رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن الدنيا سجن المؤمن

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن الدنيا سجن المؤمن




بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف

مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أن الدنيا سجن قديم قدم الأزل منذ أن خلق الله السماوات والأرض؛ ﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 123 - 126].
خالف آدم عليه السلام فكان العقاب في سجن يُسمى سجن الدنيا، سجن المصائب، وسجن الهموم، وسجن المِحَن، وسجن المرض، وسجن الخوف، وسجن الحزن، وسجن الذنوب.
وإذا جاء لفظ السجن تبادَر إلى الذهن مباشرة القيد، والحبس، والسجَّان، وضيق المكان، وكآبة المشهد وظلمته، فلا تأكل إلا بأمر السجَّان، ولا تلبس إلا بإذن السجان، ولا تتحرَّك إلا وَفق مراد السجان.
تخيَّل - أخي في الله - ظلمة السجن وضمَّته وضيقه، تصور ذلك التفكير القاتل الذي يعيشه أهل السجن في سجنهم وهم ينتظرون ساعة الخلاص، تخيل ساعة الغروب التي إذا نزلت على السجين نزلت بكل هموم الدنيا وأثقالها وأحمالها وهو ينتظر الفجر لعله يأتي بالبشرى لوعة يصورها يوسف عليه السلام في سجنه وهو يقول: ﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ﴾ [يوسف: 100]، وهو يتذكر جميل فضل الله عليه فيذكُر أول ما يذكر خروجه من سجنه وحبسه وقيده.
سجن الدنيا يُكابد فيه نوحٌ تكذيبَ قومه، ويعاني فيه إبراهيم جحود والده وذبح ولده، ويُبتلى فيه يعقوب فيفقد قرَّة عينه، ويُقاسي فيه موسى ظلم فرعون وجبروته، ويتألم فيه محمد صلى الله عليه وسلم من صدود عشيرته وقومه.
الدنيا سجن الصالحين؛ فكم نُغِّص فيها على أولياء الله تعالى! فسُجن يوسف، وحُبس يونس في بطن الحوت، وأرادوا فيها حبس النبي صلى الله عليه وسلم؛ ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
ولعلنا هنا نتساءل: متى ساعة الإفراج من هذا السجن؟ ومتى سيُكسر ذلك القيد؟
وتأتي الإجابة كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مُضغة مثل ذلك، ثم يبعَث الله ملكًا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد)).
فالأجل وساعة الموت هو توقيت لحظة الإفراج من ذلك السجن، نعم هكذا فهم الأنبياء والصالحون؛ ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت وهي تحدِّث عن ساعة احتضار النبي صلى الله عليه وسلم: ثم أفاق فأشخص بصرَه إلى السقف ثم قال: ((اللهم الرفيق الأعلى))، قلت: إذًا لا يختارنا، قالت: وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدِّثنا به وهو صحيح في قوله: إنه لن يُقبض نبيٌّ قطُّ حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخيَّر، قالت عائشة: فكانت تلك آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم الرفيق الأعلى))، وكأنه عليه الصلاة والسلام ينظر إلى ساعة الإفراج من سجن الدنيا وهو يقول لربه: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].
ويؤكد مفهوم الإفراج من سجن الدنيا عند الموت ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال: ((إن عبدًا خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهره الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده))، فبكى أبو بكر وقال: "فديناك بآبائنا وأمهاتنا"، فعجبنا له وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن عبدٍ خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيَّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به.
فاختيار النبي صلى الله عليه وسلم للموت وتقديمه على غيره من خيار يُشعرك بأن هناك فسحةً بعد هذه الدنيا أوسع وأرحب، وخصوصًا للعبد الصالح، وهنا نطرح السؤال الثاني الذي ينبغي أن يسأله كل مسلم: إلى أين بعد الخروج من السجن؟ هل إلى جنة؟ أم إلى غيرها؟
فتأتي الإجابة كما في الصحيحين من حديث أبي قتادة بن ربعي أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ عليه بجنازة فقال: ((مُستريحٌ ومستراحٌ منه)) قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: ((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)).
لقد فهم الصحابة والتابعون من بعدهم حقيقة سجن الدنيا، وعرفوا ساعة الإفراج، وفهموا أين المصير من بعد ذلك السجن، فتسمع أن أحدهم حين يُقتَل في سبيل الله يرفع صوته ويقول: "فزت ورب الكعبة" وكأنه يتخيل لحظة كسْر القيد، بل ربما يفرح كفرح بلال رضي الله عنه وهو يقول ساعة موته: "غدًا نلقى الأحبة محمدًا وصحبه".
أما نحن فنُكثر من شراء العقارات في سجن الدنيا، ونبني قصورًا في سجن الدنيا، وكثيرًا ما ننشغِل بصيانة ذلك السجن وتلوينه وتزويقه، بالله عليكم هل رأيتم سجينًا يَبني ويُلوِّن ويشتري في السجن؟!
مهما بلغ شأن الإنسان في هذه الدنيا فهو في سجن إذا ما قورن بما عند الله - جل في علاه - فلا تتعلق كثيرًا بالدنيا ومُتعتِها وزينتها، فكلها زائلة مؤقَّتة، وستنتهي الدنيا ساعة الإفراج والخروج من قيدها، لما تُوفي صلاح الدين الأيوبي رأى فيه بعض أصحابه رؤيا يوم موته فبشَّر الناس وقال: لقد سمعتُ قائلاً يقول: لقد خرج يوسف من السجن، فأوَّلوه بشارةً لصلاح الدين بأن الله قد قبل عمله.
اللهم اجعل خير أعمالنا آخرَها، وخير أيامنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.

اكتب تعليق

أحدث أقدم