رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فلسفة الإسلام

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فلسفة الإسلام



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الحقيقة كالنجمة تنبثق عنها الأشعة، فتذهب في الجهات المختلفة، فتبدو لكل ناظر بجهة حسب مكانه، كأن لها أمكنة ستة، وقدماً شبهت بمثل الفيل يلمسه العميان (بنو الإنسان)، فيصفه كل بحسب العضو الذي وقع عليه، وما هي إلا حقيقة واحدة، ولو أوتي الناس سعة في النظر وشمولاً وإحاطة، ووقفوا على كنه الشيء وعوامله الأساسية، وغاياته القريبة والبعيدة، لاهتدوا إلى قول واحد وما ضلوا ضلالاً بعيداً، ولكن لله حكمة اقتضت أن يودع في المرء قوى مادية ومعنوية جسمية ونفسية، وأن يدع له تصرفه بحرية تناسب ما وهبه من إرادة جزئية، ليجزي كل بما اكتسبه فـ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت: 46] ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49] ما دامت كلمات الله غير مبدلة ﴿ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ [يونس: 64] وما دام من قوله: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286] فالذي يثبت شيئاً أو ينكره، ويدع أمراً أو يأخذ به، أو يكون بين ذلك في شك أو حيرة فإنما يمثل دوراً قائماً على أساس من فطرة الوجود ونظام الخليقة، غير أن الدور الذي يثبته الاستقرار، وتسامته الحقيقة، فيدرك نفسه بذاتها وبما يحيط بها إنما هو الذي يسلم به العقل الرشيد ببحثه، ويطمئن إليه القلب البصير بإيمانه، فيكون كالثقة في مكانها، تنام معها بملء الجفون هانئاً، وما هو من نوم ذي غفلة والنفس آمنة مؤمنة.
إن النظريات قد تشعبت وتناقضت، و«الحقيقة» بين ذلك قد ضاعت أو أوشكت، فترى المادي غارقاً في وثنيته، وترى الروحي محلقاً بأجنحته، حتى كان هذا وذاك في عدم من وجوده، أما الرأي الصليب والخَلْق السوي والحقيقة المتلألئة، فهي الوجود كل الوجود، غير أنها من استقرارها كالنفس المستغرقة في أحلامها، ثابتة لا تراها كل عين، وإذا رأتها العين المبصرة رأتها منطلقة منطلقة.
وإذا أردنا أن نستعرض المذاهب والنظريات قديمها وحديثها في شعب الحياة كلها وفي شؤون الدنيا جميعها على اختلافها، وكنا عرفنا الإسلام وفهمنا روحه وأدركنا مدى نظراته، فإنا نراه منها جميعاً أنه وسطاً يتصل بهذا الرأي وذاك بنسبة ما فيها من مغناطيس الحقيقة، وينفصل عنها وينفر منها بنسبة ما تعاكست فيها، وهذا ما يكشف معنى من معاني قوله تعالى إذ خاطب المسلمين بقوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143] إن الإسلام دين الحقيقة التي تدور مع الزمن ويدور بها الزمن فتبقى هي هي دون أن تتبدل، لأنه دين الفطرة ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30]، ولهذا كان القرآن بحقائقه الثابتة يتجدد مع الزمن فيكون تفسيره دائرة معارف العصر الذي فسر فيه لأنه يحدث عن الحقيقة بروح الحقيقة، فله مزاياها جميعاً.
وإذا أردنا أن نقيم الدليل على ذلك فما علينا إلا أن نسير مع نظرات الإسلام فنرى مبلغ إحاطته، وأن ننظر فيما وجه إليه العقول وما كشف به عن البصيرة، وأن نقارن بين ما أتى به وما أتت به الأمم الأخرى قاطبة، سواء من النظريات والمذاهب التي تتناول الإنسان كفرد أو جماعة، أو تتناول الحياة كفكرة أو عاطفة أو نظرة عامة بما فيها من قوانين ومذاهب أخضعها الإنسان لسلطانه أو أخضعت الإنسان لسلطانها.
نظرات الإسلام الشاملة:
إن الإسلام كدين سماوي أوحى به من خلق السماء والأرض وما بينهما، وكان بما خلق عارفاً ولما خلق مقدراً ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]، فإنه لا يتحدث عن شيء إلا كان حديثه عنه حديث من عرفه وأحاط بما أحاط به، مع بواعثه وغاياته وكنهه وعوامله، قال الله تعالى في معرض تأييده القرآن الكريم بوحيه: ﴿ قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الفرقان: 6]، لذلك ينطوي لفظه على معاني كالآفاق الرحبة يدرك منها كل سامع بقدر علمه.
وبهذا الاعتبار فإنك إذا نظرت في كثير من آيات الذكر الحكيم، وأحاديث النبي العظيم فإنك تدرك ما لم تكن مدركاً له، من صلة ما بين لفظة ولفظة، ولفظة وفكرة، وفكرة واستعارة، وفكرة وفكرة، وما إلى ذلك، وتدرك صلة ما بين آية تتلوها آية، وسورة تضم أبحاثاً تظنها شتيتة، وإن هذه النظرة هي التي ترينا عاملاً من عوامل إبداعه صلى الله عليه وسلم في جوامع كلمه، فالمعاني لديه منبسطة والحقائق واضحة، وحسبك أن تسمعه في موقف من مواقفه يقول: «ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار...»، إنه رأى الحياة بأولها وأخرها بنور من ربه، فإذا تحدث عن شيء منها كان حديثه جامعاً مانعاً يحيط به بنظرته الشاملة، وهذا ما يكشف لنا عن معاني ينطوي عليها مثل قوله:«الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء من الإيمان»، فقد رأى صلى الله عليه وسلم «الإيمان» و«الحياء» كل بمعانيه وغاياته، فأدرك ما بينهما من صلة، فقال حديثه الآنف وبهذا الاعتبار تدرك ما بين «الربا» و«الزنا» من صلة انطوت عليها نظرته صلى الله عليه وسلم في قوله:«الربا ثلاث وسبعون باباً أيسرها مثل أن ما ينكح الرجل أمه»، وفي قوله:«إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ستة وثلاثين زنية يزنيها الرجل» فالزنا والربا يذهبان بالمروءة والرجولة ويفسدان المجتمع ويحدثان الشرور، فمن أدرك مثل آثارهما هذه بمعرفة الإنسان وعالمه النفسي والمجتمع وعوامل الخير والشر فيه، علم أين موقف الرسول في أي ذروة إذ كان يقول أمثال أقواله الآنفة.
فما تحدث الإسلام عن شيء وكان ضيق النظرة سواء أكان ذلك بلسان القرآن ذاته أو بلسان النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، وإنما كان يتحدث حديث من كانت الدنيا بقبضته وأنظمتها من أمره ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60]، حتى إنه فيما أتى به من تعابير إسلامية لم يجمد عليها، ولم يتقيد فيها بنطاق ضيق، وهذا «الكفر» يراه أنواعاً كما تفهم ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم إذ قال:«أريت النار فإذا أكثر أهل النساء يكفرن؟ قيل:«أيكفرن» بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط» وهذا «الإسلام» وهذه «الهجرة»، في قوله:«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، فإنه يرى الإسلام بروحه وغاياته، ولا يقف منها عند ألفاظ وعبادات وطقوس ولو أنه هو الذي أتى بها كما تفهم ذلك من روح قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 177]، ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ﴾ [البقرة: 189]؛ وكذلك رأى الهجرة «هجرة» في دنيا الأعمال ولم يقف منها عند المعنى الأولي من معانيها، فكما ترى الدنيا أمكنة يهاجر فيها فكذلك رأى صلى الله عليه وسلم الأعمال دنيا بما فيها من حسنات وسيآت وأوامر ونواهي، يهاجر فيها عما نهى الله عنه...
وإذا استقر في نفس القارئ ما أسلفناه، وأدرك القول بمرماه، عرف مكانة الإسلام العلمية وحظه من الحقائق على اختلافها، وانكشفت له معاني من قوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، فكان على مثل اليقين من أن الإسلام بما أتى به نور ورحمة وهدى للعالمين وشفاء لما في الصدور.
وقد كان ما قررناه بهذا القول مستقراً في نفوس الصحابة فكانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن كل ما يخطر ببالهم ضمن نطاق الآداب التي رسمها لهم، وكان المنكرون من المنافقين والكافرين بسبيل من تأييد هذه الحقيقة بما كانوا يوردون على الرسول الكريم من أسئلة تريك الإسلام أي وجهة وجه النفوس إليها، وأي الآفاق اتجه معهم إليها، حتى سألوه عن الجبال ومنتهاها، وعن الأهلة وحقيقتها، بل وعن الروح وكنهها، فكان يجيبهم جواب مدرك للحقيقة ومعانيها، مورداً لهم منها ما يتناسب مع أفهامهم ومستوى إدراكهم..
ما وجه الإسلام العقول إليه:
لقد وجه الإسلام الأفكار إلى الآفاق الرحبة، وفتح باب المعارف على مصراعيها، فقال جل شأنه: ﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 101]، وأوضح لهم ما أوضح ومهد لهم سبيل النظر، ذلك لأنه كان هو بذاته يرى في هذا السبيل تأييده وتمكينه.
إن الحقيقة تؤيد الحقيقة والشعاع يتصل بالشعاع، فإذا ما بينهما نور ووضوح، لهذا كانت مناهج الإسلام علمية كما كانت نفسية، ولهذا كان الإسلام علماً كما كان عقيدة، فهو وحي يؤيد عقلاً وينتصر له انتصاراً جعل العقل مؤيداً لوحيه، لأن كلاهما نور من ربك يكشف عن الحقيقة أية كانت هذه الحقيقة.
لقد كانت الحقائق قديماً ترى على ضوء المنطق وأقيسته بالاستنتاج القائم على البدائة الأولية مثل علم الهندسة، فرأى المسلمون في ذلك سبيلاً موروداً غايته الحقيقة، فاتبعوه زمناً طويلاً وهم مطمئنون إلى أن ذلك مما يرضي وجدانهم الديني كما يرضي عقلهم العلمي، كما ترى ذلك في قول القاضي ابن رشد في رسالته فصل المقال: «وإذا كانت هذه الشرائع حقاً، وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له...» وما علماء الكلام وفلاسفة الإسلام غير مناطقة وتلامذة للمدارس اليونانية سقراطيها وأفلاطونيها إلى آخر ما هنالك.
وقد أورد ابن رشد في مقالته الآنفة الذكر ما يؤيد فيه منهاج «النظر البرهاني» القائم على القياس النظري حسب قواعد علم المنطق.
ثم لما جاءت الحضارة الآلية، وتبدلت دنيا المعارف في كثير من فروعها، وتزلزلت تلك البدائه والنظريات، ففسد بنيان الثقافة، وشك أولو النظر والبصيرة، حتى أصبح «الشك» فضيلة عقلية رفعت من شأن «ديكارت» إلى مصاف أولى المذاهب الفلسفية المحترمة، فإن الحقائق قد تلمست طريقاً آخر وتركت المنطق واستنتاجاته الخيالية، فإذا بها تقوم على أسس علمية ومؤيدات حسية تمكن العالم والجاهل القريب والبعيد أن يراها مثل غيره كما يرى ما في هذه الدنيا بحواسه الخمسة وبذلك شغل السمع والبصر المكان الأول وطغت الفكرة المادية مع طغيان الآلة وأصبح المختبر هو كل شيء، وأصبح يلتمس لكل شيء علة آلية، فأنكرت الروح والروحانيات وتزلزلت المعتقدات، واعتبر الدين آفة موروثة، فمنهم من احترمها على عللها بدافع من الأنانية واحترام الآباء باحترام ما كانوا عليه، وبقوة سيطرة العقل الباطل ومدى سلطانه والتمسوا المبررات فقالوا: إن الدين كالعاطفة فلا يوضع تحت المجاهر الفاحصة كالعلم، لأن العلم خلق ليملأ الرأس بنوره، والإيمان وجد ليملأ قلباً بحرارته، ومنهم من جاهر برأيه وحارب الدين كما تحارب الخرافة، بل حاربه بقوة عنيفة كما تراءى له بهذه العين الساخطة.
وعين الرضى عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
إذ اعتبره حركة اجتماعية كانت من أهم العوامل المفسدة لهذا المجتمع حتى سادته الطبقات وتصرفت فيه فئة دون فئة، وهذا ما كان من نظر الشيوعية التي اعتبرت الدين أفيون الشعوب، فحاربته كما حاربت النظام الطبقي، وألغته مع أحكامه، وحطمته كما حطمت الملكية والأسرة، ولم تؤمن إلا بالمادة ولم تر فيها إلا حياة تحتاج إلى خبز، إلى خبز فحسب حلمت بأنه عنوان السعادة..
ومن الناس من وقف في ذلك موقفاً وسطاً فنادى بالفكرة «العلمانية» قائلاً: لكل دينه ومعتقده، وما علينا منه إلا أن نحترمه ما دام مخلصاً في عاطفته الدينية، وما دام دينه لا يتجاوز حدوده كفرد حر من حقه أن يتصرف بذاته، حباً وبغضاً، سلباً وإيجاباً، إيماناً وكفراً.
لقد لقيت الفكرة العلمانية تأييداً من كل دولة حتى التي تقيدت بدستورها بدين رسمي، لأن العلمانية وثيقة الصلة بالحرية التي آمن الناس بها الإيمان كله رغم ما نرى من طغيان الديكتاتورية وتصرف فرد في دولته في عصر سادت فيه فكرة سيادة الشعب وأن السلطة له.
لهذا غير عجيب أن نرى في باريز مثلاً مسجداً إسلامياً، وإن كنت لا أجهل أن للعوامل السياسية يداً، وأنها تظهر الحرية العلمانية بمظاهر مرنة تتكيف بحسب مصالح الدول القوية المستعمرة، بل إن روسيا الشيوعية نفسها قد اتخذت من العلمانية ستاراً لخطتها الهدامة إرضاء للشعور العام وجرياً مع ما تقتضيه الدعاوة التي تلعب اليوم في السياسة العالمية دوراً هاماً...
ولا أطيل القول في الأمور الواقعية والتطبيقات العملية، ما دامت من بحثي كهامش حول فكرة، فأرد القول إلى أصل الفكرة، وهي أن العقل والدين قد تصادما لاختلاف سبيل اكتشاف الحقيقة وابتنائه على أسس مادية ترى في الحواس وسائلها الوحيدة دون المنطق وافتراضاته الوهمية...
هذا ما كان في أوربا منذ عهد، وأوروبا ممثلة للفكرة الإنسانية إذ كان الشرق في غفلة (والإسلام شرقي بصورته العامة) كأنه ليس من الدنيا ولا يد له في تصريف أمورها وتحريك دولابها.
غير أنه استيقظ الشرق [وما نهضة الشرق إلا بنهضة العرب، والعرب من الإسلام مادته الأساسية، حتى قال (بعض المستشرقين): لا ينهض الشرق إلا بنهوض العرب]، فإن علماء الإسلام رأوا دينهم ديناً عصرياً، فكافحوا خصومه، وانتصروا للإسلام قائلين: إنه دين الحقيقة، وقد تمركزت هذه الحركة بالمصلح الكبير المرحوم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، فكان لقوله وأنصاره ضجة لقيت خصومة، فكانت بين أعداء وصموا الإسلام بما تراءى لهم بنتيجة دراساتهم الناقصة، أو بما شاءت لهم أهواؤهم الاستعمارية، وكانت بين أبناء المسلمين الذين جهلوا الإسلام لولا بقية من إرث موروث لا يكشف عن حقيقة الإسلام ونوره حتى قال فيما قاله المرحوم الشيخ محمد عبده:
ولست أبالي أن يقال محمد
أبل أو اكتظت عليه المآتم
ولكن ديناً قد أردت صلاحه
أحاذر أن تقضي عليه العمائم
وهكذا جاءت النهضة الإسلامية تتلمس استقرارها في هذا العصر في وقت بلغت فيه الحالة الفكرية في الغرب درجة جعلته يتلمس العصر استقراره، لأن الفكرة المادية والروح الآلية لم تملأ فراغ النفس ولم توقد جذوة الروح، فكان لهذا الخلاء وهذه البرودة ألم نفسي دفع الغربيين إلى أن يتلمسوا كيانهم الروحي، فكان لبعضهم بعض ما أراده، إذ جاء التنويم المغناطيسي ومخاطبة الأرواح مؤيداً وجود حياة روحية في حين جاءت فيه الأبحاث المادية مقرة بعجزها عن إدراك الماهيات والعلل الأولية والغائية، وفي حين ظهرت فيه المادة بمظاهر قوة وكهارب وطاقة تدع الجوهر الفرد ونظريته خرافة ماضية، كما تركت من قبل نظرية العناصر الطبيعية الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب) بأن ردت هذه العناصر إلى أجسام بسيطة أولية كمولدي الماء والحموضة.
ومع ذلك فإن الإيمان بالروح وبأن ثمة عالم روحاني لا يغني غناء مذهب ذي عقائد مقررة وعبادات مرعية وشعائر محترمة، أو يغني مركب برؤيته عن امتطائه تخلصاً من أمواج صاخبة.
فالشرق والغرب اليوم في هذا المنقلب غير أن ما يؤلم الشرق هو غير ما يؤلم الغرب، وإن يكن ما يؤلم الغرب قد جاءنا عن طريق العدوى مع ما جاءنا من مدنية الغرب بحضارته الآلية وثقافته المتقلقلة بعلومها وآدابها.
وقد نظر علماء المسلمين الذين أخذوا حظهم من الثقافتين الشرقية والغربية، وعرفوا المناهج القديمة والحديثة، فرأوا أن دينهم يجري من الفطرة الإنسانية على وفاق مطرد، يتراءى بأثواب «الحقيقة» من حيثما اتجهت إلى «الحقيقة» فنظرت إليها، فكتبوا المقالات ونشروا المؤلفات مؤيدين المناهج العلمية العصرية متثبتين من أن الإسلام كما ثبت في العهد الذي كانت للمنطق فيه دولة، فإنه هو هو بقدمه الراسخ لا تتزلزل «حقائقه» في العصر الحاضر ما دام قد سبق العصر الحاضر بما نبه إليه من قيمة السمع والبصر مع العقل بأساليب عديدة وآيات كثيرة حتى قال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36] وبهذه الوسيلة قد تجددت ثقة الفئة الغالية من شباب المسلمين المثقفين بدينهم، وانتشرت الفكرة الدينية انتشاراً هائلاً، وإن كانت لا تتعدى عند كثير من الناس حدود النظر، لإلفتهم إهمال العبادات وعدم مراعات الشعائر الدينية.
أما أوروبا فلا تزال في حيرة من أمرها، ولا يزال البحران في أشد حالاته، لأن روح المادية لا تزال فيها غالبة، وروح التقليد والطبع على غرار الآباء سائدة في شأن المعتقدات الدينية، فأمرهم اليوم كأمرهم من قبل، إذ قال الله تعالى مردداً حجتهم القائلة: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 22] وإذا قلنا «أوربا» فلأنها القطر السائد على العالم بسلطانه وروحه، ولأنه أصدق مثال لبقية البلدان قاطبة ولو كانت لها معتقدات أخرى غير ما تعتنقه أوربا كالهند مثلاً، فإن البوذية بموقفها الحاضر على تزعزعها وإقبال زعمائها على الإسلام ورغبتهم في اعتناقه، تعطينا صورة ثانية من وجه الحقيقة التي ضربنا لها المثل في أوربا.
فالدين بين الفكرة والعاطفة، والبرهان والإيمان، يتلمس طريق استقراره ولما يهتد إلى طريق استقراره، اللهم إلا ما ذكرنا من شأن الإسلام ومتجه أهله.
لقد ولج الإسلام هذه المعركة آخر من ولج، وها هو على وشك أن يخرج منها أول من يخرج، ذلك لأنه دين «الحقيقة» تدور مع الزمن وتخضع لمناهجه، ولأنه دين الحياة خلق للبقاء مؤيداً بسلطان من ربه كما ورد في محكم كتابه، إذ قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، والدليل على ذلك أن رجالات الإصلاح وحملة مشاعل النهضة في جميع الأقطار الإسلامية هم أكثر الناس معرفة بالإسلام وأشدهم استمساكاً به، لما عرفوا من مزاياه ولما كشف عن بصائرهم فهبوا وساروا في الطليعة معلمين.
ما كشف الإسلام به عن البصيرة:
لقد أتى الإسلام بما يجلو جوهر الإنسانية ويثمر قواها ويرتفع بها إلى السماكين، حرر النفس من قيودها التربيوية، الخلقية والعلمية، فدعاهم إلى العزة والإباء والشمم والرجولة، ونهاهم عن كل رذيلة حتى قال عليه الصلاة والسلام موجزاً تعاليمه: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)؛ ودعاهم إلى تحرير العقل وضرب لهم الأمثلة القوية البليغة فقال لمن جاءوا بغير ما أتى به: ﴿ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111] [النمل: 64]، وقال لهم وهو نبي التوحيد: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ﴾ [الزخرف: 81]، فإنما أنشد الحقيقة فانشدوها، ولا تأخذكم العزة بالإثم، ولا يأخذكم كبرياء الغرور فتقلدوا آباءكم على ضلالة.
وأتى الإسلام بمبادئ اجتماعية تضاهي مبادئه التربوية، فكشف عن معاني تفاخر أوربا أنها في هذا العصر قد أدركتها، مثل مبادئ الشورى والتربية القومية وتماسك مصالح الأمة، إلى غير ذلك مما تنطوي عليه الديمقراطية بمعانيها الجوهرية.
فبهذه المبادئ التي أتى الإسلام بها، وبما أيد به حقائقه من المناهج العلمية المقررة، وبما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أوجزت عائشة في وصفه فقالت: «كان خلقه القرآن» وبما كان من صحابته وبما امتلأ به تاريخ الإسلام من مفاخر لا تحصى، فإن الإسلام قد عزز في هذا العصر مكانته، حتى انتشر في ذات أوربا التي كانت جهزت عليه جيوشها الصليبية، ولم يبق بينه وبين ما يرجى له إلا فعل الزمن، فأين من يساعد بفعاله الزمن، فينتصر الحق وتسود الحقيقة، وينتشر الإسلام ولواء السلام على هذه الإنسانية البائسة.
إن الإسلام منذ عهد الرسالة المحمدية شق طريقه، وتبوأ مكانة لائقة به، ولم يذهب مع الموجة البشرية الأولى التي حملته كما توهم الأعاجم يومئذ[3]، إذ أنه دين قائم على أسس ثابتة تنفع الناس، ﴿ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الرعد: 17] وإذا تدبرنا ما أتت به الأمم من النظريات والمذاهب على اختلافها، ونظرنا إلى مكانة كل منها من الإسلام عرفنا حقيقته، وأدركنا أنه الدين الذي يليق بالبشرية أن تدين به على اختلاف عصورها وأمصارها لترقى ما شاء الله أن ترقى، وتسعد بما شاء الله أن تنعم.
نكون قد فهمنا معنى دين الإسلام. هذا ما ندعو إليه ونرجو أن يفهمه أنصار الدين قبل المتجافين عنه، لينشغلوا بحقائقه ظن ولا يؤخذوا بزائفه، فيدعوا إلى الله على بصيرة.
لقد فهم آباؤنا الأولون حقائق الإسلام فأحسنوا الاستنباط من نصوصه، فعلينا نحن أن نفهم مثلهم حقائقه لنحسن أخذ ما يلائم زماننا من أحكامه، لنظل أمة مسلمة، ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 108].

اكتب تعليق

أحدث أقدم