رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه الدبلوماسية

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه الدبلوماسية



بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
كلمة الدبلوماسية مشتقة من كلمة يونانية بمعنى (( طوى )) للدلالة على الوثائق المطوية والأوراق الرسمية الصادرة عن الملوك والأمراء، ثم تطور معناها لتشمل الوثائق التي تتضمن نصوص الاتفاقات والمعاهدات . أما في معناها العام الحديث فيمكن تعريفها على أنها مجموعة المفاهيم والقواعد و الإجراءات والمراسم والمؤسسات والأعراف الدولية التي تنظم العلاقات بين الدول والمنظمات الدولية والممثلين الدبلوماسين ، بهدف خدمة المصالح العليا(الأمنية والاقتصادية ) والسياسات العامة وللتوفيق بين مصالح الدول بواسطة الاتصال والتبادل وإجراء المفاوضات السياسية وعقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية .
وتعتبر دبلوماسية أداة رئيسية من أدوات تحقيق أهداف السياسة الخارجية التأثير على الدول والجماعات الخارجية بهدف استمالتها وكسب تأييدها بوسائل شتى منها ما هو إقناعي وأخلاقي ومنها ما هو ترهيبي ( مبطن ) و غير أخلاقي . وبالإضافة إلى توصيل المعلومات للحكومات والتفاوض معها.
تعنى الدبلوماسية بتعزيز العلاقات بين الدول وتطويرها في المجالات المختلفة وبالدفاع عن مصالح وأشخاص رعاياها في الخارج وتمثيل الحكومات فى المناسبات والأحداث إضافة إلى جمع المعلومات عن أحوال الدول والجماعات الخارجية وتقييم مواقف الحكومات والجماعات إزاء قضايا راهنة أو ردات فعل محتملة إزاء سياسات أو مواقف مستقبلية .
تاريخ الدبلوماسية:
تعود جذور الدبلوماسية إلى التاريخ البشري القديم حين نشأت استجابة لضرورة تنظيم العلاقات بين القبائل و الشعوب ( كالمصريين والبابليين و الآشوريين ) حيث مارس المبعوث دوراَ سياسياً يعتبر في طليعة الأدوار السياسية الواضحة في المجتمعات الإنسانية. أما مهمة المبعوث فكانت إقامة التفاهم حول قضايا مختلف عليها كتقسيم المياه أو تحديد مناطق الصيد لكل من الأطراف أو إقامة التحالف ضد أطراف ثالثة او إعلان الحرب أو إبرام الصلح وتبادل الأسرى أو الوصول إلى الاتفاقيات التجارية وقد حاول اليونان و الرومان تنظيم هذه المهام بواسطة مبعوثين كانوا يسمونهم egatis ثم سارت الكنيسة المسيحية على نفس المنوال عندما أخذت مبعوثين مقيمين .
أما بالنسبة لعرب الجاهلية فكانت القبائل ترسل الوفود للتهاني والتعازي والتشاور و التفاوض و التحالف ، وقد عرفوا وظيفة (( سفارة )) وعرف عن بني عدي ، من بطون قريش ، توليهم السفارة قبل الإسلام وفي فجرالإسلام قام الرسل بمهام تبليغ الإنذار قبل البدء في القتال وتسوية المسائل المتعلقة بالهدنة و الصلح و تبادل الأسرى وتحريرهم بعد انتهاء الحرب .
وقد قام النبي (ص) بإيفاد عدد من الرسل إلى كثير من رؤساء القبائل العربية التي قبل معظمهم الدعوة إلى اعتناق الإسلام . كما أوفد النبي (ص) الرسل إلى النجاشي ملك الحبشة والمقوقس ملك مصر وهرقل امبراطور الروم وكسرى ملك فارس وكانوا يحملون معهم كتباً متوجة بعبارة ((سلام على من اتبع الهدى)) يدعوهم فيها النبي (ص) إلى اعتناق الإسلام .
وقد استقبل الرسل من قبل الملوك والأباطرة بالتكريم عدا كسرى الفرس الذي مزق الكتاب المرسل معلناً بذلك الحرب على المسلمين . وقد حذا الخلفاء حذو الرسول (ص) في إيفاد الرسل والكتب والبعثات الدبلوماسية التي تنوعت أغراضها فعلاوة على تسوية الخلافات وعقد المعاهدات التجارية وتهنئة الحكام والملوك بتولي الحكم أو الزواج فقد شملت هذه البعثات الأغراض العلمية والثقافية إلى جانب الرغبة في معرفة أحوال الدول الأخرى لأسباب نفسية واجتماعية واقتصادية وحربية .
وقد توخى العرب انتقاء الرسل وفق توافر مواصفات معينة فيهم منها الجسامة والوسامة والثقافة والفصاحة والحصافة والعراقة والحلم . كما أن الدولة الإسلامية منحت الرسل الوافدين إليها الأمان والسلام طوال إقامتهم في ربوعها ، حتى عندما كان الفربحة يلجأون إلى الغدر برسل العرب كما حصل في عهد صلاح الدين الأيوبي إبان الحروب الصليبية ويعتبر مؤرخو الدبلوماسية أن المرحلة الثانية من مراحل الدبلوماسية نشأت مع إقدام جمهورية البندقية على إيفاد دبلوماسيين مقيمين ، وذلك إبان ازدهار تجارتها و نمو سلطانها البحري والحربي ، إلى القسطنطينية و روما ( مركز البابا الكاثوليكي ) والدول الإيطالية الرئيسية ، حيث عمدت إل نشر الفتن وحبك المؤامرات بواسطة مبعوثيها الدبلوماسيين . واستمر هذا المفهوم التآمري للدبلوماسية فترة من الزمن حتى أن بريطانيا حظرت على أعضاء البرلمان ( 1653) التحدث إلى أي ديبلوماسي أجنبي .
وقد أرست معاهدة وستفاليا الموقعة عام 1648 قواعد الدبلوماسية الدائمة والمقيمة - وإن لم تحسم بوضوح نهائى مسألة امتيازاتها وحصاناتها - عندما نشبت مبدأ المساواة الحقوقية بين الدول ( وكان عددها آنذاك 12 ‏دولة أوروبية ) ورسخت فكرة التوازن الأوروبي كضرورة من ضرورات السلام والأمن في القارة الأوروبية أما المرحلة الثالثة من تطور الدبلوماسية فتؤشر بانعقاد مؤتمر فيينا عام 1815( سقوط نابليون الأول ) والتي امتدت حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وتميزت بتأثرها بكتابات أساطين القانون الدولي ‏من أمثال غروشيوس وجنتليس ودي كاليير ، فاكتسبت العلاقات الدبلوماسية قواعد ثابتة وأسساً واضحة وترسخت مع مرور الزمن من خلال احترام لها وعملها بها .
وفي هذه المرحلة ترسخ البروتوكول الدبلوماسي كوسيلة من وسائل تمكين الدبلوماسي من شرح موقف حكومته بتعابير دقيقة ومهذبة . كما أصبح السفراء ممثلين للدولة لا لشخص الملك بالذات ومنتظمين في كادر يتمتع بكيان خاص ، وتناقض دور السفراء في التجسس والتخريب وتركزت مهامهم في إطلاع دولتهم على جميع ما يجري في البلاد المعتمدين لديها والإسهام في إيجاد الحلول اللاعنفية للمنازعات الدولية انطلاقاً من الحفاظ على موازين القوى .
العمل الدبلوماسي
أما العمل الدبلوماسي نفسه فاتسم بالسرية والكتمان وحصرت المعلومات الخاصة به بأشخاص قلائل وبالتالي تمتع السفراء بمرونة كبيرة وحرية في العمل وكانت تقاريرهم موضع ثقة واحترام من مسؤوليهم .وتعززت فكرة الامتيازات والحصانات الدبلوماسية انطلاقاً من توفير الاطمئنان العام لتمكين الدبلوماسيين من القيام بمهامهم من التعبيرعن الاحترام للدولة الأخرى والحرص على حسن العلاقات معها وبالتالي فإن الاساءة لمبعوثيها تعني الاساءة للدولة الأخرى قد يؤدي ذلك إلى توتر العلاقات لدرجة إعلان الحرب بين الدول .
تنطلق فكرة الحرمة الدبلوماسية من مبدأ لاتيني يقول ( يجب ألا يتعرض السفير للضرب أو الإهانة ) وعلى هذا الأساس فإن الحصانة الدبلوماسية ترد إلى الأسس التالية :
أولاً - الصفة التمثيلية للممثل الدبلوماسي، اتخذت الدبلوماسية في البدء صفة علاقات شخصية بين الملوك والأمراء ، وبالتالي فإن الدبلوماسيين كانوا بمثابة ممثلين شخصيين لهؤلاء الحكام وكل اعتداء عليهم أو احتقار لهم إنما كان يعتبر موجهاً لمن يمثلون ولما كانت قوانين الملوك أو الأمراء لا تسري على غيرهم من الملوك والأمراء فإنها بالتالي لا تسري على ممثليهم .إلا أن هذه النظرية ضعفت مه مرور الزمن وبعد الثورة الفرنسيه نظراً لأن الدبلوماسيين باتوا يمثلون الدول لا الملوك والامراء ، كما أن شمول الامتيازات والحصانات لأفراد أسرة السفير المجردين من صفة التمثيل القت بعض التحفظ على هذه النظرية من الاساس.
ثانياً - اعتبار مقر البعثة الدبلوماسية واقعاً في أراضي الدولة الموفدة و بالتالي مستقلاً عن سيادة السلطة الإقليمية ( انظر امتداد الإقليم ) و غير ملزم بالخضوع لقوانينها . بيد أن هذه النظرية لم تسلم من انتقادات بعض علماء القانون و لم يرد ذكرها في اتفاقية العلاقات الدبلوماسية ( فيينا ) 1961.
‏ثالثا - مقتضيات العمل الدبلوماسي ، وهى نظرية تركز على ضرورة تمكين السفير من القيام بلمهام الملقاة على عاتقه بحرية و إخلاص و طمأنينة و بالتالي فإن الامتيازاتو الحصانات إنما تكون من مقتضيات ممارسة المهام الدبلوماسية .
رابعاً : مبدأ المعاملة بالمثل . و هو مبدأ قديم و بسيط و واضح ، يدفع الدول إلى مراعاة حسن المعاملة الدبلوماسيين المعتمدين لديها و منحهم الامتيازات و الحصانات الدبلوماسية لكي يحصل معتمدوها على معاملة مماثلة في الأقطار الأخرى كما يشمل هذا المبدأ الرد على قيام الدول الأخرى بطرد الممثلين الدبلوماسيين بحجة القيام بأعمال مشبوهة كالتجسس أو التخريب أو التدخل في الشؤون الداخلية و ذلك عن طريق اتخاذ إجراء مماثل بحق ممثل ذلك البلد المعتمدين لديها .
أما الحصانات و الامتيازات الدبلوماسية نفسها فتشمل شخص الممثل الدبلوماسي فلا يخضع لأي شكل من أشكال التوقيف أو السجن و تصان حريته و كرامته من كل اعتداء أو امتهان ، و يتمتع السفير بلقب صاحب السعادة و يرفع علم بلاده على مقر البعثة الدبلوماسية و سكن رئيس البعثة و سيارته أثناء قيامه بالمهام الرسمية و تتمتع مراسلاته و أمواله بالحصانة الكاملة .
إلا أنه يجوز في بعض الحالات الاستثنائية خرق حرمة مقر البعثة الدبلوماسية ، منها مثلاً نشوب الحريق . كما يرى بعض فقهاء القانون الدولي ( بينما يرى البعض الآخر غير ذلك ) إن عدم مراعاة البعثة الدبلوماسية لقاعدة عدم استخدام مقر البعثة لأعراض لا تتلاءم مع المهام الرسمية و المعترف بها دولياً يجيز للحكومة المستقبلة اقتحام دار البعثة إذا تأكد لديها (( أنه فيها مؤامرة تتناول سلامة الدولة ، أو أنها تتضمن كمية كبيرة من الأسلحة و الذخائر )) .
كما كان يحق لرئيس البعثة الدبلوماسية ممارسة حق الإيواء ( بالإنكليزية ) AsyIum و بالفرنسیة Droit dasile و هو حق منح الحمایة من الشرطة أو العدالة المحلية للأشخاص غير التابعين لدولة البعثة الدبلوماسية الذين يلجأون إلى مقر البعثة الدبلوماسية و ذلك عملاً بمبدأ الاستقلال عن الإقليم المحلي و الذي أخذ يضمحل تدريجاً ، خصوصاً بعد أن شدد البعض على أن ذلك يعارض مبدأ عدم جواز خرق سيادة الدولة المحلية و التدخل في شؤونها الداخلية . و على هذا الأساس ميز العرف بين حالات اللجوء السياسي و اللاجئين من المجرمين العاديين .
وهكذا نصت الاتفاقيات الدولية ( اتفاقية هافانا ) على وجوب تسليم المجرمين العاديين عندما تطلب إليهم ذلك السلطات المحلية ، و احترام لجوء الشخصيات السياسية لدور البعثات و السفن الحربية الأجنبية ، و ذلك في حالات الضرورة القصوى و التزام اللاجئ بالإمتناع عن الإخلال بالأمن العام أثناء لجوئه . و المعروف أن دول أميركا اللاتينية هي أكثر الحكومات ممارسة لمبدأ اللجوء السياسي و قد عقدت عدة اتفاقيات فيما بينها لتنظيم قواعد و ظروف اللجوء السياسي .
وعلى الرغم من وجاهة بواعث و أسباب الامتيازات و الحصانات الدبلوماسية و من ضرورات منحها لتسيير المهام الدبلوماسية ، فإن العديد من الدول و لا سيما الدول التي تمارس الهيمنة السياسة على الدول الأخرى قد استغلت تلك الحصانات لصالح تحقيق أهداف استغلالية و استعمارية و تجسسية و تحريضية في الدول الأخرى .
ففي البلدان غير الأوروبية لعبت البعثات الدبلوماسية دوراً تآمرياً كبيراً للتمهيد لسيطرة المصالح و التحالفات الأوروبية . و في المشرق العربي قامت هذه البعثات ( القنصلية ) - في القرن التاسع عشر - بأدوار مؤثرة لإحداث انشقاقات طائفية و سياسية بين السكان مستغلة ضعف الدولة العثمانية و تمكن الدول الأوروبية من الحصول على ما عرف بالامتيازات الأجنبية لرعاياها و نشاطاتها في أراضيها .
فتحت ستار حماية المصالح التجارية و نشر الثقافة و حرية التبشير الديني و الإرساليات الأجنبية قامت فرنسا و بريطانيا بالتحريض على الفتن الطائفية في لبنان و سورية و قامت القنصلية البريطانية في القدس بحماية الجالية اليهودية إضافة إلى الأدوار الاستخبارية المعروفة .
كما ازدهرت في تلك الحقبة فكرة فرص المواقف و السياسات على الدول الأضعف بواسطة التهديد و التدخل العسكرى عبر ما عرف بدبلوماسية البارجة المسلحة Gunboat Diplomacy ، إضافة إلى حماية المصالح الاستعمارية و تنميتها عن طريق دبلوماسية الدولار حيث سخرت الدول الكبرى نفوذها السياسي و العسكري لدعم المصالح الخاصة للأفراد و الشركات و كذلك استخدام الأموال و القروض لشراء النفوذ السياسي و التسهيلات الاقتصادية في بلدان العالم الثالث .
وكان إقدام الثورة البلشفية في روسيا على نشر الاتفاقات و المعاهدات السرية للحلفاء إبان الحرب العالمية الأولى إيذاناً بأفول حقبة الدبلوماسية التقليدية ، حيث لعبت الدبلوماسية السرية دوراً مرموقاً في خدمة أهداف الدول الاستعمارية و في سياساتها لاقتسام المغانم و الأسلاب في المستعمرات ( انظر سايكس - بيكو ، بالفور وعد ) .
وعلى الرغم من أفول الدبلوماسية التقليدية في ذلك التاريخ إلا أن الملامح العامة للدبلوماسية المعاصرة لم تكرس رسمياً إلا في اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الموقعة في 18 نيسان – ابريل 1961 .
تأثرت الدبلوماسية الجديدة بالتطورات السياسية و التكنولوجيا المعاصرة . فازدياد سرعة المواصلات الجوية و الإلكترونية قرب المسافات و قوى درجة التداخل ، كما أن توسع التجارة و ازدياد التعامل الاقتصادي و الثقافي و السياحي و العلمي جعل من الاعتماد المتبادل بين الشعوب و الدول ظاهرة سياسة رئيسية . كما أن مجمل هذه التطورات سهلت على رؤساء الدول و وزراء الخارجية القيام بالمهام الدبلوماسية مباشرة عن طريق الاشتراك في المحادثات الدولية و حضور المؤتمرات السياسية و العودة إلى عواصمهم في غضون ساعات أو أيام قليلة فتوسعت (( دبلوماسية القمة )) بدرجة كبيرة ( انظر سالت ، دبلوماسية الخطوة خطوة ، دبلوماسية المكوك ) .
كما أكثر الرؤساء من استخدام إيفاد الممثلين الشخصيين في مهمات دبلوماسية خاصة و لجأت الحكومات إلى استخدام أسلوب الحملات الدبلوماسية لشرح وجهات نظرها في موضوع هام و تحرص على شرحه على نطاق واسع . كما أن النمو الكبير في عدد الدول و زيادة الاعتماد فيما بينها
نمىّ ظاهرة المنظمات الدولية ، السياسية و غير السياسية ، و القارية و الإقليمية و ظاهرة التكتلات الدولية الثابتة ( انظر ناتو ، وارسو حلف ، عدم الانحياز ) ، بحيث أصبحت هذه المنظمات الميدان الأول للدبلوماسية الدولية و على صعيد آخر فإن دخول المجتمعات الإنسانية في القرن العشرين فيما اتفق على تسميته (( بعصر الجماهير )) و انتشار القراءة و العلم و نمو دور وسائل النشر و الاعلام بين عموم طبقات المجتمع ، رفع من أهمية الدور الذي يلعبه الرأي العام في السياسة و في مطالبة الهيئات التشريعية بتقديم المعلومات الصحيحة و المسهبة حول المفاوضات و الاتفاقات الدولية مما أدى الى ضمور ، الدبلوماسية السرية و انبثاق (( الدبلوماسية المكشوفة )) . فمنذ أواخر الحرب العالمية الأولى أصر الرئيس الأميركي وودرو ولسون على عقد الاتفاقات بصورة مكشوفة ، كما أيد عهد غصبة الأمم ذلك في مادته الثامنة عشرة ، و كذلك ميثاق الأمم المتحدة ( الموقع في حزيران يونيو 1945 ) في مادته 102 حيث توجب تسجيل جميع المعاهدات و الاتفاقات الدولية تحت طائلة عدم صلاحية التذرع بأحكامها في المنازعات الطارئة .
وعلى الرغم من جميع التطورات التي دفعت الدبلوماسية في اتجاه تحولها من السرية إلى العلنية فان العديد من الدبلوماسيين الدوليين ، من أمثال سكرتير عام الأمم المتحدة داغ همرشولد ، و كذلك خليفته اوثانت ، قد عارضوا الاقتصار على الدبلوماسية العلنية كوسيلة للوصول الى الاتفاقات الدولية نظراً لأن مثل هذا الأسلوب يحول عملية التفاوض الدبلوماسي لخدمة أغراض الدعاية عوضاً من محاولة تسخيرها للتوصل إلى تفاهم دولي و تسوية بين الأطراف المعنية .
ويشير البعض في هذا المجال الى أن الدول الشيوعية نفسها قد أدركت ضرورة التخلي عن النظرة الشيوعية التقليدية في احتقار (( التسويات )) و الحلول الوسط و الاتفاقيات المعقودة مع الدول الرأسمالية ، و ذلك بحكم توسع مصالحها و تشابك هذه المصالح و توحدها في بعض الحالات مع غيرها من الدول . كما أن حيازة المعسكرين للأسلحة النووية و نشوء توازن رعب نووي فرض ما يمكن تسميته (( بالدبلوماسية النووية )) و التي تقتضي تجنب الصدام النووي و الدمار الشامل بين المعسكرين الشرقي و الغربي عن طريق الإتفاقيات الخاصة ( انظر سالت ) و الاتصال السريع عن طريق الخط الأحمر التليفوني بين الكرملين و البيت الأبيض .
ويبقى أن هدف الدبلوماسية الأعلى هو إنجازالمصالح في مجال العلاقات الخارجية من خلال التفاوض و التفاهم ، إلا أنها مع ذلك لا تكون بديلة عن حيازة أسباب القوة و المنعة الذاتية للدول . فالدبلوماسية و القوة يحتفظان بعلاقة متوازنة بحيث تدعم كل منها الأخرى.
وعلى هذا الأساس انبثق مبدأ الحياد المسلح و كذلك المبدأ القائل إذا أردت السلم فتهيأ للحرب ، لأن القوة كالماء تندفع نحو المنحدرات . و قد أثبتت الأحداث خطل المبدأ الذي نادى به الرئيس اللبناني شارل الحلو و القائل بأن (( قوة لبنان في ضعفه )) إذ أن ذلك قد أفسح المجال لقوى معادية للبنان و العرب لتنفيذ مخطط استهدف زعزعة الاستقرار في لبنان ، إضافة إلى توالي الاعتداءات الصهيونية على أراضيه و شعبه فكما أن القوة الغاشمة لا تكفل لوحدها ترقية مصالح الدول الحائزة عليها فإن الدبلوماسية الحكيمة غير كافية لضمان الأمن و الازدهار للدول ما لم تكن مدعومة بعوامل القوة و المنعة الذاتية .
الدبلوماسية الغربية وآفاق تطور النزاعات الإقليمية
ضبط النزاعات الوطنية ومنع اندلاع حروب إقليمية تشترطها مسؤولية مجلس الأمن في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين وبسبب دبلوماسية التوتر المتنقلة من مطلب الى آخر التي تنتهجها دول التحالف الأطلسي إزاء خصومها الدوليين والإقليمين ، أصبح الامن الاقليمي في منطقة الشرق الأوسط محاطا بألغام التفجر والصدام بين القوى المتنازعة .
لإضفاء شرعية على الرؤية المشار إليها لابد لنا من متابعة عناصر الانفجار على الصعيدين الدولي / الاقليمي والوطني الداخلي عبر موضوعات عامة أهمها : ـ
1ـــ أفضى انتقال تركيا من دبلوماسية ( تصفير المشاكل ) الى سياسة التوتر والتدخل بهدف تصدير نموذجها الإسلامي في الحكم الى زيادة حدة النزاعات الإقليمية على ركائز مذهبية وهذا ما تجلى في مساندة تركية لأحزاب و حركات إسلامية .
2ـــ رغم التعاون التركي الخليجي في مساندة أحزاب الإسلام السياسي المعتدلة منها والمتطرفة إلا ان الطموحات الإقليمية التركية أثارت نزاعات فرعية بين إيران وتركيا **** من جهة وبين السعودية وتركيا على زعامة العالم الاسلامي من جهة ثانية ، خاصة بعد وصول قوى إسلامية عربية الى الحكم تتماثل والنموذج التركي القائم على الشرعية الديمقراطية ، وما يفرزه ذلك من تأثيرات سلبية على الاستقرار السياسي لأنظمة دول الخليج القبائلية .
3ـــ ظهور ملامح تحالفات بين الدول الإقليمية بعد انتقال النزاعات الإقليمية الى ضفاف طائفية أضفى سمات إقليمية دولية على النزاعات الوطنية لا يمكن التحكم بنتائجها المستقبلية.
4ـــ أدت سيادة الشرعية الأطلسية في العلاقات الدولية الى نهوض قوى دولية جديدة تعمل على بناء العلاقات الدولية على قاعدة الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وما يعنيه ذلك من دخول العلاقات الدولية في مرحلة انتقالية نحو عالم متعدد الأقطاب .
خلاصة القول ان العقل ألمخابراتي الاستراتيجي في الدول الغربية المترابط مع مراكز البحوث الاستراتيجية يسعى الى إنتاج مفاهيم جديدة تتجاوب ومصالح الطور الجديد من التوسع الراسمالي بهدف الدفاع عن المصالح الاستراتيجية للشركات الاحتكارية الدولية .

اكتب تعليق

أحدث أقدم