رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الروح وميلاد الحضارة

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الروح وميلاد الحضارة



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه ان التاريخ يثبت أن الحضارة لا تُولد إلا بالروح، ويُثبت أيضًا أن الحضارة تَزدهر بالعقل، فالروح أولاً والعقل ثانيًا، قد يحدث العكس، فتُولد الحضارة بروح هامدة وعقل متألق.
وهنا يمشي العقل وحده، يمشي مسكينًا عاريًا من مقومات البصيرة الكونية، وما وراء الكونية.
إنه عقل لا تُدثِّره حضارة ولا يتلفَّع بأرْدِيَة الوِجدان المضطرم بالحب، ولا الضمير الحي، ولا الإيمان الحار، ولا نَبضات القلب الوَجِل من خشية الله، إنه عقل مسكين يمشي وحده عندما يَفقد الروح، يمشي بلا قلب فقيه ولا عين بصيرة، ولا أُذن سامعة.
إن العقل - في غيبة الروح - ليَقفز من مرحلة الروح الضرورية للميلاد الكامل الصحيح إلى مرحلة الازدهار.
لكن أي ازدهار يا تُرى؟ إنه الازدهار "المادي" المحصور في الإبداع "الشيئي"، الذي أحرَزته التراكمات الكمية المعرفية عبر رحلة العقل في التاريخ؛ من المركبة البدائية، إلى السيارة، إلى الطائرة، من بريد الرسائل إلى البريد الإلكتروني، من الغذاء البسيط إلى الغذاء المركب والمعلَّب، من بيت الطين إلى عمارة الخمسين طابقًا، ومن البساطة الداخلية في البيوت، إلى بيوت "السوبرلوكس".
لقد قدَّم العقل ازدهارًا ماديًّا وشيئيًّا لا ريب فيه، لكنه - مع كل ذلك - لم يستطع أن يقدم "البديل" عن "الروح"، وكلما ارتفَع منسوب عالم الأشياء، هبط منسوب الروح، وفقَد الإنسان كثيرًا من أركان سعادته، لقد تقدَّم عالمه الخارجي، أما عالمه الداخلي، فهو يتداعى في كل يوم آيلاً للسقوط، دون أن تكون هناك تيارات روحية قادرة على إيقاف الانهيار ومنْع السقوط.
إن كل الوسائل الخارجية تَفقد فاعليتها ما دام داخل الإنسان متناقضًا، يتآكل روحًا وقلبًا، ويعيش تَعاسة لا تنفع في علاجها الماديات الخارجية: ﴿ مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ ﴾ [فاطر:2]، لقد أصبح العقل ومنجزاته الشيئية والبعيدة عن الروح وثنًا يعبد نفسه ويعبد الأشياء.
إن مِفتاح سعادة الداخل لا يقوم إلا على تغيير الداخل بوسائل العلاج الداخلية؛ ﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد:11].
إن العقل لا يستطيع تقديم العون للقلب إذا كان هذا العقل مريضًا، لقد تحوَّل هذا العقل من عابدٍ لله إلى معبود يعبد الأشياء - في الوقت نفسه - ويُؤلِّه المادة والثروة والترف الذي لا حدود له.
ولقد تضخَّم هذا الإنسان الذي يقوده العقل وحده، فظن نفسه صانعًا وليس مخلوقًا لله، لقد نظر إلى نفسه على أنه وسيلة وغاية، وأن الزمان هو حدوده الزمانية، ولا زمان خارج زمانه، وأن مكانه الدنيوي هو المكان الذي لا مكان غيره، فلا آخرة ولا بعثَ، ولا جنة ولا نار.
في مكة والمدينة عاش الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصنع الإنسان الذي تَقوده الروح، ذلك الإنسان الذي جلس بين يدي الرسول - عليه السلام - في دار الأرقم، وفي شِعاب مكة، وفي المسجد النبوي، لا ليتلقى علمًا مستقلاًّ بذاته، بل علمًا ممزوجًا بالروح، لقد جلسوا بين يديه وكأن على رؤوسهم الطير، خَجِلين من توجيه السؤال إليه؛ لأنهم يعيشون طعم الحب وحلاوة الإيمان، وأَلَقَ الروح، وارتفاعها صعودًا إلى الأفق الأعلى، حتى لكأنهم - كما ذكروا للرسول - بين يديه كالملائكة الذي لا يَعنيهم إلا الرحيق المختوم، والسلاف النقي، تاركين اللهث الكمي المعرفي العقلي لوقته، آخذين منه ما تحتاج إليه تكاليف دينهم، ومقتضيات المنهجية النبوية لحياتهم.
إنهم أبدًا لم ينسوا قيمة ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق:1]، ولا قيمة ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر:28]، لكنهم أدركوا أن القراءة لا بد أن تكون باسم الله، والعلم لا بد أن يكون مرتبطًا بخشية الله، وآمنوا بأنه لن تتحقق الغاية من الروح والعقل إلا حين تكون "الروح" أولاً والعقل ثانيًا، ولقد أدركوا أن الخطورة تكمُن حين يقف العلم وحده، فلا يَحميه سياج الإيمان، يَحميه من نفسه ومن كِبْره ومن جَبروته وطُغيانه، ومن تدميره حين يَنفصل عن الروح، وعن "اسم الله" وعن "خشية الله".
وعندما حانت لحظة إعطاء العقل - مع إفرازاته المادية - حقه، وجَّه الرسول إلى ذلك، في غزوة بدر (2 هـ)، وجعَل فداء الأسير أن يعلِّم بعضَ أبناء المسلمين القراءة والكتابة، وكان - عليه السلام - من قبل قد وجَّه بعض صحابته إلى معرفة لغات بعض البلاد؛ تَوطئة لإرسالهم (6 هـ) إلى ملوك العالم يدعونهم للإسلام، مُدشِّنًا المرحلة العالمية الكبرى للدعوة والحركة، لكن الروح كانت الوقودَ الأول؛ لأنها تتجاوز حدود العقل الذي تحكمه قوانين قد تكون كافية في الظروف العادية، لكنها غير كافية لإطلاق الدولة والدعوة عالميًّا.
والسؤال هنا: أيهما الروح أو العقل هو الذي دفع أبا بكر لإنفاق كل ماله؟ إن الشريعة أو العقل لا يُلزمانه بذلك.
أيهما: الروح أو العقل دفع عمر لإنفاق نصف ماله، ودفع عثمان للإنفاق بسخاءٍ كبير على الدعوة في مراحلها الأساسية؟
وأيهما، الروح أو العقل، جعل الأنصار يستقبلون إخوانهم المهاجرين، ليس بما يَجودون به، وليس بما توجبه فريضة الزكاة أو الأعراف العامة، وإنما يستقبلونهم بحب وإيثارٍ يفوق حبَّ الشقيق لشقيقه؛ ﴿ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾ [الحشر:9].
إن كل النوازع البشرية قد سقَطت في هذه اللحظات العلوية، لحظات قيادة الروح، لدرجة أن يقول الأنصاري سعد بن الربيع لأخيه المهاجري عبدالرحمن بن عوف: "خذ شطر مالي، ولي زوجتان تَخَيَّرْ واحدة منهما أُطلقها لك، ثم تتزوَّجها".
ولو كان العقل هو القائد الأول هنا، لَما سمَح لهذا السمو أن تتحقق؛ لأنه محكوم بموازين المصلحة والمواطنة، وتبادُل المنافع، قبل موازين الحب والإيمان، والزهد والإيثار، والعشق للدين الجديد.
لقد أدرَكت فطرة الأنصار النقية أن المهاجرين مروا بمرحلة تمثل درسًا، على الأنصار أن يفهموه ويرتفعوا إلى مستواه، فهؤلاء المهاجرون قد ضحوا بوطنهم على حبهم له، وضحوا بدُورهم وأموالهم، حتى إن صهيبًا الرومي يضحي بكل ماله؛ ليَتركه المشركون يهاجر بدينه ليَلحق بالرسول، فاستطاع الأنصار بالروح أن يرتفعوا إلى المستوى النفسي والوجداني والإيثاري المطلوب، مؤكدين أن الجماعة الإسلامية في المدينة - أنصارًا ومهاجرين - كِيان واحد، لا تُفرقهم عنصريات جنسية، ولا عصبيات وطنية، ولا صراعات مادية، ومِن ثَمَّ جاءت "المؤاخاة" التي أقامها الرسول بينهم تتويجًا لعلاقة روحية وقلبية وإيمانية، لا يستطيع البشر أن يَرتقوا إليها.
وهكذا كان دور الروح الذي انبثق منها - وفي ظلالها - التطور العقلي، فولَّد العلم - بالتالي - ابنًا شرعيًّا للإيمان، واتَّجه إلى الخير الإسلامي الإنساني العام، وتوجَّه القرآن بتلخيص الرسالة المحمدية في هذه الوظيفة الخالدة التي أهمَلتها الحضارات والأديان، لا سيما الحضارة المادية المعاصرة، إنها وظيفة جيل الصحابة التي استَقوها من وظيفة قُدوتهم وإمامهم - عليه السلام - والتي حدَّدها القرآن في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء:107]، ليست الروح التي نتعامل معها - في حديثنا هذا - هي فقط الروح التي تحدَّث عنها ابن سينا في قوله:
هبطتْ إليك من المحلِّ الأرفع = ورْقَاءُ ذات تَعزُّزٍ وتمنُّعِ
محجوبة عن كلّ مُقلة عارفٍ = وهي التي سَفَرت ولم تَتبَرقَعِ
وصَلت على كرهٍ إليك ورَُبما = كَرِهت فِراقَك وهي ذات تَفجُّعِ
أنِفَت وما أنِسَت فلمَّا واصَلت = ألِفَت مجاورة الخرابِ البَلْقَعِ
وأظنُّها نسِيَت عهوداً بالحِمى = ومَنازلاً بفِراقها لم تَقْنَعِ
ولا هي - فقط - تلك الروح التي تحدَّدت اصطلاحًا بأنها: مَلكة لطيفة غير مادية يُمدك الله بها؛ لتحتفظ بحياتك، فهي سرُّ وجودك وبقائك، وأيضًا يُمسكها عنك عندما تنتهي حياتك؛ قال تعالى: ﴿ اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الزمر:42]، إنها الروح التي قد يتوافر لها بعض ذلك، لكنها - كما يتعامل معها القرآن - شيء أقوى وأعم من ذلك بكثيرٍ.
لقد خلَق الله آدم من رُوحه: ﴿ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [الحجر:29]، وأمرنا أن لا نيْئَس من روح الله: ﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف:78].
فنحن نعيش - كما تَدلنا الآيات - بإشعاعات الروح، فلقد خلَقنا الله ابتداءً من روحه التي نفَخها في أبينا آدمَ، ثم نفَخها في مريم أم عيسى - عليهما السلام - ونفَخها في كل إنسان يُولد في الأرض، فكلنا من روح الله، وعندما نوضع في امتحانات صعبة، فإن علينا أن نَلجأ إلى روح الله طلبا للنجاة، وإذا يَئِسنا من اللجوء إلى روح الله التي منها أوجَدنا وخلَقنا، وبها استقام كِياننا - خرَجنا من دائرة الإيمان؛ لأنه ﴿ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف:87].
ولكن في أساليب أخرى يطلق الله "الروح" على رسوله الأعظم (جبريل): ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ﴾ [النحل:102]، كما يطلق الله مصطلح الروح على القرآن نفسه؛ ليُتمَّ الله به بناء الإيمان ومعمار اليقين في الأرض، ويَمنح به المؤمنين نور البصيرة الهادي إلى الصراط المستقيم، ولم يكن محمد - عليه السلام - قبل هذا القرآن على دِراية بأي كتاب، ولا بشيء من معاني الإيمان: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾[الشورى:52].
فالروح مصطلح جامع ذو إشعاعات ربانية تضيء جوانب الحياة، بل وتنشئ الحياة، وتَحفظ الحياة بعيدًا عن اليأس، وتعطي للمؤمن طاقة فعَّالة وإرادة إيجابية، تَجعله سريع الاستجابة لأوامر الله، قوي الإرادة، يَملِك نفسه وهواه، ويُطوعهما لأوامر الله ولإشعاعات الروح، ولا تَتملكه نفسه أو يتحكَّم فيه هواه.
والروح نِعْمَ القائد للعقل؛ حتى لا يعبد نفسه، ونِعْمَ الحامي للعلم؛ حتى لا تُودي به سلبياته، وذلك عندما ينقلب العقل وثنًا، ويصبح العلم هدمًا، وينهار المعمار البشري من افتراس العقل للإيمان، ومن عبثيَّة استخدامه العلمَ، وغياب الروح المحدِّدة للفواصل الواضحة بين الحق والباطل، وعندما يمضي الإنسان شبه أعمى في طريقه إلى الانهيار.
لقد أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - دولة الهجرة في المدينة على قاعدة الروح من الإيمان، ومع ذلك أطلَق عليها بعض العلماء المسلمين "دولة الفكرة"، وقارنوا بينها وبين دولة العقد الاجتماعي التي تخيَّلها "جان جاك روسو"، والفرق كبير بين الدولتين، فالدولة الإسلامية عقد رباني وإنساني، تَمتزج فيه روح الوحي مع قوانين الدولة، وصحيح أن الدولة الإسلامية الأولى تضمَّنت عقدًا اجتماعيًّا تمثَّل في "المؤاخاة" بين المسلمين، والصحيفة التي تَحكم الوشائج وفاعلية القانون بين المسلمين وغير المسلمين من مواطن المدينة.
لكن لا يجوز لنا أن ننسى أن الدستور الحاكم بهذه الدولة بكل شرائحها "القرآن"، وأن قائدها كان هو رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن العقد الذي ظهر فيها لم يتمَّ كما قام عقد "روسو" لإقامة التوازن بين الحكام والمحكومين بعد أن طغى الحكام، فكانت نظرية العقد الاجتماعي مجرد ردِّ فعل بشري، مجرَّدٍ من كل معاني الروح، وكانت أهدافه سياسية وقانونية ومصلحية بحتة، أما مجتمع المدينة، فهو مجتمع التكافل الاجتماعي الذي يسمو على القانون، وكان مجتمع الحب والتراحم والعدل بين الجميع، وعندما درس بعضهم نظرية "روح القوانين" (نظرية فصل السلطات) لـ"مونتسكيو"، ظنوا أنها إطار كفيل بإيجاد روح إيجابية فاعلة منطلقة من الروح الموروثة التي صنَعتها تجربة الأمة ومسيرتها التاريخية، وهنا نَلحظ أن "الروح" قد انبثَقت من تجارب تاريخية بكل ما يُمكن أن تكون قد حمَلتها من رواسب وتناقضات / مناقضات، وأن هيمنة روح المجتمعات يمكن أن يسيء إلى الوعي الفردي، بينما في دولة الفكرة والعقيدة، أو "الأمة الوسط الشهيدة على الناس" تحكم الثوابت الربانية، فثمة التوازن بين روح الفرد والمجتمع، وثمة الثوابت العليا المتحدة من الروح التي كوَّنها الإيمان، إلى جانب التجارب التي يمكن أن تُغربَل وتُصفَّى في ضوء الثوابت والمقاصد الشرعية.
وثمة شاهد قوي يستدل به المؤرخون على فعالية الروح الإسلامية في المدينة، حين يقارنون بين هذا المشهد نفسه في موقفين مختلفين، حين حاولت الولايات المتحدة الأمريكية تطبيقه في بداية القرن العشرين.
ففي المدينة المنورة نزل الوحي متدرجًا في تحريم الخمر، فلما نزل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة:90-91]، سَرعان ما استجاب الصحابة المشحونون بالروح الإيمانية، فقالوا: "انتهينا يا رب"، وألقوا بكل ما عندهم من الخمور حتى سالَت بها طرقات المدينة.
أما تجربة أمريكا في تحريم الخمور في مطلع القرن العشرين، حين أنفَقت في منْعها عدة مليارات من الدولارات، وتحرَّكت جيوشها الإعلامية والطبية؛ لكشْف أضرار الخمور، بل وغيَّرت الدستور، فنصَّت على تحريم الخمر، ومع ذلك فشِلت فشلاً ساحقًا، ووقَعت مقاومة شعبية كبيرة، واضطرت أمريكا لإعادة إباحتها وإلغاء تحريمها من الدستور، والفرق بين المشهدين واضح، فهو يتجلَّى في وجود الروح الإيمانية والإرادة القوية في مشهد المدينة، وغياب كل ذلك في الموقف الأمريكي.
وقد كنت أشعر بنوعٍ من الهروب عندما يكتفي بعضهم بالمقارنة بين موقف الصحابة المؤمنين كل الإيمان، وموقف الأمريكان العلمانيين أو مذبذبي الإيمان، وكنت أرى أنه من الضروري المقارنة بين موقف المسلمين أنفسهم في حِقبتين تاريخيتين مختلفتين، مع أنهم جميعًا كمسلمين يؤمنون بأركان الإيمان الستة وأركان الإسلام الخمسة، ويُصلون ويحجون ويعتمرون، ومع ذلك فإن مسلمي عصرنا هؤلاء - مع إسلامهم الخامد الروح، الفاقد الإرادة - قد يشربون الدخان والشيشة بعد الفطور في رمضان، وبعد الخروج من الصلاة في الحرم والمسجد النبوي، مع كل ما عرَفوه عن تحريم الدخان، وأضراره الطبية والاقتصادية على الأفراد والمجتمعات.
لقد كان الفيلسوف والمهندس الجزائري "مالك بن نبي" رائعًا في استفادته من مؤرخنا العظيم عبدالرحمن بن خلدون (808 هـ)، حين أبرز ابن خلدون دور النبوة في صناعة الإنسان المؤمن الإيجابي، فلا حضارة بدون عقيدة، وبدون إنسان فطري بسيط كعمر بن الخطاب، ذلك المؤمن الحق الذي كان ينام تحت شجرة في الطريق وهو أمير المؤمنين، ومن هذا الإنسان يأتي دور الازدهار العمراني الذي تنذر مرحلةُ ازدهاره البالغة حدَّ الترف والدعة في الحياة بالدخول في مرحلة الانهيار.
فعلى هدي ابن خلدون كتَب مالك بن نبي عناصر الحضارة الثلاثة المحقِّقة لشروط النهضة، وهي: الإنسان أولاً، والزمان ثانيًا، والتراب ثالثًا، وتأتي العقيدة قبل ذلك - ومعه - كجامعٍ مازج لهذا المُركب، حتى تصل به إلى بناء الفرد القادر على الإقلاع الحضاري وصناعة الحضارة.
إنها الروح أولاًَ، وإنه العقل ثانيًا، وبالروح والعقل معًا ينطلق قطار الحضارة الإسلامية فوق قضبان التاريخ، شريطة أن تكون الروح أولاً.

اكتب تعليق

أحدث أقدم