رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن قول الله تعالى { قل مَتَاعٌ الدنيا قَلِيلٌ}

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن قول الله تعالى { قل مَتَاعٌ الدنيا قَلِيلٌ}



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أن الدنيا فانية، ومتعة زائلة، وظلال آفلة، وسحابة حائلة، ولذة ذاهبة، وفتنة راجفة.
إن الدنيا أيام قلائل، وظل زائل، وليالٍ قصار، وساعة معدودة، وأنفاس محدودة، ثم بعدها حسرات مترادفة، وأحزان متضاعفة، يُتمتَّع بها ثمَّ تفنى، وتذهب بعد وقت قريب، ثم لا يبقى إلا التحسُّر الوبيل.
الدنيا، وما أدراك ما الدنيا؟! إنه ومهما حاول أهل اللغة جاهدين، وعضّدهم أهل البلاغة مسرعين، وجاءهم أهل الفصاحة مسوّمين، وأهل العربية مساعدين - فإنهم سيعجزون عن وصف الدنيا على الحقيقة، ومهما قلَّبت كتب المعاجم، وقواميس اللغة في القديم والحديث، وكواغد الغريب في السابق واللاحق؛ فإنها خالية وخاوية، من حقيقة الألفاظ التي يمكن أن توصف بها الدنيا.
لكن الله عزَّ وجلَّ الذي لا يعجزه شيء في الدنيا والآخرة، جاء لذلك بأروع وصف وأجمله، وأبينه وأوضحه، وأقصره وأخصره؛ إذ الدنيا مع دناءتها، وحقارتها وزوالها من جهة، وقلَّتها إلى جانب ما في الآخرة، من جهة أخرى، لا تستحق التطويل والإسهاب؛ لبيان ما هي عليه - وهو قوله عزَّ وجلَّ وهو يصور هذه الدنيا الفانية على الحقيقة والتحقيق: ﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ﴾.
فما أجمله من تعبير! وأجملْ به من توصيف! يزيح عن القلوب الغمامة، ويرفع عن الوجوه السآمة، ويُذهب عن النفوس الغمة، ويرفع عن الصدور الكربة.
وهكذا هي والله دومًا ودائمًا ألفاظ القرآن الكريم، وتعبيراته وآياته، تفوق البلاغة والبيان، وتجاوز الكمال والحسن، وهي إلى ذلك جامعة مانعة، بديعة ماتعة، وكل ما أمعن الواحد منا النظر لها، وأدام التأمل فيها، انشرح صدره، وزال همُّه، وحسن عمله، وانقضى أمره، وكثر حمده لله عزَّ وجلَّ وشكره، وبالمقابل قلَّت شكواه، وزال تشككه، وانقضى إلى غير رجعة تردده، وخلُص من حقده، وسوء ظنه بربه.
وسيتبيَّن لنا شيء من ذلك من خلال هذا المثال الذي طرحناه، والآية التي سقناها، وهي قوله عزَّ وجل: ﴿ قل مَتَاعٌ الدنيا قَلِيلٌ ﴾.
فإنه في هذا الجزء من الآية، يخبر الله عز وجل عباده، وعلى رأسهم نبيُّه ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم - وهما وجهان لأهل التفسير فيها - عن حقيقة هذه الدنيا وقدرها، ويزهدهم في هذه الدنيا ومنها، ويُعلم الجميع قاطبة، من آمن ومن كفر، ومن علم ومن جهل، ومن صدق ومن كذب، ومن رضي ومن أبى، ومن أحسن ومن أسى، بقلّتها، ولا سيما إذا علمنا ما أعدّه عز وجل لأهل الإيمان في الآخرة، وأنها مع ما فيها، وما أعطي أهلها منها من السَّعة، وبسط الرزق، ورغد العيش، ليست إلا شيئًا حقيرًا سيذهب، ويزول إلى غير رجعة.
كما أن فيها نداء من الحق عزَّ وجلَّ لأهل الإيمان: أن لا يغرنكم ما في أيدي أهل الكفر والطغيان، من تجارات وأموال، ورخاء وعيش، ورحلة الشتاء والصيف، ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا، ولا تغترُّوا بظاهر ما ترون من تبسطهم في الأرض،...إلخ، مع ما أنتم فيه من ضيق وشدة، وذل وبلاء، وحرج وكرب، وهم وحزن؛ لأن ذلك - الذي هم فيه - ﴿ مَتاعٌ قَلِيلٌ ﴾ في جنب ما أنتم فيه: من سعادة القلوب، وطمأنينة النفس، فكيف إذا جمع إليه: ما سيفوتهم من نعيم الآخرة، وما أعدَّ اللَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين من الثواب لما صبروا عليه واحتملوه، وهو أيضًا قليل في نفسه لانقضائه، وكل زائل قليل، وهذا بالنسبة إلى ذاتها، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا قدر لها ولا خطر، وإنما أورد ذلك على سبيل التمثيل والتقريب وإلا فلا نسبة بين المتناهي وبين ما لا يتناهى"[1].
ولذلك جاء في الحديث عن المستورد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بن سعيد بالسبابة - في اليم، فلينظر بم يرجع؟))[2].
بل حتى تعلم حقيقة وصفها بأنها: ﴿ مَتاعٌ قَلِيلٌ ﴾، تأمل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرًا منها شربة ماء))[3].
فأموال الأغنياء - وإن كثرت - قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من أفضاله، وأحوال الفقراء - وإن صفت - قليلة بالإضافة إلى ما وعدهم من شهود جماله وجلاله.
ولذلك فإن صاحب الدنيا ومن تعلق بها لا يفلح البتة، لا من جهة ما أراده من البقاء السرمدي، ولا من جهة ما سيفقده ويخسره بتعلقه بها من الفوز بالمطلوب الأكبر.
فلا تغترَّ أيها المؤمن العاقل بإنعام الله عليهم وتقلبهم في بلاده، في إنعام وعافية؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يستدرجهم بذلك الإنعام، فيمتعهم به قليلًا، ثم يهلكهم فيجعل مصيرهم إلى النار.
وتذكَّر قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لعمر رضي الله عنه في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!))[4].
فقوله عزَّ وجلَّ ﴿ مَتاعٌ قَلِيلٌ ﴾: يشمل الدنيا والذي هم فيه منها، فكل هذا قليل، وأقل من القليل، إذا ما قورن بما أعده الله عزَّ وجلَّ لأقل أهل الجنة إيمانًا، وآخرهم دخولًا الجنة[5]، فكيف بمن سواه؛ لذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: "متاع كل الدنيا متاع قليل"[6]. وقال ابن جرير - وهو يبين حقيقة هذا المتاع -: "لا يُبلِّغ من تمتعه، ولا يكفيه لسفره" [7].
ثم استمع إلى الرازي وهو يصف هذا بفلسفته الخاصة قائلاً: "وإنما وصفه الله تعالى بالقلة؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات والحسرات، ثم إنه بالعاقبة ينقطع وينقضي، وكيف لا يكون قليلاً؟! وقد كان معدومًا من الأزل إلى الآن، وسيصير معدومًا من الأزل إلى الأبد، فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى، وما يأتي وهو الأزل والأبد، كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل"[8].
وختامًا: يمكن - إكمالاً للفائدة - أن أذكر جملة من الفوائد التي يسر الله عزَّ وجلَّ الوقوف عليها لهذا الجزء من الآية، فأقول:
فيها: وعيد شديد، وتهديد أكيد؛ لأنها جاءت من باب الخذلان والتخلية للدنيا وأهل الدنيا، فكأنه قيل لهم: إذًا قد أبيتم قبول ما أمرتم به من التوحيد والإيمان والطاعة، ورضيتم بالدنيا، وصحبة أهلها، والتي هي متاع قليل، فشأنكم، وستجنون ثمرة عملكم واختياركم، والله أعلم.
وفيها: وعد لأهل الإيمان المعرضون عن الدنيا بالمقابل.
وفيها: تسلية لأهل الحق مما حرموه من الدنيا، وتسلية لمن كانوا في الدنيا في فقر وشدة، وهي تصبرهم على تلك الشدة.
وفيها: بيان أن المؤمن والكافر يستويان في أن الدنيا متاع قليل لهما يتمتعان بها؛ فإذا ما صاروا إلى الآخرة؛ كان ما عند الله خير للمؤمنين منهم[9].
وفيها: أن الأمور بالخواتيم.
وفيها: أن الدنيا وما عليها ليست دليلاً على فضل من أعطيت له، وسيقت إليه، وفي الحديث: ((إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من أحب))[10].
وفيها: دليل على أن أقل القليل من الجنة خير من الدنيا، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها، وقرأ: ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]))[11].
فأسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا وإياكم جنته، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
________________________________________
[1] فتح الباري (11/232).
[2] أخرجه مسلم رقم: (2858).
[3] حديث صحيح بمجموع طرقه، فقد جاء عن: سهل بن سعد، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، انظر: الصحيحة (2/305) رقم: (686)، (3/659) رقم: (943).
[4] أخرجه البخاري رقم: (4629).
[5] انظر: صحيح البخاري رقم: (773)، ومسلم رقم: (182).
[6] مفاتيح الغيب (20/282)، واللباب في علوم الكتاب (12/181).
[7] جامع البيان (7/453).
[8] مفاتيح الغيب (9/472).
[9] تفسير البغوي (7/197).
[10] وهو حديث صحيح، انظر: السلسلة الصحيحة (6/482) رقم: (2714).
[11] أخرجه الترمذي رقم: ( 3017 و 3288 )، وأحمد (2/438)، وغيرهما. انظر: السلسلة الصحيحة (4/626) رقم: (1978).

اكتب تعليق

أحدث أقدم