رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن الحضارة الإجتماعية

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن الحضارة الإجتماعية



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
لم يكنِ النظامُ الاجتماعي الذي وضعه الإسلامُ لتحيا به المجتمعات كلُّها على اختلاف أزْمِنتها وأمكنتها، لم يكن هذا النظام الاجتماعي "اليوم" نظامًا عقليًّا بحتًا، أو نظامًا عقليًّا تمدُّه عاطفة الإيمان فحسْب، فإنه مع كونه نظامًا عقْليًّا راشدًا يغذيه القلبُ المؤمن، والفطرةُ الصحيحة التي فطر الله - تعالى - عليها الإنسان، مع كلِّ هذا فإنه نظام مُجرَّبٌ، صنَعَ حضارةً عريقةً، ثم كان هذا النظام في ذاته حضارةً كبيرةً في المجتمعات المسْلِمة، والمعْنِيَّة به كنظام شامل يربط بين أفراد المجتمع الواحد، فيجعلهم وحدةً واحدةً تشيد حضارةً واحدةً.
فالنظام الاجتماعي الإسلامي نظامٌ معتدل، لا يخالف الفطرةَ، ويرتضيه العقلُ البشري، ثُم يغذيه القلبُ المؤمن، فيكون في النهاية نظامًا حيًّا، وحضارةً واحدة، ثم يثْمِر أو يصنع حضاراتٍ ماديةً ومعنويةً.
ولأنَّ النظام الاجتماعي في كلِّ أُمَّة هو لَبِنة وجودِها الأُولى، وهو كذلك أساس بنائِها الحضاري؛ فقد اعتنَى الإسلامُ بالنظام الاجتماعي، وجعَلَ مفرداتِه عباداتٍ يتقرب بها المسلم إلى الله؛ كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
بل وجاء الحثُّ عليها أعظمَ مِن الحثِّ على العبادات؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رجُلاً جاء إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله - عزَّ وجلَّ -؟ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سُرورٌ تُدْخِله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تَقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأَنْ أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد - قال ابن عمر: يَعني مسجد المدينة - شهرًا، ومن كفَّ غضبَه ستر الله عورتَه، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يُمضِيَه أمْضاه، ملأ الله - عزَّ وجلَّ - قلبَه أمْنًا يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى أَثْبَتَها له، أثْبَت الله - عزَّ وجلَّ - قدَمَه على الصِّراط يوم تزِلُّ فيه الأقدام))؛ أخرجه الطبراني في الكبير والصغير، وحسَّن الألباني في "الصحيحة" روايةَ ابن أبي الدنيا وابنِ عساكر للحديث.
ويقف الإسلام لكلِّ مرض أو آفة من شأنه أو شأنها إضعافُ الكيان المسْلِم الواحد، الذي هو المجتمع، فيَبْترها بتْرًا تامًّا؛ ليصلح الجسد الواحد، ويأتِيَ بالثمار المرجوَّة لاجتماعه.
ففي القرآن: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
وفي السورة نفسها: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 9 - 13].
فجَمعت الآيات بين أمره - تعالى - بالتبيُّن من نبأ الفاسق، وبالإصلاح بين الطائفتين المسلِمَتين، وبقتال الفئة الباغية منهما، واجتناب الظن، وبيْن نَهْيِه - تعالى - عن السُّخْرية واللَّمز والتنابز والتجسُّس والغيبة، فكانت أوامرَ ونواهيَ محوريةً، تَحْفظ على الجماعة وَحدتَها.
ويقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تَحاسَدوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضوا، ولا تدَابروا، ولا يَبِعْ بعضُكم على بيع بعض، وكُونوا عبادَ الله إخوانًا، المُسْلم أخو المسلم؛ لا يَظلمه، ولا يَخذله، ولا يَحْقِره، التقوى ها هنا - ويشـير إلى صَدْره ثلاثَ مرات - بِحَسْبِ امْرِئٍ من الشَّر أن يَحْقِر أخاه المسلِمَ، كلُّ المسلمِ على المسلم حرامٌ؛ دَمُه، ومالُه، وعِرضُه))؛ أخرجه مسلمٌ من حديث أبي هريرة.
إنما المؤمنون إخوة:
وكان المبدأُ الذي يقوم عليه النظام الاجتماعي في الإسلام هو تحقيقَ الإخاء الديني بين أفراد المجتمع المسلم، كما مرَّ في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ [الحجرات: 10]، وفي قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلم أخو المسلم)).
فكان هذا الرِّباطُ القويُّ - رباطُ الإخاء بين المسلمين جميعًا - الداعمَ الأوَّلَ لوَحْدة الجماعة المسلِمة في قلْب كلِّ فرد من أفراد المجتمع، فالإخاء يَعني جمْعَ الأفراد في قالب إيماني واحد، يجعلهم في النهاية فردًا واحدًا.
كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تَرى المؤمنين في تراحُمِهم وتوادِّهم وتعاطفهم كمَثَل الجسد؛ إذا اشتكى عضْوٌ، تَدَاعى له سائر جسده بالسَّهَر والحُمَّى))؛ متفق عليه من حديث النعمان بن بشير، وتتهاوى بعد ذلك كلُّ رابطة أخرى لا تقوم على الإيمان أو بالإيمان.
فكل فرد في المجتمع المسلم مُخاطَب بقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه))؛ متفق عليه من حديث أنس.
ومن الإخاء يكون الحبُّ والرحمة، والفضْلُ الذي هو فوق العدل!
رصيد التجربة:
كان لِتجرِبة النظام الاجتماعي في المجتمع الإسلامي في قُرون التَّمْكين للإسلام - رصيدٌ كبيرٌ، يُضاف إلى استحسانه عقليًّا، وقَبوله فطريًّا.
وقد كانت هذه التجربةُ في مجتمع الرَّعِيل الأول - مجتمع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرَ مِثَال، وخيرَ تجربة ناجحة، يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "قَدِم عبدُالرحمن بن عوف المدينةَ، فآخى النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بينه وبين سعد بن ربيع الأنصاري، وكان سعْدٌ ذا غنًى، فقال لعبدالرحمن: أقاسمك مالي نصفين، وأزوِّجك، قال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلُّوني على السوق"؛ رواه البخاري.
وهكذا كانت ثمرة الإخاء بين أفراد المجتمع المسلم في زمن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ثم كانت التجربة ذاتُها في مجتمع الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - حتَّى أضْحت النُّظُم الاجتماعية الإسلامية "حضارةً اجتماعيةً" كُبْرى، انطلقت لتشمل كلَّ الأمصار المفتوحة بعد ذلك.
ولم يَعُقِ النظامَ الاجتماعيَّ الإسلامي كثرةُ الفتوحات، وزيادةُ أفراد المجتمع - عن استمرار قوانين بقائه وعطائه في المجتمع المسلم "الواحد" الكبير؛ بل سايَرَ النظامُ الاجتماعي الواقعَ الجديد بأصول المنهج ذاتِه، القابلة لحدوث التغيُّر الزماني والمكاني.
فأنشأ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بيت مال المسلمين؛ لسدِّ حاجات الناس المتغايرة مع توسُّع بقعة الإسلام، يقول الشافعي - رحمه الله - كما في "سنن البيهقي": "أخبرنا الثِّقة مِن أهل المدينة قال: أنفق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على أهل الرَّمادة حتى وقـع مطر، فترحَّلوا، فخرج إليهم عمر - رضي الله عنه - راكبًا فرسًا، فنظر إليهم وهم يترحَّلون بظعائنهم، فدمعتْ عيناه، فقال رجل من بني محارب بن خصفة: أشهد أنها انحسَرَت عنك ولستَ بابْنِ أمَة، فقال له عمر - رضي الله عنه -: ويلك! ذلك لو كنتُ أنفقتُ عليهم من مالي أو من مال الخطاب؛ إنما أنفقتُ عليهم من مال الله - عزَّ وجلَّ -".
فالتشريع الصَّالِح لكل زمان ومكان، غيرُ عاجِز عن الإدارة الاجتماعية للبلاد والعباد في كل مجتمع ينقاد له، ونحن اليومَ وعلى الرغم من بُعدِ مجتمعات المسلمين عن الالتزام الواجب بالنظم الاجتماعية الإسلامية على مستوى الجماعة، على الرغم من هذا البُعد نرى جهودًا اجتماعيةً فرديةً محمودةً ومثمِرةً، تغطِّي حاجات الكثيرين من أهل الإسلام، وهي - لا شكَّ - بقايا تسلسليةٌ من مَسيرة النظم الاجتماعية التي عاشها المسلمون إبَّان ظهور الإسلام في المجتمعات المسلمة.
وبعد:
فالاستحسان العقلي، والمدُّ الإيماني، والموافَقة الفطرية، والتجربة السابقة وبقاياها إلى اليوم، كلُّ هذا مَدْعاة ضرورية لكي تُولِّي الشعوبُ المسلمةُ وجوهَها نحو دينِها وحده - كاملاً غير منقوص - لحلِّ مشاكلها الاجتماعية وغير الاجتماعية، وتُخلِّي عنها كلَّ نظام غير منبثق من نظُمِها التي وضعها الله لها؛ لتكون خير أمَّة أخرجتْ للناس.

اكتب تعليق

أحدث أقدم