بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
عندما يستغرب البعض طرحي لهذا العنوان، فإنهم إنما يستغربون لأنهم يرون أن الإعلام لا يعني القتال والتصارع وضرب الخصم، ولكنهم حين يشاركونني الرؤية بهذه الجزئية الإعلامية، فأظننا سنتفق سوياً بأن معناها ومدلولها سَليمان ناضجان واقعيان.
في لعبة الجودو - ومنها الرياضات القتالية والدفاعية الأخرى كالكاراتيه والتايكواندو والكونغ فو - إذا تحدثنا بلغة الفرص والتوضيح المثالي، فإننا أمام هذه المعطيات:
• إذا كان خصمك مستعداًّ، ثابتاً، واعياً لتحركاتك، وكنت أنت مثله، فإن الفرص في إصابته تعادل فرصه في إصابتك، أي (50%) لك، و(50%) له.
• وإذا كان خصمك مستعدا لمواجهتك، ثابتاً، ولم تكن على ذات المستوى من الجاهزية له، فإن فرصه في إيذائك تفوق ما لديك من فرص، حيث إن فرصه في ضربك سترتفع نسبتها إلى (60%) أو (70%) أو حتى (100%) في الوقت الذي تتهاوى فيه فرصك أنت (40%) أو (30%) أو (0%).
• وإذا نظرنا نظرة معاكسة، بأن كنت مستعدا جاهزاً للقاء خصمك، وكان خصمك غير متأهب للقائك ونزالك، فإن الصورة عندئذ ستنعكس ولا ريب، إذ ترتفع فرص إيذائك وضربك له باستمرار، وتنخفض نسبته وفرصه هو تبعاً لذلك.
فلنترك الصورتين الأخيرتين لأنهما معلومتان بداهة، ولنتوجه إلى الحديث عن الصورة الأولى، وهي موضع الشاهد فيما أريد وأصبو.
ففي حالة كون خصمك مستعداًّ للقائك، عالماً باستعدادك للقائه، وكنت أنت على شاكلته من الوعي والاستعداد لهذه المواجهة، فإن تكافؤ الفرص هنا ليس محتماً بالضرورة، وهذا لب الموضوع ومحور الحديث، إذ أن استعداد كل طرف وجاهزيته ليستا سمتان محدودتان ينبني عليهم النصر أو الخسارة، بل إن هناك عاملاً حيويا هو الفيصل في مثل هذا الأمر.
هذا العامل الأساسي هو التكتيك أو المنهجية التي يرسمها كل طرف لإصابة خصمه دون أن تلحق به أضرار، أو بأقل الأضرار المتوقعة في أسوأ الأحيان.
فبراعتك، وخبرتك، وحنكتك، ومهاراتك الرياضية لا بد أن تقودك إلى حالة تجعل فيها خصمك مزعزع الثبات، متردد الخيارات، مشتت الذهن، فيما تحتفظ أنت بهدوئك واتزانك وجاهزيتك، عندها فقط يمكنك أن تقوم بالمراوغة النافعة، والحركات التخويفية دون ضرر، مما يؤهلك لاقتناص الفرصة السانحة لتوجيه الضربة الأولى لخصمك، والتي إن أحسنت توجيهها إلى حيث تريد؛ كسبت الجولة الأولى وراهنت على ما بعدها تلقائياًّ.
نعم، لأن الخصم إذا لم يستطع رد الضربة الأولى، فإنه يتوقع نفسياًّ أن خصمه قادر على إعادة الكرة وضربه من جديد، فيكون حماسه لصدها أقل، وقدرته الذهنية على صد الهجمات التالية ليست بكفاءته في الأولى.
وحتى لا أستغرق في الصورة، وشرح تفصيلاتها، فإن العمل الإعلامي في جميع مراحله.. وبالذات في الساحة الفلسطينية.. لن يتيح لك أن تكون متصدر الساحة الإعلامية دون أن يقدم لك ألف خصم ومعاند، ومخالف لك في التوجه والرؤية، ومن هو صريح بعدائك واستخطاء نهجك ووسائلك وأهدافك، فهذا يمثل على ساحة الحدث الإعلامي خصماً لك لا بد أن تكون على أهبة الاستعداد لملاقاته.
والتغلب على خصمك الإعلامي، لا بل خصومك الإعلاميين إذا كثروا وتعددت آراؤهم ورؤاهم المخالفة لك ليس مستحيلاً ولا صعباً، فالعمل الإعلامي متى تحققت فيه عناصر النجاح ومؤشرات القوة كانت الغلبة لمن أبدع في الأداء وإيصال الرسالة بكل وجوهها.
المسألة باختصار أن محور النصر هو ثباتك، نعم، ثباتك أنت في هذه المواجهة.
فكما أنك مستعد للقائهم، فهم كذلك مستعدون للقائك، وكما أعددت أعدوا، كما رتبت أوراقك قاموا هم كذلك بترتيب آرائهم وأفكارهم لنزالك، وهنا، تساوت الفرص أمامكم، وحاز كل طرف على ما نسبته (50%) للحسم في هذه الجولة، وبقي أن يقوم العنصر الأقوى بانتهاج التكتيك الإعلامي اللازم لزعزعة الخصوم أو توتير صفهم أو خلخلة حالتهم النفسية، ليتم الانتقال بعد ذلك إلى مرحلة الهجوم المباشر.
وكما هو الحال في لعبة الجودو، الحال هنا كذلك، فلا بد لك من المحافظة على هدوئك واتزانك، وعلى رباطة جأشك حتى تكون مؤهلاً لصد هجماتهم، والتعاطي مع أطروحاتهم كل على حدة، ولكنك ستكون الأقوى، وستصبح المؤثر الأكبر إذا تمكنت من نقل عدوك من مربع إلى مربع.
نعم، دورك الأول أن تنقل عدوك من مربع ثباته وجاهزيته وأوراقه المعدة لك إلى مربع آخر، هو مربع تبرير مواقفه، ومحاولته أن يدافع عن نفسه، وإرباكه أمام الرأي العام من خلال نشاطك الإعلامي المقصود ضد ما يطرح ويدعي، ويتحقق ذلك من أمور، فمثلاً:
أ) إذا قمت بإثارة لغط حقيقي مدعوم بالأدلة حول شخصية هذا الخصم.
ب) كشف موقف سلبي للخصم إزاء القضية موضوع النقاش.
ج) بيان مخالفته سابقاً لما يدعو إليه.
د) كشف تفاصيل تتعلق بمواقف من يمثلهم هذا الخصم في الحدث موضوع النقاش.
ه) إزاحة الستار صراحةً أو تعريضاً حول وجود بلبلة في صف خصمك وفي تياره.
و) مباغتة خصمك بسؤالٍ مباشر حول قضية أو أكثر لها دلالات ولو بعيدة على الحدث موضوع النقاش.
إنك إذا قمت بهذه الأمور أو بعضها على أقل تقدير، تكون قد أجبرت خصمك على أن يبرر موقفه الشخصي أو التنظيمي إزاء ما قمت بطرحه، وألزمته رغماً عنه بأن يبدد الوقت المخصص له في البرنامج أو اللقاء في تفنيد ما قمت بطرحه أو إثارته من تساؤلات وأطروحات، وبالتالي، تكون قد أجبرت خصمك إلى ترك ما بيده من أوراق، وما جاء مستعداً له من حوار، لينتقل إلى مربع الارتجال والمواقف الآنية والتبريرات غير المدروسة وغير المتوقعة في ذات الآن الذي تحتفظ فيه أنت بقوتك وصلابتك وأوراقك وجاهزيتك لما عندك ضده أو ضد مواقفه، وهذه غلبة محققة، ونصر يضاف إلى رصيدك ضده.
فمن المعلوم بداهة أن الإنسان الذي يتحلى بالاطمئنان الداخلي إذا ما استجمع أفكاره، انطلق على بصيرة في خطاه وتحركه، ولكن الصورة ستكون معكوسة إذا ما دخل الإنسان إلى نفق الدفاع عن نفسه أو عن فكرته في مواجهة خصم متربص، أو خصوم من ذوي الحنكة والدهاء.
والانتقال بالخصم إلى هذه الزاوية - عدا عن كونه تخريباً مباشراً لبرنامج أدائه - يعتبر سحباً قسرياًّ لهذا الخصم إلى ساحة الفوضى الذهنية، فهو أمام تحدٍ جديد، وموقف جديد، ومسألة مستحدثة، تتطلب منه أن يستحضر ذهنياًّ كل ما لديه بخصوصها، وأن يميز بين ما ينفعه فيها وما يضره، وما ينقذه منها وما يعيبه فيها، ليقع تحت عواصف الاختيار بين التردد والإقدام.
هذا الأمر له مردودان مباشران:
الأول: أنك قد ألغيت حقيقة قوة خصمك وجاهزيته للهجوم ضدك، وزعزعت موقفه وأربكته.
والثاني: أنك وضعته أمام الرأي العام في حالة من التشتت الذهني، وفوضى الإجابة، وارتجالية المواقف والردود، الأمر الذي سيزيد مساحة خطئه، وسيقلل مساحة تركيزه، وهو ما يعني فرصة إضافية لك لبيان ضعف خصمك وتردده وتيهه، وهو معنى النصر المستور.
وبنظرة مغايرة معاكسة، فإن خصمك سيسعى هو الآخر إلى اللعب على هذا الوتر، وسيعمل جاهداً حتى يوقعك في نفس الفخ، فهذه لعبة قد باتت مكشوفة عند رواد العمل الإعلامي، والمتمرسين على أداء رسالتهم وسط التناقضات والمتعارضات.
وبناءً عليه، فإن فهمك المسبق لهذا الأسلوب - الذي يتَّبع وبشكل مستمر ومن خلال جميع وسائل الإعلام - يعطيك مساحة استباقية للتفكير قبل بدء البرنامج بالإعداد الذهني للثبات الشخصي إزاء أي أمر قد تتم إثارته، لاسيما أنك ملتزم - كمسلم - بالصدق وتحري الدقة والموضوعية فيما تطرح، وغيرك يحتكم إلى مزاجه وهواه ولا مانع عنده من الكذب والافتراء، ولو كانت الحقيقة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء.
وهنا، يشير علماء النفس أن الاستعداد الذهني والنفسي المسبق التعامل مع الطوارئ والمستجدات، مهما كان نوعها؛ يعطي الشخص قدرة أعلى على التعاطي معها بإيجابية، والقفز فوق صخورها المتدحرجة بكل ثبات.
ثباتك هنا ثبات لفكرتك، وضعفك له المردود الذاتي عليها.
إرسال تعليق