بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة
استاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
تفردت شخصية المضحك، أو ما يُطلق عليه فى أيامنا هذه
"المهرج" أو البهلوان، ببعض السمات والصفات التى جعلتها تتواجد وتنتشر فى
كل عصر من عصور التاريخ، لما لها من قدرة على التلون بثقافة البيئة التى تعيش فيها
فتُدخل جو من السرور والبهجة على حياة الناس. وقد انتشر الاهتمام بالفكاهة والنوادر
في التراث العربي منذ أياّم الجاهلية، ولكن الشخصية انتشرت بشكل أوسع في العصرين الأموي
والعباسي بسبب التوسعات الخارجية للدولة الإسلامية واختلاط العرب المسلمين بالفرس والروم
الذين عرفوا الشخصية قبل العرب بقرون. نحاول فى هذا المقال إلقاء الضوء على أبرز المهرجين
في التاريخ العربي، والصفات التي تميزوا بها، وتأثير تلك الشخصية في الأدب الشعبي العربي.
ظهور شخصية المضحك البهلوان (المهرج) عند العرب
بحسب كتاب "شخصية المضحك عند العرب حتى نهاية حكم المتوكل"
لعلي محمد السيد خليفة (2015)، لم تلق شخصية المهرج في التاريخ العربي اهتماماً في
العصر الجاهلي مثل ما لقيته في العصر الأموي والعباسي، فكانت وسائل اللهو والتسلية
والإضحاك تقتصر على الحكايات القديمة، وقصص الحروب والأمم السابقة، وحفلات السمر الشعرية.
ولكن ازدادت أهمية دورها نتيجة لاتساع رقعة الدولة العربية الإسلامية فى العصرين الأموي
والعباسي، وإختلاط العرب بالحضارات والثقافات المختلفة، خاصة حضارات الفرس والروم الذين
قرّبوا المهرج إلى بلاط أكاسرتهم. كما كان للازدهار الاقتصادي، والترف الذي ترافق مع
توسع الإمبراطورية الإسلامية تأثيراً على عادات وسلوك العرب فى هذين العصرين، فقرّب
الأمراء والحكام الشعراء إلى بلاطهم، وأقاموا حفلات للسمر والغناء، ومعها انتشرت تلك
الشخصية وأصبح لها دور كبير في حياة الناس الاجتماعية والثقافية.
بعض صفات المهرج في التراث العربي
يوضح كتاب "شخصية المضحك عند العرب" إن المضحك
شخص موهوب فى إضحاك الناس وتسليتهم وإمتاعهم بأقواله وأفعاله، وباستخدام تكوينه الجسماني
لا سيما ملامح وجهه، وبأنه يقوم في الغالب بتنمية موهبته بالتعرف على أخبار المضحكين
السابقين وحكاياتهم، ويدرس وسائلهم في الإضحاك، كما يتصف بالظرف، والقدرة على التمثيل،
وتقديم التعليق الساخر في حينه. ويستكمل "الكتاب" إن من أبرز سمات تلك الشخصية:
"القدرة الكبيرة على الإضحاك وعلى حفظ النوادر والحكايات الطريفة وقيامها بتأليفها
وبيعها، والسخرية من نفسها ومن أقرب الناس إليها، والجرأة، واتساع الحيلة، والقيام
بأفعال غريبة، والتهاون فى أمور العبادة، وعدم الإخلاص في حب المرأة، وحبها الشديد
للطعام، والتعلق بالحيوانات كما في نوادر وفكاهات جحا، والغيرة من المضحكين الآخرين".
وفي رأي له طابع شخصي أكثر منه علمي أو بحثي، قال الأديب عباس محمود العقاد فى كتابه
"جحا الضاحك المضحك": "إن شخصية المضحك في التراث العربي تتسم بالعبث
والغرور لأن كل عمل يضحك الناس إنما هو لون من ألوان الغرور أو ضرب من ضروب العبث،
وكثيراً ما يلتقيان، لأن الغرور ما هو إلا تجاوز الإنسان لقدره والعبث هو السعي في
غير جدوى، ولا يكون هذا الأمر في كثير من الأحيان إلا عن اعتزاز المرء بنفسه".
إن فلسفة السعادة عند البهلوان (المهرج) على مر العصور تتبلور
في القيام بعمل إيماءات وحركات في لغة غير عادية للجسد إضافة إلى ما يرتدي من ملابس
محاكة بطريقة مثيرة للبهجة ذات ألون ملفتة للنظر, وما يرسم على وجهه من ألوان تجعل
من شكله المتميز باعثا على تقبل الجمهور لما يقدمه له من أشكال السعادة خاصة أنه يرسم
فمه دائما على شكل شفاه مبتسمة ابتسامة عريضة .
هذه الحركات والملابس والألوان هي أدوات اختارها البهلوان
بعناية لنشر السعادة وقد توارثتها البهلوانات من بعده جنبا إلى جنب مع توارث الجمهور
للشعور بالبهجة عند رؤية البهلوان.
إلا أن هذه الأدوات والتي اتخذ منها البهلوان مصدرا للدخل
طوال حياته على مر السنين, باذلا من الجهد والنشاط كل ما أوتي من قوة, وقفت عاجزة أمام
مرور الزمن وظهور وهنه وعجزه الذي أظهره الشيب على ملامحه وعلى حركاته وهو ما لا يستطيع
اخفائه مهما حاول أن يقدم من أدوات السعادة لديه..
كان هذا هو واقع البهلوان العجوز.
الزمن والسن والوهن تجعل الروتين الوظيفي يقف عاجز أمامها
فالكل مرحلة الاختيار المناسب لها فقدم دورك
بما يتناسب مع امكانياتك وغادر خشبة المسرح فور الإنتهاء من دورك.
والسؤال هنا : أليس
من حق البهلوان العجوز أن يجلس بين جنبات المتفرجين ليس أن يقف أمامهم؟!..ويأتي
غيره يحقق له السعادة التي قدمها هو لسنوات أليس من واجب الروتين إعطائة وظيفة وراء
الكواليس داخل السيرك عندما يبلغ سن التقاعد وينصرف عنه المسرح؟!..
واخيرا يقول سليمان العودة: لو انكشفت الأقنعة لصدمتنا الحقيقة،
سنرى المهرج المكتئب، والمفكر الضائع، والعالم الفاقد للحب، والداعية التواق للشهرة،
والغني المحتاج, والفقير المستغني، سنرى أقوى الناس وهو بأمس الحاجة إلى من يحبه ويحتضنه
ويفهمه.
إرسال تعليق