رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن القدرية والجبرية

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن القدرية والجبرية



المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف

مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
القدريَّة: هم الذين ينفُون قدر الله تعالى، ويقولون: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد، ويجعلون العبد خالقَ فِعل نفسه، ويقولون: إن الله تعالى لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه؛ (موسوعة الفرق والمذاهب - وزارة الأوقاف المصرية - صـ 521).
نشأة القدريَّة:
ظهرت القدريَّة في البصرة في آخر عصر الصحابة بعد عصر الخلفاء الراشدين، وتبرأ منهم المتأخرون من الصحابة؛ كعبدالله بن عمر وجابر بن عبدالله وأبي هريرة وابن عباس وأنس بن مالك وعبدالله بن أبي أوفى وعقبة بن عامر الجهني، وأقرانهم، وأوصَوا مَن بعدهم بألا يسلِّموا على القدريَّة، ولا يصلُّوا على جنائزهم، ولا يعودوا مرضاهم،وأول مَن أظهر بدعة القدر رجلٌ من أهل البصرة بالعراق، يقال له: سنسويه (أو سوسن) بن يونس الأسواري، كان نصرانيًّا فأسلم ثم تنصَّر، فأخذ عنه معبد الجهني، الذي أظهر القول بالقدر، وعنه أخذ غيلان بن مسلمٍ الدمشقي، أما معبد الجهني فقد قتله الحَجَّاج بن يوسف الثقفي سنة 80هـ، وأما غيلان الدمشقي فقد قتله الخليفة هشام بن عبدالملك بدمشق؛ (الفرق بين الفرق لعبدالقاهر البغدادي صـ 40: 39)، (مدخل لدراسة العقيدة لعثمان ضميرية صـ 52).
روى مسلم عن يحيى بن يعمر، قال: كان أولَ مَن قال في القدر بالبصرة معبدٌ الجهني، فانطلقتُ أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجَّين - أو معتمرين - فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلًا المسجد، فاكتنفته (يعني صرنا في ناحيتيه) أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكِل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبدالرحمن، إنه قد ظهر قِبلنا ناس يقرؤون القرآن، ويتقفَّرون (يطلبون) العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أنْ لا قدر، وأن الأمر أُنُف، قال: (فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني)، والذي يحلف به عبدالله بن عمر (لو أن لأحدهم مثلَ أُحدٍ ذهبًا، فأنفقه، ما قبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر)؛ (مسلم حديث: 😎.
قال الإمام النووي - رحمه الله -: قوله: (أول من قال في القدر) فمعناه: أول من قال بنفي القدر فابتدع وخالف الصواب الذي عليه أهل الحق، ويقال: القدَر والقدْر بفتح الدال وإسكانها، لغتان مشهورتان، وحكاهما ابن قتيبة عن الكسائي، وقالهما غيره، واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلِم سبحانه أنها ستقع في أوقاتٍ معلومةٍ عنده سبحانه وتعالى وعلى صفاتٍ مخصوصةٍ، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى، وأنكرت القدريَّة هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنَفة العلم؛ أي: إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذَبوا على الله سبحانه وتعالى وجل عن أقوالهم الباطلة علوًّا كبيرًا، وسميت هذه الفرقة قدريةً لإنكارهم القدر؛ (مسلم بشرح النووي جـ 1 صـ 190).
وقال الإمام النووي - رحمه الله -: قوله: (وأن الأمر أُنف)؛ أي: مستأنَف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه، كما قدمنا حكايته عن مذهبهم الباطل، وهذا القول قول غلاتهم، وليس قول جميع القدريَّة، وكذَب قائله وضلَّ وافترى، عافانا الله وسائر المسلمين؛ (مسلم بشرح النووي جـ 1 صـ 192).
نبيُّنا صلى الله عليه وسلم يحذرنا من القدريَّة:
روى أبو داود عن عبدالله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القدريَّة مجوس هذه الأمة، إن مرِضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم))؛ (حديث حسن) (صحيح أبي داود للألباني حديث: 3925).
أقوال سلفنا الصالح في ذم القدريَّة:
(1) روى أحمد عن يحيى بن سعيدٍ: أن أبا الزبير أخبره أنه كان يطوف مع طاوسٍ بالبيت، فمر بمعبدٍ الجهني، فقال قائل لطاوسٍ: هذا معبد الجهني الذي يقول في القدر، فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه، فقال: أنت المفتري على الله عز وجل القائل ما لا تعلم؟ قال معبد: يكذب عليَّ، قال أبو الزبير: فعدلت مع طاوسٍ حتى دخلنا على ابن عباس، فقال له طاوس: يا بن عباسٍ، الذين يقولون في القدر؟ فقال ابن عباسٍ: "أروني بعضهم"، قال: قلنا: صانع ماذا؟ قال: "إذن أجعل يدي في رأسه ثم أدق عنقه"؛ (إسناده صحيح) (السنة لعبدالله بن أحمد رقم: 911).
(2) روى مالك عن عمه أبي سهيل بن مالكٍ، أنه قال: كنت أسير مع عمر بن عبدالعزيز فقال: ما رأيك في هؤلاء القدريَّة؟ فقلت: (رأيي أن تستتيبهم، فإن تابوا، وإلا عرضتَهم على السيف)، فقال عمر بن عبدالعزيز: (وذلك رأيي)، قال مالك: (وذلك رأيي)؛ (حديث صحيح) (موطأ مالك - كتاب القدر - حديث: 2).
(3) روى أحمد عن نافعٍ قال: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه، فكتب إليه مرةً عبدالله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيءٍ من القدر، فإياك أن تكتب إليَّ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((سيكون في أمتي أقوام يكذِّبون بالقدر))؛ (حديث حسن) (مسند أحمد جـ 9 صـ 456 حديث: 5639).
(4) روى الفريابي عن ابن عونٍ، قال: لم يكن أبغض أو أكره إلى محمد بن سيرين من هؤلاء القدريَّة؛ (إسناده صحيح) (القدر للفريابي - تحقيق عبدالله المنصور رقم: 329).
(5) قال عبدالله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي - رحمه الله - وسأله علي بن الجهم عمن قال بالقدر يكون كافرًا؟ قال: "إذا جحد العلم، إذا قال: إن الله عز وجل لم يكن عالمًا حتى خلق علمًا فعلِم، فجحد علم الله عز وجل، فهو كافر"؛ (السنة لعبدالله بن أحمد، رقم: 835).
أنواع القدريَّة:
القدريَّة نوعان:
الأول: منكِرون لعلم الله تعالى، وهم غلاة القدريَّة الأوائل.
الثاني: القائلون بأن الله لم يخلُقْ أفعال العباد، وهم معظَم القدريَّة؛ (معارج القبول لحافظ حكمي - جـ 2 - صـ 285: 284).
عدد فِرق القدريَّة:
افترقت القدريَّة إلى عشرين فرقة، وهذه أسماؤها: الواصلية، والعمرية، والهذلية، والنظامية، والمردارية، والمعمرية، والثمامية، والجاحظية، والخياطية، والشحامية، وأصحاب صالح قبة، والمريسية، والكعبية، والجبائية، والبهشيمية المنسوبة إلى أبي هاشم بن الجبائي؛ (الفرق بين الفرق لعبدالقاهر البغدادي صـ 44).
الجَبريَّة:
نشأة الجَبريَّة:
الجَبريَّة: هم أتباع الجهم بن صفوان، الذي قتله سلم بن أحوز أمير خراسان سنة 128هـ؛ (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي جـ 2 صـ: 349).
سبب التسمية:
سُمِّي الجَبريَّة بذلك لأنهم يقولون: إن العبد مُجبَر على أفعاله، ولا اختيار له، وأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، وأن الله سبحانه أجبر العباد على الإيمان أو الكفر؛ (الملل والنحل للشهرستاني جـ 1 صـ 87).
معنى الجبر:
الجبر: هو إجبار الناس وإرغامهم على فعل شيءٍ من غير إرادةٍ أو مشيئة لهم، ويرى الجَبريَّة أن الناس لا اختيار لهم في أفعالهم، ولا قدرة لهم على أن يغيِّروا مما هم فيه شيئًا، وإنما الأفعال لله سبحانه؛ فهو الذي يفعل بهم ما يفعلونه، وجعلوا هذا مطلقًا في جميع أفعالهم، فإذا آمن العبد أو كفر فإن الإيمان أو الكفر الذي وقع منه، والطاعة أو المعصية، ليست فِعلَه إلا على سبيل المجاز، وإنما الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه؛ لأن العبد لا يستطيع أن يغير شيئًا من ذلك؛ (مقالات الإسلاميين - لأبي الحسن الأشعري جـ 1 صـ 338).
ويقول الجَبريَّة أيضًا: إن العبد مسيَّر، لا خيار له أبدًا؛ فهو كالريشة في مهَبِّ الريح، وعلى هذا فإنه يكفيه في مسألة الحساب والجزاء أن يؤمن بالله تعالى بقلبه فقط، مهما فعل من الكفر والمعاصي حتى الشرك، تعالى الله عما يقولون! فمن أشرك بالله عندهم ما دام عارفًا بالله فهو مؤمن! فهؤلاء هم الجَبريَّة الغلاة؛ لأنهم يرون أنه ما دام الفعل كله لله تعالى، فلا حساب على العباد إلا بما يتعلق بالمعرفة في القلب، فمن عرَف الله سبحانه نجا، ومن أنكر الله هلك،ومذهب الجَبريَّة مِن أخبث المذاهب وأبطلِها؛ لأنه يجعل الله تعالى ظالمًا لعباده،تعالى الله عما يقول غلاة الجَبريَّة علوًّا كبيرًا.
قال الإمام ابن حزم - رحمه الله -: اختلَف الناس في ماهية الإيمان، فذهب قوم إلى أن الإيمان إنما هو معرفة الله تعالى بالقلب فقط، وإنْ أظهَرَ اليهودية والنصرانية وسائر أنواع الكفر بلسانه وعبادته، فإذا عرَف الله تعالى بقلبه فهو مسلم من أهل الجنة، وهذا قول الجهم بن صفوان؛ (الفصل في الملل والنحل لابن حزم جـ 3 صـ 105).
تأويلات الجَبريَّة الفاسدة لآيات القرآن:
(1) اجتمع بعض الجَبريَّة يومًا فتذكروا القدر، فجرى ذكر الهدهد وقوله: ﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [النمل: 24]، فقال بعضهم: كان الهدهد قدريًّا، أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وجميع ذلك فعل الله!
(2) سُئل بعض الجَبريَّة عن قوله تعالى: ﴿ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ﴾ [النساء: 39]، إذا كان هو الذي معهم؟ قال: استهزاء بهم،قال: فما معنى قوله: ﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾ [النساء: 147]؟ قال: فعَل ذلك من غير ذنبٍ جنَوْه، بل ابتدأهم بالكفر، ثم عذَّبهم عليه.
(3) قال بعض الجَبريَّة - وقد عوتب على ارتكابه معاصيَ الله تعالى -: إن كنتُ عاصيًا لأمره، فأنا مطيع لإرادته.
(4) قرأ قارئ بحضرة بعض الجَبريَّة: ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص: 75]، فقال: هو الله منعه،ولو قال إبليس ذلك لكان صادقًا، وقد أخطأ إبليس الحجة، ولو كنت حاضرًا لقلت له: أنت منعته.
(5) سمع بعض الجَبريَّة قارئًا يقرأ: ﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾ [فصلت: 17]، فقال: ليس مِن هذا شيء، بل أضَلَّهم وأعماهم.
(6) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: عتبت بعض شيوخ هؤلاء الجَبريَّة، فقال لي: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، والكون كله مراده، فأي شيءٍ أُبغض منه؟ فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض بعض مَن في الكون وعاداهم ولعنهم فأحببتهم أنت وواليتهم، أكنتَ وليًّا للمحبوب أو عدوًّا له؟ قال: فكأنما ألقم حجرًا؛ (مختصر معارج القبول - لهشام عبدالقادر صـ: 290).
من شبهات الجَبريَّة والرد عليها:
(1) يستدل الجَبريَّة على مذهبهم الباطل بأن الله تعالى يقول: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17].
وقالوا: هذا دليل على أن الفعل ليس للإنسان، وإنما هو لله؛ لأن الله هو الذي رمى.
الرد على هذه الشبهة:
قال العلماء: ما أصبتَ الهدف، ولكن الله هو الذي وفَّق لإصابته؛ فأنت الذي رميتَ والله تعالى هو الذي وفَّق للإصابة.
(2) يستدل الجَبريَّة على مذهبهم الباطل - أنَّ العمل ليس سببًا في دخول الجنة - بالحديث التالي:
روى الشيخانِ عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (((سدِّدوا وقاربوا وأبشروا؛ فإنه لا يُدخل أحدًا الجنةَ عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمدَني الله بمغفرةٍ ورحمةٍ))؛ (البخاري حديث: 6467/مسلم حديث: 2816).
قالوا: هذا دليل على أن الأعمال ليس لها أثر، وأن الأعمال ليست هي التي تسبِّب دخول الجنة، وعلى هذا فالأعمال ليست من الإنسان، والإنسان ليس له أي عمل، وليس له عندهم حركة، بل هو مدفوع إلى هذه الحركة، ومغلوب على أمره، وتحرِّكه إرادة الله كما تتحرك الشجرة بدون اختيارها.
الرد على هذه الشبهة:
(1) قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - تعليقًا على هذا الحديث: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحدٍ، وأنه لولا تغمُّدُ الله سبحانه لعبده برحمته لمَا أدخله الجنة، فليس عمل العبد، وإن تناهى، موجبًا بمجرده لدخول الجنة ولا عوضًا لها؛ فإن أعماله، وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه، فهي لا تقاوم نعمة الله، التي أنعم بها عليه في دار الدنيا، ولا تعادلها، بل لو حاسبه، لوقعت كلها في مقابلة اليسير من نعمه، وتبقى بقية النعم مقتضيةً لشكرها،فلو عذَّبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالمٍ، ولو رحمه لكانت رحمته خيرًا من عمله؛ (مفتاح دار السعادة لابن القيم صـ 18).
روى أبو داود عن أُبَيِّ بن كعبٍ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه، عذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم، ولو رحمهم كانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث: 3932).
(2) وقال الإمام ابن الجوزي - رحمه الله - وهو يتحدث عن الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72]: يتحصل عن ذلك أربعة أجوبةٍ:
الأول: أن التوفيقَ للعمل من رحمة الله، ولولا رحمة الله السابقة ما حصل الإيمان ولا الطاعة التي يحصل بها النجاة.
الثاني: أن منافعَ العبد لسيده؛ فعملُه مستحَقٌّ لمولاه، فمهما أنعم عليه من الجزاء فهو من فضله.
الثالث: جاء في بعض الأحاديث أن نفس دخول الجنة برحمة الله، واقتسام الدرجات بالأعمال.
الرابع: أن أعمال الطاعات كانت في زمنٍ يسيرٍ، والثواب لا ينفَد؛ فالإنعام الذي لا ينفد في جزاء ما ينفَد بالفضل لا بمقابلة الأعمال؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 11 صـ 302: 301).
(3) وقال الإمام ابن حجر العسقلاني - رحمه الله - وهو يتحدَّث عن الجمع بين هذا الحديث وقوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف: 72]: يظهر لي في الجمع بين الآية والحديث أن يُحمَل الحديث على أن العمل من حيث هو عملٌ لا يستفيد به العامل دخول الجنة، ما لم يكن مقبولًا، وإذا كان كذلك فأمر القَبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا فمعنى قوله تعالى: ﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 32]؛ أي: تعملونه من العمل المقبول؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 11 صـ 302).
الرد على الجَبريَّة:
قال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله - في الرد على الجَبريَّة: نحن نفعل الطاعات باختيارنا، ولا نشعر بأن أحدًا يجبرنا عليها، ونفعل المعاصي كذلك باختيارنا، ولا نشعر أن أحدًا يجبرنا عليها،والدليل على أن فعل الإنسان صادر عن إرادةٍ منه سمعيٌّ وواقعيٌّ:
أما الدليل السمعي: فالآيات في ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ [آل عمران: 152]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 272].
روى الشيخانِ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى))؛ (البخاري حديث: 1/ مسلم: 1907).
والأدلة أكثرُ مِن أن تحصر، بأن فعل العبد صادر باختياره، لكن هذا الاختيار تابع لمشيئة الله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ [الإنسان: 30].
أما الدليل الواقعي: فإن كل إنسان يفعل الأفعال وهو لا يشعر أن أحدًا يجبره عليها، فيحضر إلى الدرس باختياره، ويغيب عن الدرس باختياره؛ ولهذا إذا وقع الفعل من غير اختيار لم يُنسَب إلى العبد، بل يرفع عنه إثمه.
روى أبو داود عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((رُفع القلم عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقِل))؛ (حديث صحيح) (صحيح أبي داود للألباني حديث: 3703).
لم ينسُبِ اللهُ عز وجل تقلُّبَ أصحاب الكهف إلى أنفسهم، بل نسبه إليه، فقال: ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ [الكهف: 18]، ولم يقل: يتقلبون؛ لأنه ليس منهم إرادة؛ فالنائم لا إرادة له؛ ولهذا لا يقع طلاقه لو طلق، فلو فرضنا أن أحدًا كلم زوجته في النوم، وقال: يا فلانة، أنت طالق ثلاثًا بتاتًا، ثم أصبح فإن طلاقه لا يقع؛ لأن النائم لا ينسب فعله إليه؛ لأنه وقع بغير إرادة.
ولو طلق السكران - وهو لا يعي ما يقول - فإن طلاقه لا يقع، ولو طلق الغضبان غضبًا شديدًا لا يملِك نفسه، فإن طلاقه لا يقع؛ لأنه بغير إرادة،فإذا كان الشيء بغير إرادة فلا حكم له شرعًا، فتبين بهذا أن وقوع الشيء بإرادة منا ثابت بالقرآن والواقع؛ (شرح العقيدة السفارينية لابن عثيمين صـ: 335).
الرد على الجَبريَّة في الاحتجاج بالمعاصي:
(1) قال الإمام النووي - رحمه الله -: إن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قدرها الله عليَّ، لم يسقط عنه اللوم والعقوبة بذلك، وإن كان صادقًا فيما قاله، فالجواب: أن هذا العاصي باقٍ في دار التكليف، جارٍ عليه أحكام المكلفين من العقوبة واللوم والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجرٌ له ولغيره عن مثل هذا الفعل، وهو محتاج إلى الزجر ما لم يمُتْ؛ (مسلم بشرح النووي جـ 8 صـ 454).
(2) وقال الإمام ابن عثيمين - رحمه الله -: أفعال العباد كلها من طاعات ومعاصٍ كلها مخلوقة لله، ولكن ليس ذلك حجَّةً للعاصي على فعل المعصية؛ وذلك لأدلة كثيرة، منها:
(1) أن الله أضاف عمل العبد إليه، وجعله كسبًا له، فقال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ [غافر: 17].
ولو لم يكن له اختيارٌ في الفعل وقدرة عليه ما نُسِب إليه.
(2) أن الله أمر العبد ونهاه، ولم يكلِّفْه إلا ما يستطيع؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286].
وقوله سبحانه: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16].
ولو كان مُجبَرًا على العمل ما كان مستطيعًا على الفعل أو الكفِّ؛ لأن المُجبَر لا يستطيع التخلُّص.
(3) أن كل واحد يعلَم الفرق بين العمل الاختياري والإجباري، وأن الأول يستطيع التخلُّص منه.
(4) أن العاصي قبل أن يُقدِمَ على المعصية لا يدري ما قدر له وهو باستطاعته أن يفعل أو يترك، فكيف يسلك الطريق الخطأ ويحتج بالقدر المجهول؟ أليس من الأحرى أن يسلك الطريق الصحيح ويقول: هذا ما قُدِّر لي؟!
(5) أن الله أخبر أنه أرسل الرسل لقطع الحُجَّة؛ قال سبحانه: ﴿ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [النساء: 165].
ولو كان القدر حُجَّة للعاصي لم تنقطع بإرسال الرسل،ونعلم أن الله سبحانه وتعالى ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك، وأنه لم يجبر على معصية، ولا اضطره إلى ترك طاعةٍ؛قال الله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وقال الله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16]، وقال سبحانه: ﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾ [غافر: 17]؛ فدلَّ على أن للعبد فعلًا وكسبًا، يُجزَى على حَسَنِه بالثواب، وعلى سَيِّئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره؛ (شرح لمعة الاعتقاد - لابن عثيمين صـ: 94: 93).

اكتب تعليق

أحدث أقدم