رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن قول الله تعالى( الحمد لله رب العالمين )

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن قول الله تعالى( الحمد لله رب العالمين )

بقلم \ المفكر  العربي الدكتور خالد محمود  عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس  ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين 
"الحمد لله":
[1]: شعور جميل يفيض به قلبُ الإنسان عندما يستعرض نِعَم الله وأياديَه لديْه، فلا يملك إلاَّ أن يقول: "الحمد لله".
الحمد لله: ثناء من العبد على الله تعالى بما أوْلاه من النعم الجليلة، والأيادي السابغة.
الحمد لله: إقرار من العبد لله تعالى بأنَّه أكرمه بنعمِه المختلفة الشأن، ما عرف منها وما جهل، وما ذكر منها وما نسي، دونما استحقاق منه لها، بل ابتداءً منه - جلَّ جلاله - جودًا وكرمًا.
وهكذا، فالإنسان المسلم عندما يتلو هذه الآية، فإنَّه في الحقيقة يقوم بعمليَّة استرجاع لجملة من النعم الإلهيَّة، واستذكار لمجموعة من الآلاء الرَّبانيَّة لديه الَّتي استطاع أن يحيط بها علمًا، وأن يفهم لها معنى، هذه النعم الكبيرة والآلاء الجليلة التي لا يأتي عليها الإحصاء - وإن جهد الإنسان جهده في ذلك - إنَّما تترجم في الواقع مكانة هذا الكائن الضئيل المسمَّى "الإنسان" في هذا الوجود الكبير؛ أي: تلك العلاقة الدقيقة والعميقة التي تربطه بالخالق - تبارك وتعالى - ومختلف كائنات الوجود وأشيائه.
إنَّني أحسب أنَّ النعم الكثيرة والآلاء السابغة التي منَّ الله تعالى بها على الإنسان وغيره من الكائنات التي يعجّ بها الوجود - تتحدَّد في ثلاثة معان:
�نعمة الإيجاد من عدم؛ فالله تعالى أوجد الإنسان وغيره من الكائنات الكثيرة الأخرى من عدم، دون وجوب عليه - سبحانه وتعالى - في ذلك، بل بمحض الجود والكرم؛ لأجل مهمّة محدّدة وغاية مقصودة، تلك هي مهمَّة العبوديَّة[2]، وما يريد به من الكرامة والمنزلة الرَّفيعة بين كائنات الوجود الأخرى، فهذه النعمة - نعمة الإيجاد من عدم - نعمة كبيرة ولا شكَّ، وما كان لهذا الإنسان أو لغيره من الكائنات الأخرى أن تخرج من ضمير العدم وطيّ المجهول لولا أمرُ الله تعالى وجوده ورحمته، والإنسان المسلم حينما يتذكَّر هذه النعمة ينطلق لسانُه قائلاً مترجمًا عن شعور ضميره الفيَّاض بتلك الحقيقة الكبيرة: "الحمد لله".
� نعمة الإمداد بمختلف النعم والآلاء، فالله تعالى خلق الإنسان وغيره من الكائنات الأخرى - كما قلت آنفًا - لأجل غاية سامية في هذا العالم، غاية العبوديَّة الخالصة لله تعالى، ولَم يخلقهم عبثًا؛ ومن ثمَّ أمدّه - وغيره من الكائنات كلٌّ حسب استعداده ومهمَّته - جلَّ جلاله بمستلزمات حسن القيام بتلك المهمَّة الجسيمة، وكلّ ما من شأنِه تيْسير النهوض بثقل المسؤوليَّة الملْقاة على عاتقه، فهناك الكون الفسيح الَّذي سخَّره الله تعالى للإنسان، والَّذي أضمر الله تعالى فيه كلَّ الإمكانات والذَّخائر والطَّاقات التي يَحتاجها الإنسان في مسيرة حياته، بل فوق حاجاته، ويسَّر له التعامُل معه واكتشاف حقائقه وأسراره العميقة؛ حتَّى يستطيع تسخير تلك الذخائر والحقائق الكونيَّة لصالح وجوده في هذا العالم، وتيسير سبل حياته على هذه الأرض.
وهناك طاقة العقْل الهائلة التي حبا الله تعالى بها الإنسان، والتي يستطيع من خلالها التعامل والتفاعل مع الوجود المحيط به بكلِّ أشخاصه وأشيائه ومشاهده وأحداثه، والإنسان المسلم حينما يتذكَّر هذه النعمة الجليلة لا يملك إلاَّ أن يقول وقد امتلأ بمشاعر الحب والتقدير لله تعالى: "الحمد لله".
� نعمة الإرشاد والهداية، فالله تعالى لم يترُك الإنسان أو غيره من مختلف الكائنات هملاً وفوضى بلا هداية ولا نظام، بل إنَّ الله تعالى - جودًا ورحمة - أمدَّه وغيره بنِعْمة الإرشاد والهداية بما يتوافق مع حقائق ومقاصد الحكمة الإلهيَّة في هذا الوجود، الوجود الدُّنيوي والوجود الأخروي، وهذه النعمة تتمثَّل في صورتِها الدُّنيا في المنظومة العقليَّة التي أكرم الله تعالى بها الإنسان، تلك المنظومة التي تعتبر شريعة الله تعالى المجْملة في كينونة الفطرة الإنسانيَّة، وتتمثل كذلك في صورتها الأرقى وحقيقتها الأسمى في الوحي الإلهي والمنهج الرَّبَّاني الذي حبا الله تعالى به الإنسان، ذلك المنهج الَّذي يعتبر نظام حياة إنسانيَّة فريدة وفاضلة، والذي يفضي بالإنسان - إن هو التَزَمَ تعاليمه عقيدة وسلوكًا ومنهاج حياة - إلى السَّعادة في الدُّنيا والفلاح في الآخرة.
تلك هي خلاصة النعم الإلهيَّة على الإنسان وأياديه لديه، وهي نعم وأياد تستجيش في ضمير الإنسان - حينما يسترجع ألطاف الله تعالى عنده - حشدًا هائلاً من المعاني الراقية والأحاسيس النبيلة، التي تقصر اللغة الجمهوريّة عن ترجمة حقيقتها، تجاه صاحب النعم ومبتدئ الآلاء - جلّ جلاله - دون أدنى استحقاق ووجوب؛ ولأجل ذلك لا يَجد الإنسان المسلم بدًّا من الحمد لله تعالى على ما أنعم به من نِعَمه الجليَّة.
إنَّ "الحمد لله" تعدّ في المنظومة الإسلاميَّة حقيقة من حقائق العقيدة الإسلاميّة؛ ذلك لأنَّ "الحمد لله" ليست تقال هكذا عفوًا، بل هي حقيقة قائمة على عقيدة شاملة ورؤية عميقة لحقائق الوجود وأسرار الحياة، المتمثّلة في حقيقة الألوهيّة وحقيقة العبوديّة والعلاقات الدقيقة القائمة بينهما.
إنَّ الإنسان في العقيدة الإسلاميَّة كائن مخلوق من عدم محض، وإنّما خرج إلى هذا الوجود بفضل رحمة الله - تعالى - وكرمه، ولغاية محدَّدة حدَّدتها العقيدة الإسلاميَّة في "العبوديَّة"؛ ومن ثَمَّ فهو لا يملك شيئًا من ذات نفسِه، بل خالقه - جلَّ جلاله - بواسع فضله وعظيم كرمه يمنُّ عليه بأفضاله وآلائه وأياديه السابغة، ليس في حدود الضروريَّات، بل تجاوز فضْل الله تعالى على الإنسان إلى مستوى الكماليَّات، وهو تجاوز متجلٍّ في كل شيء يُحيط بالإنسان ابتداءً من منظومتِه العقليَّة التي حباه الله تعالى بها، إلى المحيط الوجودي وما يحمل من ذخائرَ وطاقات، إلى الوحْي الرَّباني الَّذي أكرم الله تعالى به الإنسان، إلى ما أعدَّ له في الدَّار الآخرة.
ومن هنا؛ فالإنسان المسلم عندما يقول: "الحمد لله"، فإنّما يعبّر في الحقيقة عن منظومة عقيدتِه التي يؤمن ويرضاها منهاجًا في حياته.
ولقد تكون النَّتيجة الكبيرة لهذه الحقيقة - حقيقة أنَّ "الحمد لله" مؤسَّس على منظومة شاملة لحقائق الألوهيَّة والعبوديَّة والعلاقة القائمة بينهما - أن ينطلق الإنسان المؤمن في تفْعيل مضامين عقيدته والاستجابة لأشواق فطرتِه، والمجاهدة في تشييد حضارته، والتَّفاعل مع مختلف كائنات الوجود وأشياء الكون ومشاهد الطبيعة، في مستوى الإنسانيَّة الفاضلة كما أرادها الخالق تعالى، دونما إفساد أو استِكبار في الأرض، مستشعرًا أياديَ الحق تعالى أكرم الأكرمين عنده ومقدِّرًا لها.
فهو - لأجل ذلك - يحاول رفْع "الحمد والشكر لله" إلى المستوى اللاَّئق بهما وهو يُمارس فعاليات وجوده، بوسيلة إحسان العمل وإصلاح نشاطاته اليوميَّة دونما إفساد أو استكبار في الأرض؛ كما قال الله تعالى عن النَّبيِّ سليمان - صلَّى الله عليه وسلَّم -: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
وانظُر في المقابل إلى إنسان يكدح في حياته - وكل بني آدم كادح - وهو غير مستشعر لحقائق الألوهيَّة والعبوديَّة في ممارساته اليوميَّة، ومن ثم نضوب مَعين الإحساس الجميل في كيْنونته بنِعَم الله تعالى التي تشمل كلَّ شيء في هذا الوجود، إنَّ إنسانًا مثل هذا لا بدَّ أن يُفْسِد في الأرض ولا بدَّ أن يستكبر في الأرْض، ولا بدَّ أن يتنكَّب الطَّريق على هذه الأرض؛ لتكون النتيجة الحتميَّة لكل ذلك الإحساس بالفوضى والقلق والاضطِراب والعدميَّة والخوف من كل شيء، ولتكون النتيجة في الواقع الانحلال والأمراض والاستعلاء بالباطل واللّهاث وراء السراب، حياة بئيسة بائرة حرجة، وذلك جزاء الظالمين.
"ربّ العالمين":
ولقد يزيدُ في ترْسيخ تلك المعاني والحقائق والأحاسيس النَّبيلة في ضمير الإنسان المسلم، عندما يلفظ المفردة الثانية في هندسة الآية، مفردة "الرَّبّ" هذه المفردة التي تحمل في ضميرها معنَيين اثنين، الأوَّل: الملك للشيء والسيادة عليه، والثاني: إصلاحه والقيام على شؤونه، فتتجلَّى لعقله وضميره ورُوحه تلك المعاني الكبيرة والحقائق العظيمة والأسرار الدَّقيقة - على قدْر طاقتِه البشريَّة - التي تترجم العلاقة العميقة الجامعة بين الله تعالى وباقي المخلوقات في هذا الوجود، علاقة الخالقيَّة القائمة على الحبّ والرَّحمة والحنان، والمخلوقيَّة المؤسَّسة على الالتِجاء والخضوع والتواضع، ومن ثم تتضح لديه حقيقته الشخصيَّة، التي تعني مكانته الراقية في سلَّم كائنات الوجود العديدة.
وإنَّه لإحساس عذب رضي جميل، ذلك الذي يَجده الإنسان المؤمن يفيض في أعماقه وهو يتملَّى علاقة الله الملك الجليل ربّ الوجود جميعًا، تلك العلاقة الحبيبة الحنون المفْعمة حبًّا ومودَّة وسلامًا، إحساس الإنسان المؤمن أنَّ الله تعالى خلقه من عدم محْض بلا استِحْقاق ولا ضرورة، بل بواسع الرَّحمة والوجود والكرم، وأنَّه - تعالى وتقدَّس - يقوم على أمرِه كلِّه إصلاحًا وتربية وإرشادًا.
لعمرُ الحقِّ، ما أحسب أنَّ في هذه الحياة الدُّنيا شعورًا يضارع هذا الشّعور، وإحساسًا يفيض في ضمير الإنسان من الحبّ والتقدير والهدوء والسَّلام، مثلما يفيض ذلك الإحساس، وهل رُوح "العبوديَّة" إلاَّ هذه المعرفة وهذا اليقين؟!
"الحمد لله ربِّ العالمين":
إنَّ الله تعالى هو المالك لكلّ شيء في هذا الوجود، من أشخاص وأشياء وأحْداث؛ أي: العالمين، ومن ثمَّ فهو القائم على كل الخلق من أشخاص وأشياء وأحداث بالإصلاح والتربية والهداية، كلٌّ بحسب قابليَّته الفطريَّة واستعداده الوجودي، والإنسان المسلم حينما تتضح لديْه هذه الحقيقة، حقيقة القيوميَّة الإلهيَّة على كلِّ شيء والملكيَّة له وهو يتلو: {الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، يسترجع معاني الهيْمنة المطلقة والقدرة الشَّاملة لله تعالى في هذا الوجود الفسيح.
فهذا الوجود بكلِّ ما فيه من أشخاص وأشياء وأحداث، الله تعالى وحْده هو المالك والقائم والمهيْمِن على شؤونهم، ومن ثمَّ يستشعر الإنسان المسلم وشائِجَ القربى بيْنه وبين مختلف الكائنات الوجوديَّة في معنى الاستِسْلام لربِّ العالمين، فيرتقي إلى تلك الآفاق الفسيحة الَّتي تُتيحها له هذه الحقيقة، وينظر إلى الكلِّ [3] نظرة الاحترام والتَّقدير والحب والجمال؛ ذلك لأنَّه عرف أنَّ الكل صادر عن قدرة الواحد الأحد وإرادته المطلقة، وذلك هو معنى وجودِه – أي: الإنسان - في هذا العالم، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية يستشعر معنى الأمْن والسلام النَّفسي والفِكْري والوجودي جميعًا وهو يمارس نشاطاته الحياتيَّة وخبراته اليوميَّة في هذا العالم، بلا خوف ولا قلق واضطراب؛ لأنَّ هذا الوجود صار في مفهومِه وحسِّه وكيانه لا يملك مثقال ذرَّة في النَّفع والضّرّ بشتَّى أنواع النَّفع، ومختلف أنواع الضّرّ.
ومن جهة ثالثة تتحدَّد لديه حقيقة الوجود الإلهي بأسمائه وصفاته كإله مطلق، له الجلال والجمال والكمال؛ وبذلك ينجلي عن نفسِه غبش وأوهام تلك الجاهليَّات التي تصوِّر الوجود الإلهي تصويرًا لا يليق بمقام الألوهيَّة، تلك الجاهليَّات التي تنطوي تحتها الكثير من الأفكار والفلسفات والمذاهب قديمًا وحديثًا، والتي تعتقد - كما يقول أكابر مفكِّريهم وفلاسفتهم - أنَّ الله تعالى خلق هذا الخلْق وأبدع هذا الوجود ثم تركه يسيِّر نفسه بنفسه؛ لأنّه تعالى - زعموا - لا يفكر إلاَّ في الحقائق العُليا والأسرار العميقة، ولا يوجد إلاَّ ذاته التي تحتوي تلك الحقيقة، ومن ثمَّ فهو إله لا يفكر إلاَّ في نفسه؛ أي: إنَّه إله أناني - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - ألا أبعد الله الجهل والجاهليَّة حين يلبس لبوس الفكر والفلسفة والحكمة.
عندما يصل الإنسان المسلم إلى هذا المستوى السَّامق، وقد تحددت في نفسه حقائق الألوهيَّة ومعاني العبوديَّة، الألوهيَّة التي تعني الهيْمنة المطلقة لله تعالى على هذا الوجود بكلِّ ما فيه، من أشخاصٍ وأشْياء وأحداث، والرُّبوبيَّة لكلِّ ذرَّة فيه بل أدنى، والعبوديَّة التي تعني الافتِقار المطلق لله تعالى، سواء من لدُن الإنسان أم من غيره من باقي المخْلوقات الأخرى في كلِّ لحظة من لحظات وجوده في هذا العالم، لا جرم أن تَمتلئ كينونتُه بمشاعر الحمد والشُّكر لله تعالى، وأحاسيس الرِّضا والطُّمأنينة وهو يمارس وجودَه الإنساني في هذا العالم، وإنَّه لشعور جميل عذب يستشْعِره الإنسان المسلم وهو يقرُّ لله تعالى بالقيُّوميَّة على كلِّ شيء، وهو يقرُّ لله تعالى بالحمْد على ما أوْلاه من النعم والآلاء.
وهكذا ترْتقي نفسه في معارج العبوديَّة إلى المستوى اللائق بالكرامة العظيمة التي أكرم الله تعالى بها الإنسان، كرامة الوجود وكرامة الهداية وكرامة اللقاء الخالد، فلا جرَم إذًا أن يكون الحمد لله من ضمْن الباقيات الصَّالحات التي ترفع الإنسان إلى أعلى علِّيين في الدنيا والآخرة.
وهكذا نفهم لماذا تقدّم الحمْد لله سواء في هذه السورة أو في غيرها من السور؛ ذلك لأنَّ المعروف أنَّ الحمد - وهو الذي يعني حسن الثناء والمديح والتمجيد - إنَّما يقع من الإنسان بعد تلقِّيه منفعة من الغير، سواء كانت هذه المنفعة تقديم خدمة أو قضاء حاجة أو إسباغ نعمة أو تحقيق مصلحة، أو غير ذلك من أنْواع المنافع التي يحصل عليْها الإنسان من الغير، ولا يعقل - بادئ الرأي - أن تتقدَّم إلى شخْصٍ ما بالحمْد والشُّكر له دون أن يسبقَك هو بتقديم منفعة إليك.
إنَّ الإنسان المسلم وقد وقف بين يدَي الله تعالى في الصلاة، وبعد أن يستمدَّ منه - جلَّ جلاله - العون والتوفيق والإذن متفائلاً برحمة الله تعالى التي شملت كلَّ شيء، فأذنت له بالوقوف بين يدي الخالق - جلَّ جلالُه - وارتقى إلى تلك الآفاق السَّامقة، هنالك إلى الحضرة القدسيَّة حيث النور والصفاء والجمال والبهاء الأعظم، ومسترجعًا أيادي الحق تعالى لديْه - وما أكثرها وما أعظمها! وإن كان الإنسان الفاني كثيرًا ما ينساها - لا يملك إلاَّ أن يبتدئ بالحمد لله تعالى، الله الذي أكرمه بنعمة الوجود أوَّلاً، ونعمة الهداية ثانيًا، ونعمة التَّوفيق حتَّى وقف بين يديه الكريمتَين ثالثًا.
ولقد يزيد الإنسان المسلم هذا المعنى رسوخًا في أعماق كينونته ويفيض المشاعر النبيلة والأحاسيس الجميلة تجاه الخالِق تعالى، حينما يستشعر ذلك التَّجاوب الحبيب اللَّذيذ من لدن الحق سبحانه وهو يتلو آياته الكريمة.
ورد عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: قال الله تعالى: ((قسمتُ الصَّلاة بيْني وبين عبْدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله ربِّ العالمين، قال الله تعالى: حمِدَني عبدي، وإذا قال: الرَّحمن الرَّحيم، قال الله تعالى: أثْنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي - وقال مرَّة: فوَّض إليَّ عبدي - فإذا قال: إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين، قال: هذا بيْني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدِنا الصِّراط المستقيم صراط الَّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل))[4].
ولا تسأل عن السعادة الغامِرة التي تغمر كينونة الإنسان، وهو يخوض تلك التجربة الفريدة الحبيبة اللَّذيذة، والتي لا يستطيع ترْجَمَتها بكلمات اللغة الجمهوريَّة، إلاَّ أن يذهب بالكثير من معانيها وجمالها وأسرارها.
فإذا ترسَّخت تلك المعاني والحقائق في عقْل وضمير الإنسان، أذن له في متابعة التلاوة الكريمة لباقي آيات السورة العظيمة، محاولاً فهم جماليَّات الكلمة القرآنيَّة وهي تترجم تلك المعاني الخالدة، والحقائق العميقة المبثوثة في أعماق الوجود.
"الحمد لله ربِّ العالمين".
والله أعلم. 
ــــــــــــــــــــــ
[1] في القرآن وردت خمس سور تبتدئ بالحمد لله تعالى: "الفاتحة - الأنعام - الكهف - سبأ - فاطر"، وهي سور مكيَّة كلُّها، والعجيب أنَّ ذكر خلق السموات والأرض وكذا معالم الربوبيَّة لكل ما فيهما ورد في أربع سور: "الفاتحة - الأنعام - سبأ - فاطر"، وذكر إنزال الكتاب على الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورد مرَّة واحدة في سورة الكهف، تلك السورة التي توحي آياتها الأولى معنى ذكر إنزال الكتاب على الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو أمر له دلالته الموحية، فتأمله.
[2] قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
[3] لا يذهبن بك الظن مذاهبه فتظن بي الظنون، بل أنا أعني الاتحاد في جهة الصدور والملك والقيّوميّة الإلهيّة، وحتّى وأنت تبغض الكافر والفاسق فلأنَّ بغضك هذا ليس ناتجًا عن بغض لذات الشَّخص، بل هو في الحقيقة صادر عن عقيدة الكفر ومنهج الفسق الذي يتّبع الَّذين ظلموا أنفسهم؛ ذلك لأنَّك مطالب أوَّلاً أن تدعو هذا الكافر والفاسق إلى منهج الرَّشاد حبًّا لإنقاذه من غضَب الله تعالى وعذابه، وأنت مطالب ثانيًا بحبِّه وتقديره في اللحظة التي يعلن فيها توبتَه وإسلامه، والله الموفق.
[4] رواه مسلم في الصحيح

اكتب تعليق

أحدث أقدم