيه، ويغلبه بالنّقاش،
ويجبره برأيه، وكي لا يقع الشّخص في هذا الأمر، فعليه الالتزام بآداب الحوار والتي
تتمثل بما يأتي:عدم تكذيب الشخص الأخر والطّعن في أدلته، إلّا إن وجد دليلًا صحيحًا
على كلامه وادعائه. أن يتوقف عن المجادلة والجدال إذا كانت سيسبب فسادًا. قبول نتائج
الحوار والمناقشة وعدم الإصرار على إثبات الرأي. نية الإنسان المناقش الصادقة والتي
تدفعه لإثبات الحقّ وإظهاره، وتقف أمام رغباته وشهواته بالظهور والسمعة والرياء. التحلي
بالأخلاق الإسلامية؛ فلا يستهزئ المرء بمن أمامه، أو لمزهم أو القدح بصفاتهم. عدم الإطالة
بالكلام أو استخدام الألفاظ الغريبة والمستهجنة. في حال قدّم الشخص البيانات والأدلة
على كلامه، يجب أن يتوافر فيها المطابقة وعدم التّناقض.
وأخيرًا فأعظم قيمة للصمت، تكون عندما تصمت طويلاً؛ حتى تتعرف
على الحقائق كلها قبل أن تتحدث.
إرسال تعليق