رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن شهادة الزور دمارٌ للمجتمع

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن شهادة الزور دمارٌ للمجتمع



المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف

مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أن من أهم مقاصد الشَّريعة الإسلاميَّة ومبادئها: تحقيقُ العدالة، ومنع الظلم بين الناس، ويُراعى فيها بميزان العدالة بين الجماعة والفرد، فلا يسرف في تقديس حقوق الجماعة ولا الفرد، وذلك تبعًا لنظرية الموازنة التي تهدف إلى تحقيق مصلحة الفرد والجماعة، فهي تحرص أشد الحرص على أمْن الجماعة ونظامها وسلامتها.
لذلك نرى أنَّ كلَّ الأفعال التي حرَّمها الشرع وعاقب عليها هي أعمالٌ تفسدُ أمْنَ المجتمع، وتُؤدي - لو تُرِكَت - إلى اضطراب الأمور، وإشاعة الفوضى، والقلق في النُّفوس، ومن ثَمَّ تُؤدي إلي دمار المجتمع.
ولأجل ذلك حرَّم الله - تعالى - شهادة الزُّور، واعتبرها من أكبر الكبائر؛ لأنَّها تُؤدي إلى ضياع حقوق النَّاس، وانقلاب الحق إلى الباطل.
التعريف:
1 - شهادة الزور: مركَّب إضافي يتكوَّن من كلمتين، هما: الشهادة، والزور، أمَّا الشهادة في اللغة، فمن معانيها: البيان، والإظهار، والحضور، ومستندها المشاهدة، إمَّا بالبصر، أو بالبصيرة.
وأما الزُّور، فهو الكذب والباطل، وقيل: هو شهادة الباطل، يقال: رجلٌ زور، وقوم زور؛ أي: مُمَوَّهٌ بكذب[1].
وشهادة الزُّور عن الفُقهاء: الشَّهادة بالكذب؛ ليتوصلَ بها إلى الباطل، من إتلافِ نفس، أو أَخْذ مال، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال[2].
الحكم التكليفي:
2 لا خلافَ بين الفقهاء في أنَّ شهادة الزور من أكبر الكبائر، وأنَّه محرم شرعًا، قد نهى اللهُ عنه في كتابه مع نهيه عن الأوثان؛ فقال الله - تعالى -: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)[الحج: 30]، وقد رُوِي عن خريم بن فاتك الأسدي: "إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - صلَّى صلاةَ الصُّبح، فلمَّا انصرف قام قائمًا، فقال: ((عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّور بالإشْراكِ بالله)) "ثلاث مرات"، ثم تلا هذه الآية: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)[الحج: 30-31]"[3]، ورَوى أبو بَكْرَةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((ألاَ أنبئكم بأكبرِ الكبائر؟))، قلنا: بلى يا رسول الله، قال ثلاثًا: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين))، وكان متكئًا فجلس، فقال: ((ألاَ وقول الزَّور، وشَهَادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور))؛ فما زال يقولها حتَّى قلت: لا يسكت"[4].
ورُوي عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((لن تزول قدما شاهد الزُّور حتَّى يجب الله له النَّار))[5].
فمتى ثبت عند القاضي أو الحاكم عن رَجُل أنَّه شهد بزُور عمدًا عزَّره باتِّفاق الفُقهاء، مع اختلافهم في كيفيَّة التعزير[6]، وسيأتي آراء الفقهاء فيها.
بِمَ تثبت شهادة الزُّور؟
3 ذهب جمهور الفقهاء إلى أنَّ شهادة الزُّور لا تثبت إلاَّ بالإقرار - لأنَّه لا تتمكن تهمة الكذب بغير إقرار على نَفْسِه - أو بأنْ يشهد بما يقطع بكذبه، بأنْ يشهد على رجل بفعلٍ في الشام في وقتٍ، ويُعلَمُ أنَّ المشهود عليه في ذلك الوقت كان في العراق، أو يشهد على رجل أنَّه فعل شيئًا في وقت، وقد مات قبل ذلك، أو لم يولد إلاَّ بعده، وأشباهها مما يُتَيَقَّن بكذبه، ويعلم تعمده لذلك.
4 لا تثبُتْ بالبيِّنة؛ لأنَّها نفي لشهادته، والبيِّنة حُجَّة للإثبات دون النَّفي، وقد تعارضت البيِّنتان، فلا يُعزَّر في تعارض البينتين، أو ظهور فِسْقه أو غَلَطِه في الشَّهادة؛ لأنَّ الفِسْقَ لا يمنع الصِّدق، والتعارض لا يعلم به كذبُ إحدى البينتين بعينها، ولا غلطٌ قد يعرض للصَّادق العدل، ولا يتعمده فَيُعْفَى عنه[7]، وقد قال الله - تعالى -: ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ? [الأحزاب: 5].
قال الشيرازي من الشافعية، وابن فرحون من المالكية: تثبُتُ شهادة الزُّور من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يقرَّ أنَّه شاهد زور.
والثاني: أنْ تقومَ البينة على أنه شاهد زور.
والثالث: أن يشهدَ ما يقطع بكذبه.
وإذا ثَبَتَ ذلك بالبينة، فعليه العقوبة، سواء أكان ذلك قبل الحكم أم بعده[8].
كيفية عقوبة شاهد الزور:
5 لما كانت الشَّريعة لم تقدر عقوبة مُحددة لشاهد الزُّور، فإنَّ هذه العقوبة هي التعزير، وقد اختلفَ الفُقهاء في عقوبة شاهد الزُّور، من حيثُ تفصيلاتُ هذه العقوبة، لا من حيث مبدأُ عقاب شاهد الزُّور التعزير؛ إذ إنَّه لا خلافَ عند الفقهاء في تعزيره.
إذا ثَبَتَ عند الحاكم عن رجل أنَّه شهد بزُورٍ عمدًا، عزَّره وجوبًا وشهَّر به؛ لما روي عن عمر - رضي الله عنه - وبه قال شريح، وسلام بن عبد الله، والأوزاعي، وابن أبي ليلى.
واختلفوا في كيفية التعزير، فقال الشافعية والحنابلة وبعض المالكية: تأديب شاهد الزُّور مُفوَّض إلى رأي الحاكم، إنْ رَأَى تعزيره بالجلد، جَلَدَه، وإن رأى أنْ يَحبسه أو كَشْفَ رأسه وإهانَتَه وتوبيخه، فعل ذلك، ولا يزيد في جَلْدِه على عشر جلدات، وقال الشَّافعي: لا يبلغ بالتعزيز أربعين سوطًا.
وأمَّا كيفية التشهير به بين النَّاس، فعن الحاكم: يوقفه في السُّوق إن كان من أهل السُّوق، أو محلِّ قبيلته إن كان من أهل القبائل، أو في مسجده إن كان من أهل المساجد، ويقول الموكل به: إنَّ الحاكم يَقْرَأُ عليكم السَّلام، ويقول: هذا شاهد زور، فاعرفوه.
6 ولا يُسَخَّمُ وجْهُهُ - أي: يُسَوَّدُهُ - لأنَّه مُثْلَة، وقد نهى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عن المُثْلَة[9]، ولا يُركِّبُه مَقلوبًا، ولا يكلف الشاهد أن يُناديَ على نفسه، وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعيٌّ، فللحاكم أن يفعل ما يراه، ما لم يخرج إلى مُخالفة نصٍّ أو معنى نص[10].
7 وقال أبو يوسف ومحمد وبعض المالكية: إذا ثبت عند القاضي أو الحاكم عن رجل أنَّه شهد بالزُّور، عوقب بالسجن والضَّرب، ويُطاف به في المجالس؛ لما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه ضَرَب شاهدَ زُور أربعين سوطًا، وسَخَّمَ وَجْهَهُ، وعن الوليد بن أبي مالك: أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى عُمَّاله بالشام: إذا أخذتم شاهد الزور، فاجلدوه بضربه أربعين سوطًا، وسَخِّمُوا وجهَهُ، وطوِّفوا به حتَّى يعرفَه الناس، ويُحلق رأسه ويطال حبسُه؛ لأنَّه أتى كبيرة من الكبائر؛ للحديث السابق.
وقد قرن الله - تعالى - بين شهادة الزُّور وبين الشرك، فقال: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)[الحج: 30]، ولأن هذه الكبيرة يتعدَّى ضررُها إلى العباد بإتلاف أنفسهم وأعراضهم وأموالهم[11].
وقال أبو حنيفة: إذا أَقَرَّ الشاهد أنه شهد زورًا، يُشَهَّر به في الأسواق إن كان سوقيًّا، أو بين قومه إن كان غير سوقي، وذلك بعد صلاة العصر في مكانِ تجمُّع الناس، ويقول المُرْسَلُ معه: إنَّا وجدنا هذا شاهدَ زُورٍ فاحْذَرُوه، وحَذِّرُوه النَّاس، ولا يُعزَّر بالضَّرب أو الحبس؛ لأنَّ شريحًا كان يَشْهَرُ شاهدَ الزور ولا يُعزِّره، وكان قَضَايَاهُ لا تَخْفَى على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ، ولأنَّ المقصود هو التوصل إلى الانزجار، وهو يحصل بالتشهير؛ بل رُبَّما يكون أعظم عند الناس من الضرب، فيُكْتَفى به، والضَّرب وإن كان مُبالغة في الزَّجر؛ لكنه يقع مانعًا عن الرجوع، فوجب التخفيفُ؛ نظرًا إلى هذا الوجه[12].
وذكر الزيلعي نقلاً عن الحاكم أبي محمد الكاتب: أنَّ هذه المسألة على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنْ يرجعَ على سبيلِ التوبة والنَّدامة، فإنَّه لا يعزر بإجماع أئمَّة الحنفية، والثاني أن يرجع من غير توبة، وهو مصرٌّ على ما كان منه، فإنَّه يعزر بإجماعهم، والثالث: ألاَّ يعلم رجوعه بأيِّ سبب فإنه على الاختلاف الذي ذكرنا. [13]
القضاء بشهادة الزور
8 - ذهب جمهور الفُقهاء من المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة، وأبو يوسف ومحمد وزفر من الحنفية، وإسحاق وأبو ثور - إلى أن قضاءَ الحاكم بشهادة الزور ينفذ ظاهرًا لا باطنًا؛ لأنَّ شهادة الزور حُجَّةٌ ظاهرًا لا باطنًا، فينفذ القضاء كذلك؛ لأن القضاء ينفذ بقدر الحجة، ولا يزيل شيئًا عن صفته الشَّرعيَّة، سواء العقود من النِّكاح وغيره والفسوخ، فلا يحل للمُقْضَى له بشهادة الزُّور ما حُكِمَ له به من مال أو بضع أو غيرهما[14]؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما أنا بشر، وإنَّكم تختصمون إلي، ولعلَّ بعضَكم أن يكونَ ألحنَ بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له من حقِّ أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنَّما أقطع له قطعة من النَّار))[15].
وقال أبو حنيفة، وأحمد في رواية: ينفذ القضاء بشهادة الزُّور ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ؛ حيث كان المحلُّ قابلاً، والقاضي غير عالم بزورهم؛ لقول علي - رضي الله عنه - لامرأة أقام عليها رجلٌ بَيِّنةً على أنَّه تزوَّجها، فأنكرت، فقضى له عليٌّ - رضي الله عنه - فقالت له: لِمَ تُزوِّجُنِي؟ أَمَا وقد قضيتَ عليَّ، فجدِّدْ نكاحي، فقال: لا أُجَدِّدُ نكاحَك، الشَّاهدان زوَّجاك، فلو لم ينعقد النِّكاحُ بينهما باطنًا بالقضاء، لَمَا امتنعَ من تجديد العقد عند طلبها.
9 وأمَّا في الأملاك المرسلة - أي: التي لم يُذكر لها سبب مُعيَّن - "فإنَّ الفقهاء أجمعوا على أنَّه ينفذ ظاهرًا لا باطنًا؛ لأنَّ الملك لا بُدَّ له من سبب، وليس بعض الأسباب بأَوْلى من البعض؛ لتزاحمها، فلا يُمكنُ إثباتُ السبب سابقًا على القضاء بطريق الاقتضاء[16].
تضمين شهود الزور:
10 متى علم أن الشُّهود شهدوا بالزُّور، تبيَّن أنَّ الحُكم كان باطلاً، ولزم نقضه وبُطلان ما حكم به، ويضمن شهود الزُّور ما ترتب على شهادتهم من ضمان، فإن كان المحكوم به مالاً، رُدَّ إلى صاحبه، وإن كان إتلافًا، فعلى الشُّهود ضمانه؛ لأنَّهم سبب إتلافه.
وذهب الشافعيَّة والحنابلة، وأشهب من المالكية، إلى وجوب القصاص على شهود الزُّور إذا شهدوا على رجل بما يوجب قتله، كأَنْ شهدوا عليه بقتلٍ عَمْدٍ عدوانًا، أو برِدَّة، أو بزنًا وهو مُحْصَن، فقُتِلَ الرَّجُلُ بشهادتهما، ثم رجعا وأقرَّا بتعمُّد قتله، وقالا: تعمَّدنا الشَّهادة عليه بالزُّور؛ ليقتل أو يقطع، فيجب القصاص عليهما؛ لتعمد القتل بتزوير الشهادة؛ لِمَا رَوَى الشعبي: أن رجلين شَهِدَا عند عليٍّ - رضي الله عنه - على رجل بالسَّرقة، فقطعه، ثُمَّ عادا، فقالا: أخطأنا ليس هذا هو السَّارق، فقال علي: لو علمت أنَّكما تعمَّدتُما، لقطعتكما، ولا مخالفَ له في الصَّحابة، فيكون إجماعًا، ولأنَّهما تسبَّبا في قتله وقطعه بما يُفضي إليه غالبًا، فلزمهما القصاص كالمكره، وبه قال ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، وأبو عبيد.
11 - وكذلك الحكم إذا شهدوا زورًا بما يجب القطع قصاصًا في قَطْع أو في سرقة، لزمهم القطع، وإذا سرى أَثَرُ القَطْع إلى النَّفس، فعليهما القصاص في النَّفس، كما يجب القصاصُ على القاضي إذا قضى زورًا بالقصاص، وكان يعلم بكذب الشُّهود، وتجب عليهما الدِّيَة المغلظة إذا قالا: تعمَّدنا الشَّهادة عليه، ولم نعلم أنَّه يقتل بهذا، وكانا مما يحتمل أن يجهلا ذلك، وتجب الدية في أموالهما؛ لأنَّه شبه عمد ولا تحمله العاقلة؛ لأنَّه ثَبَتَ باعترافهما، والعاقلة لا تحمل الاعتراف[17].
12 - وإن رجع شهود القصاص أو شهود الحدِّ بعد الحكم بشهادتهم وقبل الاستيفاء، لم يُسْتَوْفَ القَوَد ولا الحدُّ؛ لأنَّ المحكوم به عقوبة لا سبيلَ إلى جبرها، إذا استوفيت بخلاف المال، ولأنَّ رجوعَ الشُّهود شبهة لاحتمال صدقهم، والقَوَد والحد يُدرأان بالشُّبهة، فينقض الحكم، ولا غُرْمَ على الشهود؛ بل يُعزَّرون.
ووجبت ديةُ قَوَدٍ للمشهود له؛ لأنَّ الواجب بالعمد أحدُ شيئين وقد سقط أحدهما، فتعيَّن الآخر، ويرجع المشهود عليه بما غَرِمَه من الدِّية على الشُّهود[18].
وذهب الحنفيَّة، والمالكيَّة - عدا أشهب - إلى أنَّ الواجب هو الدِّية لا القصاص؛ لأن القتلَ بشهادة الزُّور قتلٌ بالسبب، والقتل تسبُّبًا لا يساوي القتلَ مُباشرة؛ ولذا قصر أثره، فوجبت به الدية لا القصاص[19].
13 ويجب حدُّ القَذْف على شُهودٍ إذا شهدوا بالزِّنا، ويُقام عليهم الحدُّ، سواء تبيَّن كذبهم قبل الاستيفاء أم بعده، ويُحدُّون في الشهادة بالزِّنا حَدَّ القذف أولاً، ثم يقتلون إذا تبين كذبهم بعد استيفاء الحد بالرجم.
وذلك عند الشافعية؛ لأنَّهم لم يقولوا بالتداخل في هذه المسألة، وأمَّا عند الجمهور، فإنْ كان في الحدود قتل، فإنَّه يُكتَفى به؛ لقول أبي مسعود - رضي الله عنه - "ما كانت حدود فيها قتل إلا أحاط القتل بذلك كله"، ولأنَّه لا حاجةَ معه إلى الزَّجر بغيره، واستثنى المالكيَّة من ذلك حد القذف، فقد ذكروا أنَّه لا يدخل في القتل؛ بل لا بُدَّ من استيفائه قبله[20].
توبة شاهد الزور:
13 ذهب الحنفية والشافعية، والحنابلة وأبو ثور، إلى أنَّه إذا تاب شاهدُ الزُّور، وأتت على ذلك مُدَّة، فظهر فيها توبته، وتبيَّن صدقه فيها وعدالته - قُبلت شهادته؛ لقوله - تعالى -: ?إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا? [آل عمران: 89] [النور: 5]، ولأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((التائب من الذَّنب كمن لا ذنب له))[21].
ولأنَّه تائب من ذنبه، فقبلت توبته كسائر التَّائبين.
ومُدَّة ظهور التوبة عندهم سَنَة؛ لأنَّه لا تظهر صِحَّة التوبة في مدة قريبة، فكان أَوْلَى المُدَدِ بالتقدير سنة؛ لأنه تَمُرُّ فيها الفصول الأربعة التي تهيج فيها الطبائع، وتتغير فيها الأحوال[22].
وقال البابرتي من الحنفية: مُدَّة ظهور التوبة عند بعض الحنفية ستة أشهر، ثم قال: والصحيح أنَّه مفوض إلى رأي القاضي[23].
وقال المالكيَّة: إن كان ظاهر الصَّلاح حين شهد بالزُّور، لا تقبلُ له شهادة بعد ذلك؛ لاحتمال بقائه على الحالة التي كان عليها، وإن كان غير مظهر للصَّلاح حين الشَّهادة، ففي قبولها بعد ذلك إذا ظهرت توبته قولان[24].
____________
[1] "المفردات في غريب القرآن"، و"لسان العرب"، و"مختار الصحاح"، و"المصباح المنير"، مادة: "شهد".
[2] "حاشية الطحاوي على الدُّرِّ المختار"، (3/260)، طبعة دار المعرفة، بيروت، و"العناية بهامش فتح القدير"، (3/226)، طبعة بولاق، و"مواهب الجليل"، (6/112)، طبعة دار الفكر، بيروت، و"فتح الباري"، (10/412)، طبعة الرياض الحديثة، و"القرطبي"، (12/55)، دار الكتب، سنة 1964.
[3] حديث ((عُدِلَت شَهَادَةُ الزُّور بالإشراك بالله))؛ أخرجه ابن ماجه، (2/794)، طبعة الحلبي، وأعلَّه ابن حجر في "التلخيص"، (4/90)، طبعة شركة الطباعة الفنية، بقوله: "إسناده مجهول".
[4] حديث ((ألا أنبِّئكم بأكبرِ الكبائر))؛ أخرجه البخاري، "الفتح"، (10/405)، طبعة السلفيَّة، و"مسلم"، (1/91)، طبعة الحلبي.
[5] حديث ((لن تزول قدما شاهد الزُّور))؛ أخرجه ابن ماجه، (2/974)، طبعة الحلبي، وقال البوصيري: "إسناده ضعيف"، كذا في "مِصباح الزجاجة"، (2/38)، طبعة دار الجنان.
[6] "العناية بهامش فتح القدير"، (6/84)، طبعة بولاق، و"المبسوط"، للسرخسي، (26/145)، طبعة دار المعرفة، بيروت، و"بدائع الصنائع"، (6/289، 290)، طبعة دار الكتاب العربي، و"أحكام القرآن"، للجصاص، (3/41)، و"تبيين الحقائق"، (4/223)، طبعة دار المعرفة، بيروت، و"الشرح الصَّغير"، (4/744)، طبعة دار المعارف بمصر، و"القرطبي"، (12/55)، طبعة الكتاب، و"رَوْضة الطَّالبين"، (11/45)، طبعة المكتب الإسلامي، و"المهذب"، (2/329)، طبعة دار المعرفة، بيروت، و"القليوبي وعميرة"، (4/319)، طبعة عيسى الحلبي، و"المغني"، (9/260)، طبعة الرياض، و"أعلام الموقعين"، (1/119)، طبعة دار الجيل.
[7] "المبسوط"، للسرخسي، (16/145)، و"فتح القدير"، (6/83)، و"تبيين الحقائق"، (4/241)، و"مواهب الجليل"، (6/122)، و"روضة الطالبين"، (11/145)، و"أسنى المطالب"، (4/358)، و"المغني"، (9/262).
[8] "المهب"، (2/329)، طبعة دار المعرفة، بيروت، و"تبصرة الحكام"، (2/25).
[9] حديث "نَهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة"؛ أخرجه البخاري، "الفتح"، (5/119)، طبعة السَّلفيَّة، من حديث عبدالله يزيد.
[10] "المدونة"، (6/203)، طبعة دار صادر، بيروت، و"تبصرة الحكام"، (2/213)، طبعة دار الكتب العلميَّة، و"الشرح الصغير"، (4/206)، طبعة دار المعارف بمصر، و"المهذب"، (2/230)، و"روضة الطالبين"، (11/144، 145)، و"المغني"، (9/260 262)، طبعة الرياض.
[11] "بدائع الصنائع"، (6/289، 290)، و"فتح القدير"، (6/83)، و"البحر الرائق"، (7/125)، و"أحكام القرآن"، للجصاص، (3/241)، و"تبيين الحقائق"، (4/242)، و"شرح العناية بهامش فتح القدير"، (4/84)، و"ابن عابدين"، (4/395)، و"الشرح الصغير"، (4/206)، و"القوانين الفقهية"، (ص: 302)، طبعة دار القلم، بيروت، و"تبصرة الحكام"، (2/213).
[12] "البحر الرائق"، (7/125، 126)، و"تبيين الحقائق"، (4/242)، و"العناية بهامش فتح القدير"، (4/84)، و"حاشية الطحطاوي على الدُّرِّ المختار"، (3/260)، و"البدائع"، (6/289، 290).
[13] "تبيين الحقائق"، (4/242).
[14] "ابن عابدين"، (4/333)، "الشَّرح الصَّغير"، (4/295)، و"روضة الطالبين"، (11/152)، و"القليوبي"، (4/304)، "المهذب"، (2/343)، و"المغني"، (9/60).
[15] حديث ((إنَّما أنا بشر، وإنَّكم تختصمون إليَّ))؛ أخرجه البخاري، "الفتح"، (12/339)، طبعة السلفيَّة، و"مسلم"، (3/1337)، طبعة الحلبي من حديث أمِّ سلمة.
[16] "ابن عابدين"، (4/333)، و"المغني"، (9/60).
[17] "روضة الطالبين"، (11/299، 300)، و"نهاية المحتاج"، (8/211)، و"المهذب"، (ص: 341)، و"المغني"، (9/245 247، 251، 255، 262)، (7/645، 646)، و"كشاف القناع"، (6/443)، و"الشرح الصَّغير"، (4/295)، طبعة دار المعارف بمصر.
[18] المراجع السَّابقة.
[19] "بدائع الصنائع"، (6/285)، و"الشرح الصغير"، (4/295).
[20] "فتح القدير"، (4/208)، طبعة بولاق، "الدسوقي"، (4/347)، طبعة دار الفكر، و"روضة الطالبين"، (10/164)، طبعة المكتب الإسلامي، و"المغني"، (8/213، 214)، طبعة الرياض.
[21] حديث ((التائب من الذئب كمن لا ذنب له))؛ أخرجه ابن ماجه، (2/1420)، طبعة الحلبي، من حديث ابن مسعود، وفي إسناده مقال، ولكن حسَّنه ابن حجر لشواهده، كذا في "المقاصد الحسنة"، للسخاوي، (ص: 152)، طبعة الخانجي.
[22] "شرح العناية بهامش فتح القدير"، (6/84)، و"روضة الطالبين"، (11/245، 248)، و"المذهب"، (2/332)، و"المغني"، (9/202).
[23] "شرح العناية بهامش فتح القدير"، (6/84).
[24] "الشرح الصغير"، (4/26).

اكتب تعليق

أحدث أقدم