رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن العدل

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن العدل



بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
كان مصطلح "العدل" - وما يزال - من أهم المصطلحات في تاريخ الإنسان، وهو مصطلح شاملٌ يتضمَّن العدلَ بين الحاكم والمحكومين، وبين الفرد والجماعة الكبيرة، وهي المجتمع، والجماعةِ الصغيرة، وهي الأسرة، بل إن الإنسان مطالَب أن يعدل في حق نفسه ولا يظلم نفسه، وأن يعدل في حق الله فلا يشرك معه غيرَه؛ ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]، ﴿ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ﴾ [الطلاق: 1].
وفي فقه السياسة الشرعية أن الحاكم العادل - غير التقيِّ - أفضل للأمة من الحاكم المسلم الظالم، وقد علَّل فقهاء السياسة الشرعية ذلك بأن الحاكم العادل للأمة عدل للأمة، وعليه فسقُه، وأما الحاكم الظالم، فعلى الأمة ظلمُه، وله دينه أو تقواه الشخصية!
• والأمة الظالمة يُسلط عليها من يهزمها، حتى ولو تظاهرت بالإيمان، بينما يمهل الله الأمة الكافرة العادلة.
والحضارة الحديثة ما ضلَّتْ إلا عندما نظرتْ إلى "العدل" نظرة تمزيقيَّة، فقررتْه في بلادها وبين مواطنيها؛ إدراكًا منها لأهميته، ولكنها ظلمت الشعوبَ الضعيفة واحتلَّتْها وأذلَّتْها، وفرضت عليها التخلف والتبعية، وحَرَمتْها من التعليم والإبداع الكفيلين بتقدمها، بل إنها تظلم - نسبيًّا - العناصر الوافدة على بلادها، وتمنعها من تكوين المؤسسات الكفيلة بحماية هُويتها، فعدْلُها عدلُ مصالح، وليس عدلَ عقيدة وأخلاق.
• لكن "العدل" في الإسلام ركن من أركان تنظيم الإسلام للحياة، وهو مقصد من المقاصد الشرعية التي يجب أن تدور الأحكام في فلكها، فحيثما تحقق العدل فهناك شرع الله، ولا يمكن أن تتعارض هذه الأحكام مع هدف كبير من أهداف الحياة، والبشرية بتجاربها النسبية تريد عدلاً نسبيًّا لا يضر بمصالحها، لكن الإسلام الذي جاء رحمةً للعالمين، والذي يعلن أن الإنسانية في خُسْران مبين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر في إقامة الحق، هذا الإسلام يقيم دعائم الحق مع الحبِّ والكره، ومع النفع والضرر، ومع المصلحة وانعدام المصلحة، وبين المرأة والرجل، والفرد والمجتمع، وفي الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على حد سواء.
• وقد درج الناس على استعمال كلمة "العدل" في مستواها السياسي والاجتماعي، وكثيرًا ما يقيمون الثورات والنقابات والأحزاب من أجل جانب واحد من العدل، وبالتالي يتم التركيز على هذا الجانب؛ فيقع الظلم في الجوانب الأخرى.
• وانطلاقًا من تجربة العصور الوسطى الأوروبية ركَّز الغربُ على العدل الاقتصادي والاجتماعي، فأخطأ الطريق؛ لأنه تصوَّر أن الفرد هو الذي يظلم المجتمع، فسحَق الفرد تحت مظلة الشيوعية، وتصور - مرة من خلال تجاربه النسبية - أن المجتمع هو الذي يظلم الفرد، فسحَق المجتمع والأخلاق تحت مظلة الرأسمالية، وأصبح مفهوم "الحرية" كرَةً يتداولها الفريقان كأنهما في ملعب!
بَيْدَ أن الإسلام وازَنَ في عدْله بين جميع القوى الفاعلة في الحياة، وأعطى كلَّ ذي حق حقَّه، فأصبح مفهوم "الحرية" منضبطًا متوازنًا لا يطغى فيه المجتمع على الفرد، ولا الفرد على المجتمع، وأصبح مفهوم "المساواة" مفهومًا شرعيًّا مرتبطًا بالعدل؛ فالعدل هو الميزان الذي يضبط حركة الحرية وحركة المساواة، وهو أيضًا الضامن لتحقيق إنسانية كل الناس وكرامة البشر كلها.
• • •
• لقد جاءت تعاليم الإسلام تكرِّم كل الناس بصفاتهم الإنسانية، بصرف النظر عن أصولهم وألوانهم وأديانهم؛ يقول الله - تعالى - في القرآن الكريم: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70]، ويقول الله أيضًا: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4].
• ويقرِّر الإسلام في شريعته العدل لكل الناس، بصرف النظر عن أجناسهم وأديانهم، ومدى قُربِهم من الإنسان أو بُعدهم عنه؛ يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، ويقول الله تعالى أيضًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
وإذا كان الإسلام قد قرَّر كرامة الإنسان وأفضليته بصفته الإنسانية المطلقة المجرَّدة، كما أنه قرر العدل بين كل الناس بصفتهم الإنسانية، بعيدًا عن النظر إلى أديانهم وأجناسهم - فإنه قد قرَّر أيضًا حرية الإنسان الدينيَّة بصفة خاصة؛ حيث إن جوهر الأديان الصحيحة النازلة من السماء واحد لا يمكن أن يتناقض؛ يقول الله - تعالى - في القرآن للرسول - عليه السلام - مؤكدًا هذه الحقيقة ومعترفًا بهذه الأديان السماوية الصحيحة السابقة، ومطالبًا كل الأديان: (الإسلام والمسيحية واليهودية) بالاحتكام إلى الحق والعدل؛ يقول تعالى: ﴿ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [فصلت: 43]، ويقول: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48]، ويقول: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
فالإسلام مكمل للأديان السابقة وخاتم لها، ومطهِّرها مما أصابها من أهواء الناس، والمُدافع الأعظم عن كرامة كل الأنبياء - عليهم السلام - ومصداقيتهم، بالإضافة إلى هذه النظرة الكريمة السمحة إلى الأديان السابقة، يؤكِّد الإسلام - عبر آيات قرآنية، وأحاديثَ نبويةٍ كثيرة - حريةَ العقيدة لكل الناس، فيقول الله في القرآن: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، ويقول القرآن أيضًا: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، ويقول: ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [الأنعام: 107]، ويقول: ﴿ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
• لقد أخذ الإسلام بمبدأ الحرية الدينيَّة قبل أن تعرفه دول الأرض جميعًا، وتقوم هذه الحرية الدينية في الإسلام على ثلاثة مبادئ:
1- الحرية في اختيار الدِّين.
2- الحرية في المناقشات الدينيَّة.
3- الإيمان الصحيح، ويكون مبنيًّا على إقناع واقتناع.
• وبالنسبة للمبدأ الأول، وهو: الحرية في "اختيار الدين" الذي يعتنقه "الإنسان"، فلا يُرغِم الإسلام أحدًا على ترك دينه واعتناق الدين الإسلامي.
• فقد سار المسلمون على هذا المبدأ في حروبهم، فكانوا يتركون أهل البلاد المفتوحة وما يَدِينون به؛ بشرط الولاء للحكومة الجديدة، وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في كتابه إلى أهل المقدس بعد فتحه: "هذا ما أعطى أمير المؤمنين إلى أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم ولكنائسهم ولصلبانهم، لا يُكرهون على دينهم، ولا يضام أحد منهم".
ومن آثار الحرية الدينية ما رسمه الإسلام من حسن معاملة الذميِّين؛ إذ يقول الله - تعالى - في كتابه العزيز: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الممتحنة: 8، 9].
• وبالنسبة للمبدأ الثاني، وهو: حرية المناقشات الدينية، فقد أتيحَت هذه المناقشات للمسلمين ولغير المسلمين، حتى إن الخلفاء أنفسَهم كانوا يشتركون في تلك المناقشات، ويقول الله في القرآن الكريم: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ [العنكبوت: 46]، ويقول لأهل الديانات غير الإسلامية: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111]، ويقول - سبحانه وتعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].
• وبالنسبة للمبدأ الثالث، وهو: الإقناع والاقتناع قبل اعتناق الدين الإسلامي؛ بحيث لا يرغم أحد على ترك دينه؛ لأنه لا جدوى من الإيمان بغير اقتناع؛ فالمسلم إذا كان ضعيف الإيمان، مُخلخَلَ العقيدة، لا يمكن الاعتماد عليه أو الاعتداد به! فكيف بإرغام غير المسلم؟! إنه لا يجوز بمنطق الإسلام!
• ولذلك يحثُّ الإسلام على التفكير العقلي الجاد في مخلوقات الله، والإيمان إيمانًا صحيحًا سليمًا، فقد رأى بعض الفقهاء أن إيمان المقلِّد غير صحيح.
• ويقول الإمام محمد عبده في ذلك: "إن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وإن المرء لا يكون مؤمنًا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به".

اكتب تعليق

أحدث أقدم