الاستاذ الدكتور إبراهيم محمد مرجونة يكتب .. شغلل علشان تعدي... الدعارة الفكرية

الاستاذ الدكتور إبراهيم محمد مرجونة يكتب .. شغلل علشان تعدي... الدعارة الفكرية

 


 

مقال بعنوان: شغلل علشان تعدي... الدعارة الفكرية.

 ا.د إبراهيم محمد مرجونة

استاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية الآداب ، جامعة دمنهور

يقول صلاح جاهين :

مين اللي كوّر الكرة الأرضية

مين اللي دوّرها كده بحنية

مين اللي في الفضا الكبير علّقها

ما تقعش منها أي نقطة ميه

مين اللي عمل البنى آدمين

مفكرين ومبدعين

مين اللي إدانا عقول وقلوب

وشفايف تسأل هو مين؟،،،،،،وعجبي.

في ظل التحولات العلمية التكنولوجية الرهيبة التي يقف أمامها العقل تارة متأملاً وأخرى عاجزًا نجد من  يخرج علينا يطنطن بجدل بيزنطي وفلسفة فارغة وادعاء العارف بكل المعارف عن تفسيرات ليست بالجديدة فلو كان قارئ لبضعة اسطر لأكتشف أن المكذبين الاوائل سبقوه إليها منذ مئات السنين بل مع بداية الدعوة نفسها ،ولو جادله أحد في مجال تخصصه لانتفخت أوداجه وأحمر وجهه وغضب لأن المتحدث ليس أهلا للحديث وفي زمن عجب العجاب نسمع آراء ووجهات نظر في الدين ممن يصعب عليهم تلاوة آية بطريقة صحيحة إلا من رحم ربي، والسؤال المطروح ماذا حصلت من علوم فقهية لتفرز وتخرج آراء واجتهادات وفتاوى؟!

وكأن حال وشعار راغبي الترند والشهرة وادعاء حمل مشاعل التنوير والثقافة غير المسبوقة "شغلل علشان تعدي" ، شغلل أفكارك ومعتقداتك وآراءك علشان تفوت في عالم التريندات الزائفة.

ففي الآونة الأخيرة وجدنا من تشكك وارتاب ومَن نظروا إلى واقعة الإسراء والمعراج ، من زاوية النبي كإنسان، ونسوا تأييده بالوحى، والخالق من فوق الوحي  ، فهناك من نظر إليها من زاوية الخالق العظيم، مثل الصحابي الجليل أبوبكر الصديق الذى رد على المشككين والمرتابين قائلاً: «والله لئن قال هذا الكلام فقد صدق، فوالله إنه ليخبرنى أن الخبر يأتيه من الله من السماء إلى الأرض فأصدقه».

أبوبكر الصديق كان متأملاً عميقاً للقرآن الكريم، وتعليقه على الواقعة يشهد على التفاته إلى الإيمان بقدرة الله وأن النبى بشر لكنه مؤيَّد بالوحى، لذا فقد كان تصديقه قائماً على المنطق الموضوعى والقياس المنهجى، فهو يصدق النبى حين يسمعه يتلو عليه الكلام الذى نزل من السماء، فمن البديهى أن يصدقه فى أمر شديد البساطة بالقياس إلى ذلك، يتمثل فى الإسراء به صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

وينقلنا حديث أبى بكر إلى «واقعة المعراج» التى صدّقها الصحابى الجليل أيضاً بلا تردد، فمن يأتيه الخبر من السماء ويتنزل عليه كلام الله الذى عجز أهل الأرض عن الإتيان بمثله، يصح أن يخوض رحلة علوية كتلك التى يؤمن كل أصحاب الديانات بأن أمين الوحى جبريل خاضها وهو ينقل كلمة الله إلى أنبيائه الذين اصطفاهم لإبلاغ رسالته إلى أهل الأرض.

واقعة المعراج والرحلة العلوية التى هيأها الخالق العظيم للنبى توجد إشارات متنوعة إليها فى سورة «النجم»، وهى الرحلة التى بلغ فيها النبى ما لم يبلغه غيره ورأى ما لم يره سواه، لقد أراد الله تعالى له أن يرى من آياته الكبرى «مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى».

الإسراء قطعي الثبوت بآيات  سورة الإسراء. والمعراج ظني الثبوت بآيات سورة النجم ....إذن لماذا يتم افتعال هذه المعارك الفكرية على المشاع وفي وسائل التواصل الاجتماعي ،والجميع يتبارى في تقديم نفسه على أنه ترعة المفهومية وفيلسوف التنوير؟!

والصادم أن من ينادي بحرية الرأي والمعتقد والفكر هو نفسه لا يطيق مجرد مخالفته في الرأي ويظن أنه العارف بكل المعارف ويشفق على الاخرين لجهلهم من وجهة نظره  ولا يفرق بين حديث العوام والخواص ولا حتى المتلقي وقدراته الذهنية فتحدث بلبلة خصوصاً لدى الشباب الفقير في ثقافته الدينية فيتحول قطيع منهم إلى الإلحاد وآخر إلى التطرف الدموي الداعشي  ثم بعد ذلك نبكي على اللبن المسكوب. اعتنق ما شئت ، وأذهب حيث أردت ولكن لا تفسد في الأرض، فلم نرى في بلاد الغرب الأوربي أصحاب القيادة والريادة الفكرية للبعض  ، التشكيك في ثوابت المعتقدات والديانات، وهناك دوائر محددة غير معلنة طبعاً هى فقط المسموح بالابحارفيها  لمن أراد حتى إعلامهم موجه ، وحريات وحقوق معلنة تكذبها الأفعال والتصرفات في غير موقف.

"قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)"

صدق الله العظيم

إن قوة الفكر قادرة على احداث المرض والشفاء منه وهذا قول ابن سينا، فالمفكر في تعريف مبسط له يمكن أن يستدل عليه من ثلاثة أنواع : شخص يحمل عديد من الأفكار والنظريات ذات المعرفة الواسعة، الشخص الذي تكون مهنته (العلم، الطب، القانون، الأدب… الخ) وينهمك في إنتاج ونشر الأفكار، شخص ذو خبرة فنية وثقافية بارزة تمنحه وزن ومكان مرموق في الخطاب العام.

إن المثقف الذي يرتقي لدرجة مفكر ليس فقط حامل شهادات أو قارئ كتب، أو الشخص الذي يملك القدرة على الكتابة والتحليل. بل هو من يتأثر ويؤثر في المجتمع عبر كتاباته وانتاجاته الثقافية. هو ذلك الكاتب، المحلّل، الفنان، الأديب، المفكر،والعالم الذي ينتج رأياً، ويصنع أفلاماً وقصائد تساهم في بناء الوطن وتأصيل الهوية. إنه ليس ذلك التاجر الذي يبيع قلمه من أجل المال، أو المنصب، أو من أجل نصرة طائفته. بل هو من  يتعاقد مع الضمير، من أجل أفكار تحمل مبادئ وقضايا ورؤيا للإنسان يمتلك ادوات البناء لا معول الهدم والتشرذم.

واجب المثقف تجاه وطنه ليس كواجب أي مواطن آخر. واجبه أكبر من غيره بكثير. كلّما اتسعت ثقافته، وترسخت قدرته على التأثير، زادت مسؤوليته في التغيير. الخطأ الذي يرتكبه أكبر من أخطاء الآخرين، وخيانته أعظم من خيانة الآخرين.

المثقف هو الإنسان الذي لا يرضى بالواقع كما هو، بل ينطلق منه من أجل تغييره. هو يتخطى الحدث، يسلك طريقاً محفوفاً بالخطر، من أجل أن يفتح الدروب، ويصنع التاريخ. فالمفكر عليه أن يحرك المياه الراكدة ويحدث تغير في الخريطة الذهنية في المجتمع المحلى والإقليمى والدولي، وينقش ابداعاته نقشا فرعونيا يستحيل طمسه، وبه ينصلح المجتمع ، ولكن ليس الابداع ان تتفرغ لمعارك طواحين الهواء وهدم الثوابت وطمس الهوية وزعزت الامة والعمل على تفريقهم المثقف الحق يحترم العلم والعلماء حاملين هذا العلم فليس كل من قرأ في الطب صار طبيب ولا كل من قرأ في الدين أصبح عالم دين لا اجعله حكرا على احد وفي الوقت ذات ليس مشاع لكل من هب ودب ، امتلك أصول العلم ومنهجه وجادل حيث شئت.

أما المثقف البراجماتي صاحب الدعارة الفكرية فهو يمثل ابشع واحط واقذر أنواع العهر الذي يفوق دعارة الجسد فالدعارة الفكرية بيع للمواقف وتكسب من التبدلات وفتح للغرف على مصراعيها لكل الاطراف وجني المال الحرام من كل راغب في صناعة الكيف الفاسد او الحالة المزاجية المزيفة، بل يتساومون على بيع الوطن بثمن بخس , يبيعون أفكارهم وابداعاتهم إن وجدت علنا وبدون حياء او خجل مطبقين (اذا لم تستح فاصنع ما شئت) واسمحوا لي ان اقارن هذه الدعارة مع دعارة بيع الجسد لا تشجيعا او تأييدا بل مقارنة, لأبين لكم كم ان الدعارة الفكرية هي اقبح واذل وادنى من دعارة الجسد, التي هي ايضا مذمومة بينما دعارة الجسد لو قارناها بدعارة الفكر فهي اقل ضررا بالرغم من انها ايضا مؤثرة على القيم والاعراف والمجتمع ان دعارة الجسد بيع للشرف بدون تمييز ومرض اجتماعي خطير, الا انها في النهاية قرار شخصي لا يؤثر على الاف البشر كما تؤثر الدعارة الفكرية التي يمكن ان تضر بملايين البشر, حتى لا يجوع ممارسوها ويأكلون باثداء الناس ان دعارة الجسد اخف وطأة واقل حدة .وهي في النهاية بين امرأة ورجل او بين الشواذ في حين ان الدعارة الفكر اشد قسوة واكثر ايلاما واعتى خطورة.

والأسوء عندما يتقلد أصحاب الدعارة الفكرية المناصب العليا وتغلق الأبواب ويحتمي صاحب الفكر الفاسد بمنصبه أو يمتلكوا أبواق إعلامية وينسج له خياله المريض قصص وحكايات يوظف فيها ما لديه من فكر وثقافه وموروث في صناعة المكائد والدسائس بأسلوب علمي ومنهجي كي يجني ثمار ويحصد مكاسب في عمليات غسيل الأفكار وهى أقرب إلى غسيل الأموال.

فانه من غير المقبول على الإطلاق أن يكون حملة التنوير ومصابيح الهدايه للمجتمع يمارسون دعارتهم على الورق والصحف وفي وسائل الاعلام, وفي مؤسساتهم التعليمية والأكاديمية حيث وثق فيهم الرأي العام, واعطاهم بمضي الوقت المصداقية, وتوهم انهم منزهون عن التبدلات غير المبررة وعن بيع الافكار وتزييفها وعن الارتشاء العقائدي وعن ادخال الاراء والمواقف في مزاد لمن يدفع اكثر.

والخلايا السرطانية للدعارة الفكرية انتشرت وتوغلت في كيان البعض ونفوسهم بل لا ابالغ ان قلت أن البعض تجرؤوا على الذات الإلهية تحت مسمى الإبداع وحرية الفكر والتنوبر من وجهة نظرهم، علينا أن نتأدب ونهذب نفوسنا ونرتقي بأفكارنا.

وأخيراً وكما يذكر غاندي : الانسان ما هو إلا نتاج أفكاره فما يفكر به، يصبح هو.

وعلينا جميعا ادارك حقيقة أن المثقف من يستطيع عقله مراقبة نفسه.

 

اكتب تعليق

أحدث أقدم