رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الصحابى الجليل سعد بن معاذ رضى الله عنه

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الصحابى الجليل سعد بن معاذ رضى الله عنه



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
شخصية تخرَّجت في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، هو الصحابي الكبير والجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه.
لقد أسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه وعمره 30 سنة، وتوفي بعدها بسبع سنين، ولكنه خلال السبع السنين هذه، عمِل العجائب وجاء بالغرائب، حتى حين مات اهتزَّ له رضي الله عنه عرشُ الرحمن تبارك وتعالى[1].
فكيف كان أداء سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكيف بنى شخصيته ليؤثِّر في الصحابة مِن حوله، ثم يكسب قلب الأغلى من البشر هو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يفوز برضا الله سبحانه وتعالى!
وأي شخصية تلك التي يهتزُّ لها عرش الرحمن سبحانه وتعالى!
وسعد بن معاذ رضي الله عنه هو سيِّد قبيلة بني عبدالأشهل من الأوس في المدينة المنورة، فلما بعَث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعبَ بن عمير رضي الله عنه ليدعو أهل يثرب (المدينة) إلى الإسلام، بلغ سعد بن معاذ رضي الله عنه أن شخصًا في المدينة يقول كلامًا يُفرِّق بين الناس، فذهب سعد بن معاذ رضي الله عنه إليه وهو غاضب ليأمره بترك المدينة، وأخذ معه الحربة، فقال مَن عند مصعبٍ لمصعب:
لقد جاءك - والله - سيِّدُ مَن وراءه مِن قومه، إن يتبعْك لا يتخلَفْ عنك منهم اثنان، فلما انتهى إليه، قال سعد بن معاذ رضي الله عنه لمصعب بن عمير رضي الله عنه:
أنت الذي جئتَ تُفرِّق بين المرء وأخيه، وتُفسِد علينا ديننا، اخرُجْ من بيننا.
فقال مصعب بن عمير رضي الله عنه: هل أدلُّك على أفضل مِن ذلك؟
قال سعد رضي الله عنه: وما ذلك؟
قال مصعب رضي الله عنه: تسمعني، فإن أعجبك ما أقول كان بها، وإن لم يعجبك أترك المدينة.
فقال سعد رضي الله عنه: أصبتَ، فغَرَز حربتَه في الأرض، وقال: قل لي، فبدأ مصعب يتلو عليه القرآن وبسرعة مذهلة بدأ وجه سعد بن معاذ رضي الله عنه يتغيَّر ويبدو عليه التأثر بالقرآن، وتولدت لديه الرغبة بدخول الإسلام، فلما انتهى مصعب.
قال سعد: هذا كلام عظيم، ماذا يفعل من يريد أن يدخل في هذا الدين؟
قال مصعب بن عمير رضي الله عنه: تقوم وتغتسل، وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتصلي ركعتين.
فقام سعد بن معاذ على الفور واغتسل وصلى ركعتين.
وهنا لنا وقفة مع هذه الشخصية الناضجة التي تستطيع أن تميِّز الحق من الباطل، وتعرف الكلام العظيم وتقيمه وتميزه عن الترهات، ثم تؤمن به وتتمسك، ثم تسأل عن الطريق للإسلام وفي الحال يقوم فيغتسل ويدخل الإسلام، وهو ذلك القائد وشيخ القبيلة يعلن عن نفسه جنديًّا مع رسولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، مصعبِ بن عمير رضي الله عنه، فبعملية تفاوض سريعة تحققت قاعدة (فوز - فوز) لكل من سعد بن معاذ رضي الله عنه ومصعب بن عمير رضي الله عنه.
ولكن صاحب الشخصية الناضجة القوية ينظر للآخرين كما ينظر لنفسه، ويتمنَّى لهم الخير كما يتمنَّاه لنفسه، فعلى هذا الأساس قام سعد بن معاذ رضي الله عنه بشكل مباشر لقومه، وأجرى معهم عملية تفاوض ناجحة، فقد جمع قبيلته وقال لهم: ما ترون فيَّ؟
قالوا: أنت سيدنا وخيرنا وقائدنا
قال لهم: فإن كلامَ رجالِكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وحدَه[2]، فدخلت قبيلتُه كافة في الإسلام، وقالوا: أنت صادق عندنا يا سعد لا تكذب.
ونلاحظ أنه بالرغم من أن سعد بن معاذ رضي الله عنه استخدم أسلوب (التفاوض بالضغط)، وهو ألَّا يُكلِّم أحدًا منهم إذا لم يدخلوا الإسلام وقد نجح، إلا أن قبيلته بالإضافة لحبهم له وطاعتهم فإنهم أوضحوا أن السبب الرئيس لقَبولهم بعرضه، أنه لا يكذب ولا يريد لهم إلا الخير، وبهذه الخصلة كسب ودَّهم، فهو محترم لديهم فاتَّبَعوه.
ومِن هنا تبدأ قصة سعد بن معاذ رضي الله عنه مع الإسلام، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى المدينة، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه الحكمة والإخلاص والوفاء والقدرة على التطور والإبداع، فكان مِن أقرب المقرَّبين مِن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وأثبت ذلك بالفعل في مواقف عديدة، ظهر للجميع بما لا يقبل الشك رجحانُ عقله، ونفاذ بصيرته، وثباته وصبره وعبقريته، رضي الله عنه.
فيومَ كَشَّر عبدُالله بن أُبَي ابن سلول عن أنيابه، وجاهر بنفاقه، فطعن بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه، فاستعذر من عبدالله بن أُبي ابن سلول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن يعذِرُني مِن رجل بلغني أذاه في أهلي، فواللهِ ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، وقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي)).
فقام سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال يا رسول الله: أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضرَبْنا عنقه، وإن كان مِن إخواننا من الخزرج أمرتَنا، ففعلنا فيه أمرك[3].
لقد كان سعد رضي الله عنه أصغر من النبي محمد صلى الله عليه وسلم بإحدى وعشرين سنة، وهذا الفارق العمري لم يكن عائقًا ليضع نفسه - وأقصد سعد بن معاذ رضي الله عنه - صَدِيقًا مقربًا، ورفيقًا وفيًّا للنبي صلى الله عليه وسلم، بل استطاع أن ينال ثقةَ النبي صلى الله عليه وسلم حين كلَّفه بمهمة بغاية السرية، ألا وهي تكليفه باختيار الفِرْقة المكلَّفة لاغتيال اليهودي كعبِ بن الأشرف، الذي آذى النبي صلى الله عليه وسلم وآذى الصحابة رضي الله عنهم والمسلمين بشكل عام، وبالفعل كان سعد بن معاذ رضي الله عنه أهلًا لهذه المهمة بحق؛ حيث كلَّف الصحابي محمد بن مسلمة رضي الله عنه ومجموعةً مِن رفاقه، وقد تمت المهمة كما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت وسامًا عُلِّق على صدر سعد بن معاذ رضي الله عنه.
في معركة بدر:
قبل وصول جيشِ المسلمين إلى بدر نزلوا في وادٍ اسمه ذَفِرَان، وقد سمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج قريش للقتال، هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للناس: ((أَشِيروا عليَّ أيها الناس))؛ لأنه يتذكر جيدًا أنهم حين بايعوه بالعقبة، قالوا: يا رسول الله، إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلتَ إلينا فأنت في ذمَّتِنا، نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوَّف ألَّا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة مِن عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو مِن بلادهم خارج المدينة المنورة، فتحدَّث كثيرون من المهاجرين وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أَشِيروا عليَّ أيها الناس))، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال له: "والله لكأنَّك تريدنا يا رسول الله، قال: أجل، قال: فقد آمناك وصدقناك وشهِدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لِمَا أردتَ، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكرَهُ أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يُرِيك منا ما تَقَرُّ به عينُك"[4]، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سرورًا كبيرًا.
وحين أزِف الوقتُ لمعركة بدر الكبرى، كان سعد بن معاذ رضي الله عنه حريصًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا نبي الله، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ونعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله، ما نحن بأشد لك حبُّا منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حربًا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولَمَّا صنعوا العريش أبَى سعد بن معاذ رضي الله عنه إلا أن يكون هو مَن يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جماعة من قبيلتِه حتى يطمئن على حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كانت معركة بدر الكبرى نصر الله المسلمين على عدوهم، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه سعد بن معاذ رضي الله عنه الكراهية لما يصنع الناس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم))، قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إليَّ مِن استبقاء الرجال.
وحين نريد أن نحلل موقف سعد بن معاذ وما قام به، نجد أن الشخص الكبير في داخلة يُفكِّر بالأمور الكبيرة، فأول ما فكَّر سعد بن معاذ رضي الله عنه بالأمر الأكثر أهمية، بالأمر البالغ الأهمية، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضع خطة واضحة الأهداف محكمة، ودقيقة التخطيط والتنفيذ وَفْقَ الإمكانات المتاحة، ولم يمنع سعدًا من الاعتراف بفضل الآخرين وإمكاناتهم، فأعطى هؤلاء القوم الذين لم يخرجوا حقهم وذكرهم بكل خير في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما انقضت المعركة لم يثنِ الانتصار سعد بن معاذ من التعبير عما في داخله لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان يتمنَّى أن يكون مع مَن يقاتل ويفتك بالأعداء هو وأبناء قبيلته ولكن هكذا سارت الأقدار.
في معركة أحد:
حدثت في معركة أُحُدٍ أمورٌ جِسام، فقد انكفأ المسلمون بعد أن كان النصر قابَ قوسينِ أو أدنى منهم، فحدث اضطرابٌ كبير، ففقد المسلمون السيطرةَ على الوضع وأشيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، مما اضطر بالكثير من المسلمين أن ينسحبوا ومنهم سعد بن معاذ رضي الله عنه، وكان قد غاب أنسُ بن النضر رضي الله عنه عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، غبتُ عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرينَّ الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: "اللهم إني أعتذِرُ إليك مما صنع هؤلاء - يعنى أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء" - يعنى المشركين - ثم تقدم، فاستقبَله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة، وربِّ النضر إني أجد ريحها من دون أُحُد، قال سعد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع[5].
ومن أعظم المصائب التي وقعت على المسلمين مقتل الصحابي الكريم والقائد الفذِّ عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزةَ بن عبدالمطلب رضي الله عنه، سماه رسول الله سيد الشهداء، فكان وقع الخبر عظيمًا، والألم على رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام كبير، ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدارٍ من دُور الأنصار مِن بني عبدالأشهل بعد المعركة، فسمع البكاء والنوائح على قتلاهم فذرفت عينا رسول الله رضي الله عنه فبكى، ثم قال: لكن حمزةَ لا بواكي له!
فلما رجع سعدُ بن معاذ رضي الله عنه وأُسَيد بن حُضَير رضي الله عنه إلى دارِ بني عبدالأشهل أمر نساءهم أن يتحزمن ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن وهن على باب مسجده يبكين عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((ارجِعْنَ يرحمكن الله، فقد آسيتُنَّ بأنفسكن)).
ومن الأحداث التي بقي ذكراها لموقف سعد بن معاذ رضي الله عنه منها أن عمرو بن وقش كان له رِبًا في الجاهلية فكرِه أن يسلم حتى يأخذه، فجاء يوم أحد فقال: أين بنو عمي؟ قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، قال: أين فلان؟ قالوا: بأحد، فلبِس لَأْمَتَه وركِب فرسه ثم توجَّه قِبَلهم، فلما رآه المسلمون قالوا: إليك عنا يا عمرو، قال: إني قد آمنت، فقاتل حتى جرح، فحمل إلى أهله جريحًا فجاءه سعد بن معاذ، فقال لأخته: سَلِيه حميةً لقومك، أو غضبًا لهم، أم غضبًا لله، فقال: بل غضبًا لله ولرسوله، فمات، فدخل الجنة وما صلَّى لله صلاةً[6].
ومِن مواقف سعد بن معاذ رضي الله عنه في معركة أُحدٍ نجد أن قوة شخصيته دعَتْه لأَنْ يقول الحقيقة وإن كان موقفه فيها ضعيفًا؛ حيث ذكر أنس بن النضر رضي الله عنه بخيرٍ وأثنى على شجاعته وإقدامه في ذلك الموقف، والسبب أن سعدًا رضي الله عنه أراد أن يكونَ مع الله حتى يكون الله معه، فالله يحب الصدق وأهله، فهو يعلم أنه لا فائدة من المناورة والتورية في الحديث، فالله يعلم كل شيء، فقالها بلا تكلفٍ وبلا تردُّد: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع، وهذه الحقيقة رفعَتْ قدره عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الصحابة.
ثم موقفه من حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه واستعداده للمشاركة مع الآخرين في أفراحهم وأتراحهم حين أمر نساء بني عبدالأشهل في أن يبكين حمزة رضي الله عنه كما يبكين رجالهن، كما يبقى يحب للآخرين ما يحب لنفسه ويتمنَّى لهم الخير، ويحفزهم على تصحيح المسار من أجل الفوز، فتراه يتابع فريق العمل معه ومنهم ذلك الرجل الذي كان له رِبًا في الجاهلية.
معركة الخندق:
وفي غزوة الخندق (الأحزاب) تجمَّعت القبائل الكافرة ضد الإسلام، وجاؤوا بعشرة آلاف فارس، وحاصروا المدينة، وفي خضمِّ الحصار وتتابع الأحداث عرضَتْ قبيلة غطفان على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينسحبوا من جيش الأحزاب، ولا يقفوا مع الكفار، في مقابل أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة.
فشاور الرسول صلى الله عليه وسلم كلًّا مِن سعد بن عبادة رضي الله عنه وسعد بن معاذ رضي الله عنه في هذا الأمر، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به، ولا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمَتْكم عن قوس واحدة))، فقال سعد بن معاذ رضي الله عنه: والله يا رسول الله، ما طمعوا بذلك منا قط في الجاهلية، فكيف اليوم؟ وقد هدانا الله بك وأكرمنا وأعزنا، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فقال رسول الله: ((فأنت وذاك، الرأي ما ترى يا سعد))، فتناول سعد بن معاذ الصحيفةَ فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا.
وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه يلبس درعًا تبرز منها يده فرُمِي بسهم فأصيب في شريان في يدِه، فعن جابر رضي الله عنه قال: رُمِي سعد بن معاذ رضي الله عنه في أكحله، قال: فحسمه النبي صلى الله عليه وسلم بيده بمشقص، ثم ورمت فحسمه الثانية[7]؛ أي: كواه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة مرتينِ، ولم يكتفِ النبي محمد صلى الله عليه وسلم بعلاجه بيده، بل نصب له خيمة قريبة منه، فعن عائشة رضي الله عنه قالت: لَمَّا أُصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل في الأكحل، فضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد فيعوده من قريب[8].
ويُشتِّت الله تعالى الأحزاب ويهربون، وينتصر المسلمون ويحين الأوانُ للقصاص من الخونة الذين طعنوا المسلمين في ظهورهم أثناء الحصار، وهم يهود بنو قُرَيظة فيقوم المسلمون بمحاصرة بني قُرَيْظة، ثم نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعدٍ فأتاه على حمار وهو جريح، فلما دنا قريبًا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: ((قوموا إلى سيدكم - أو خيركم))، ثم قال: ((إن هؤلاء نزلوا على حكمك))، قال: تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذريَّتهم، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قضيتَ بحكم الله))، وربما قال: ((قضيت بحكم المَلِك))[9].
وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه:
شعر سعد بن معاذ رضي الله عنه بدنوِّ الأجل، فدعا الله تبارك وتعالى بقوله: "اللهم إن كنتَ قد أبقيت من حربِ قريش شيئًا فأبقني، فإنه ما من قوم أحب إليَّ أن أجاهدهم من قوم آذَوا نبيَّك وكذَّبوه وطردوه، وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبين قريش، فاقبضني شهيدا"، وتنتهي الحرب بالفعل بالنصر المؤزَّر للمسلمين، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن نغزوهم ولا يغزونا))، فهنا قال سعد بن معاذ رضي الله عنه: يا ربِّ فجِّرها يا رب، يقصد الجرح، فانفَجَرَتْ بالدماء، ويخرج الأصحاب الكرام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا إلى سعد بن معاذ حين توفي، فلما صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووُضِع في قبره وسوَّى عليه، سبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبحنا طويلًا، ثم كبَّر فكبَّرنا، فقيل: يا رسول الله، لِمَ سبَّحت ثم كبرت، قال: ((لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرجه الله عز وجل عنه))[10].
وجاء في طبقات ابن سعدٍ عن شيوخ من بني عبدالأشهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل جنازةَ سعد بن معاذ رضي الله عنه من بيته حتى خرج به من الدار، ولقد كان يوم وفاة سعد بن معاذ رضي الله عنه يومًا مشهودًا؛ حيث نزلت الملائكة تحمل الجنازة وتشيع سعدًا؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات سعد: ((لقد نزل سبعون ألف ملك شهِدوا جنازة سعد، ما وطئوا الأرض قبل يومئذٍ))[11]، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة سعد بن معاذ ودموعه تحادر على لحيته"[12].
كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل المبارك بشيء خاصٍّ يدل على علو شأنه، فعن عائشة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن للقبر ضغطةً، ولو كان أحدٌ ناجيًا منها نجا منها سعد بن معاذ))[13].
بشارات سعد بن معاذ رضي الله عنه:
ذكرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد خص سعد بن معاذ رضي الله عنه بأكثر من جانبٍ إيجابي في حياته وبعد مماته، ونذكر منها هنا حين زارهم النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وأفطر عندهم، فدعا لسعد وأهله بدعوة، هي سُنة يتبعها المؤمنون إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها، فعن عبدالله بن الزبير قال: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامَكم الأبرارُ، وصلَّتْ عليكم الملائكةُ))[14].
ولم يحجز سعدٌ رضي الله عنه لنفسه مكانةً عند الله سبحانه وتعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، بل حجز لقومه مكانة أيضًا، فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا أُخبركم بخير دُور الأنصار؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال ((بنو عبدالأشهل، وهم رهط سعد بن معاذ))، قالوا: ثم مَن يا رسول الله؟ قال: ((ثم بنو النجَّار))، قالوا: ثم مَن يا رسول الله؟ قال: ((ثم بنو الحارث بن الخَزْرج))، قالوا: ثم من يا رسول الله؟ قال: ((ثم بنو ساعدة))، قالوا: ثم مَن يا رسول الله؟ قال: ((ثم في كل دُور الأنصار خيرٌ))[15].
وهنا ملاحظة مهمة في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر بني عبدالأشهل أكَّد على الناس أنهم رهطُ سعد بن معاذ رضي الله عنه، بينما لم يذكر الآخرين بنفس الأمر، وهي خصوصية لشخص سعد بن معاذ رضي الله عنه لم تكن لغيره.
أما بعد وفاته رضي الله عنه، فقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحاديث لم تذكر لمخلوق قبله، فإنه لَمَّا تُوفِّي سعد بن معاذ صاحَتْ أمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك، فإن ابنك أول من ضحك الله له واهتزَّ له العرش))[16].
وكان سعد رضي الله عنه رجلًا طويلًا، وصاحب جسم، ولكن لَمَّا حملت جنازة سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخف جنازته؛ وذلك لحكمه في بني قُرَيظة، فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((إن الملائكة كانت تحمله))[17]؛ فأي نوعٍ من البشر، ومِن أي نوع من الرجال، ذلك الذي تحمل جنازته الملائكة!
ويتوفَّى سعد بن معاذ رضي الله عنه وتمضي الأيام، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأبى أن تمرَّ المناسبة من غير ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه، فقد أُهدِي للنبي صلى الله عليه وسلم جُبَّة سُندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجِب الناس منها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا))[18]، وقال رسول صلى الله عليه وسلم: ((إن للقبر لضغطة، لو كان أحد ناجيًا منها نجا سعد بن معاذ))[19].
فهذه منزلة سعد بن معاذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعند الله جل وعلا، ولسعد بن معاذ رضي الله عنه يقول رجل من الأنصار:
وما اهتزَّ عرشُ اللهِ مِن موتِ هالكٍ ♦♦♦ سمِعْنَا بهِ إلَّا لسعدِ أبي عَمْرِو
وقالت أمُّ سعد حين احتُمِل نعشه، وهي تبكيه:
وَيْل امِّ سعدٍ سَعْدَا
صرامةً وحدَّا
وفارسًا معدَّا
وسؤددًا ومَجْدَا
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا يرقأ دمعك ويذهب حزنك، فإن ولدك أول مَن ضحِك الله عز وجل له، واهتزَّ له العرش))[20].
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه أيضًا يبكي سعد بن معاذ رضي الله عنه ورجالًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشهداء ويذكرهم بما كان فيهم من الخير:
أَلَا يَا لِقَومي هَلْ لِما حمَّ دافعُ
وهل ما مضى مِن صالح العيشِ راجعُ
تذكَّرتُ عصرًا قد مضى فتهافَتَتْ
بناتُ الحشى وانهلَّ مني المدامعُ
صبابة وجدٍ ذكَّرَتْني أحبَّةً
وقتلى مضى فيها طفيلٌ ورافعُ
وسعدٌ فأضحَوا في الجنانِ وأوحَشَتْ
منازلُهم فالأرضُ منهم بلاقعُ
وفوا يومَ بدرٍ للرسولِ وفوقَهم
ظلالُ المنايا والسيوفُ اللوامعُ
هنا لا بد أن نقف وقفة متأمِّل محترف، يريد أن يطور شخصيته، فإذا كان الأمر كذلك فعليه أن يقول في الحال: سأكون كسعد بن معاذ رضي الله عنه.
________________________________________
[1] قال صلى الله عليه وسلم: ((اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ))؛ متفق عليه.
[2] السيرة النبوية لابن هشام، ج2، ص 283.
[3] رواه البخاري (2661).
[4] أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، ج1، ص444.
[5] رواه البخاري (2805).
[6] سنن أبي داود (2539).
[7] رواه مسلم (5878).
[8] سنن أبي داود (3103).
[9] رواه البخاري (3804) و مسلم (4695).
[10] مسند أحمد (15254).
[11] رواه ابن أبي شيبة في كتاب المغازي 36114، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال.
[12] رواه الطبراني في الكبير 5190.
[13] رواه أحمد في مسنده (14738).
[14] سنن ابن ماجه (1819).
[15] مسند أحمد (7843).
[16] مسند أحمد (28348).
[17] سنن الترمذي (4220).
[18] البخاري (3248).
[19] رواه الإمام أحمد في مسنده (25400).
[20] ذكره الطحاوي في مشكل الآثار 3524.

اكتب تعليق

أحدث أقدم