رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فلسفة العدل

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فلسفة العدل



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن العدل هو إحدى القواعد التي يقوم نظام الكون عليها، وتنتشر الأُلْفة بين الناس بها، وتَسْعد البشرية بالمحافظة عليها.
ولما كان صلاح الكون مرتبطًا بوجود العدل؛ فقد طلب الله منا تحقيقَه في الأفعال وفي الأقوال.
أمرنا بالعدل في الأفعال: فقال - سبحانه وتعالى- : ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام: 152].
وأمرنا بالعدل في الأقوال: فقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [الأنعام: 152].
والعدل في الأفعال يُوجَد في المبادلات القائمة بين الناس، وإذا فُقِدت المبادلة العدل، فَقَدت الأمة وجودها وحياتها، وكان مآلها الخسران والهلاك، ولقد قال الحبيب - عليه الصلاة والسلام - يومًا لأصحاب الكيل والميزان: ((إنكم وليتم أمرًا، هَلَكت فيه الأمم السابقة قبلكم)).
وقصَّ المولى - سبحانه وتعالى - علينا في القرآن الكريم قصة أهل مَدْين - وقد كانوا كفارًا، يقطعون السبيل، ويُخِيفون المارَّة، ويَبْخَسون الناس أشياءهم - فأرسل الله إليهم شعيبًا - عليه السلام - فدعاهم إلى عبادة الله، ونهاهم عن نقص الكيل والميزان، قال - سبحانه -: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [هود: 84 - 86].
دعاهم شعيبٌ أولاً إلى العقيدة: ﴿ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [هود: 84]، ونهاهم ثانيًا عن فَعْلَتهم التي هم عليها: ﴿ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ ثم ذكرهم ثالثًا بأنهم أهل نعمة وليسوا في حاجة إلى أكل أموال الناس بالباطل؛ ﴿ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ ﴾، ثم هددهم رابعًا بما ينتظرهم من عذاب الله لو استمروا على ما هم عليه: ﴿ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾ [هود: 84].
نهاهم عن التطفيف، وأمرهم بإيفاء الكيل حقَّه، ونهاهم عن بَخْس الناس أشياءهم، ولكنَّ أهل مدين سَخِروا منه، ومن دعوته، وقالوا له: ﴿ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ﴾ [هود: 87].
ثم قالوا له مهدِّدين: ﴿ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [هود: 91]، ففوَّض شعيبٌ أمره لله، وأخبرهم بما ينتظرهم، قائلاً: ﴿ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ﴾ [هود: 93 - 95].
وبعد أن أهلك الله أهل مدين بهذه الصيحة التي زلزلت الأرض، أرسل شعيبًا إلى أصحاب الأَيْكَة، وكانوا في تعامُلهم كأهل مدين؛ فقال لهم شعيب: ﴿ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ * وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الشعراء: 181 - 184]، ولكنَّهم سَخِروا منه، وردُّوا عليه قائلين: ﴿ إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الشعراء: 185، 186]، وطَلَبوا منه في تحدٍّ سافر أن يُسْقِط عليهم كِسَفًا من السماء إن كان من الصادقين، فردَّ عليهم قائلاً: ﴿ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الشعراء: 188]، فانتقم الله منهم شرَّ انتقام؛ لقد سلط عليهم الحَرَّ سبعة أيام، حتى غَلَى الماء في أَوَانيهم، ثم أرسل عليهم سَحَابة، فاجتمعوا تحتها للاستظلال، ولكنها لم تكن كما توقعوا سرعان ما تحوَّلت إلى نار أسقطها الله عليهم وأمرهم بها؛ ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 189].
والذين لا يَعْدِلون في أفعالِهم، لا يبارك الله لهم في أموالهم.
وأمَّا عن العدل في الأقوال والأفعال؛ فإنَّه مطلوب في محيط الأسرة وفي مُحيط العمل، وفي مُحيط القضاء.
أمَّا عن العدل في محيط الأسرة:
فقد طَلَب اللهُ مِن الإنسان أن يكون عادلاً فيما بينه وبين نفسه؛ فلا يأخذ بها إلى الرهبنة، ويمنعها حقَّها من الحياة، ولا يجري بها وراء الشهوات والملذَّات، متَّبعًا لنفسه وهواه، وعليه أن يحملَها على الطاعة، ويمنعها عن المعصية، وأن يقفَ بها في أحوالها كلِّها على أعدل الأمور: ﴿ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36]، ﴿ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 117]، وكما رُوِي في الأثر: ((إن لبدنك عليك حقًّا))، ومَن ظلم نفسه؛ فإنه لغير أظلم!
كذلك طَلَب الإسلام أن يكون عادلاً في حق الزوجة: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 228]، وقد فَهِم ذلك عبدالله بن عبَّاس، فقال: "والله إني لأتزيَّن لامرأتي، كما أحب أن تتزيَّن لي".
وطلب مِن الإنسان العدل في حُقُوق الأولاد، قال النُّعْمَان بن بَشِير:"تصدَّق عليَّ أبي ببعض ماله، فقالت أمي - عَمْرَة بنت رَواحة -: لا أرضى حتى تُشْهِد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: ((أأعطيتَ كل ولد من أولادك مثل هذا؟ قال أبي: لا، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إذًا لا أَشْهَد على جَوْر، لا أَشْهَد على جَوْر ، لا أَشْهَد على جَوْر، أَشْهِد على ذلك غيري))، ثم قال: ((اتقوا الله، اعدلوا بين أولادكم).
وطلب الإسلام العدل في مُحيط العمل، وكلُّ واحد من المسلمين يعمل: إمَّا رئيسًا، أو مَرؤوسًا، أو زميلاً لغيره.
فإذا كان رئيسًا فلا يفضِّل نفسَه ولا أحدًا مِن مرؤوسيه على غيره، ولا يُحَابي أحدًا؛ فإن فعل ذلك فقد حاقت به لعنة الله، قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -:((أشد الناس عذابًا من أشركه الله في سلطانه فجار في حكمه)).
ورُوِي أن عمر صعد المنبر، وقال: أيُّها الناس، اسمعوا وأطيعوا، فقال أعرابي: لن نسمع، ولن نُطِيع يا ابن الخطاب، فسأله عمر: ولماذا؟ قال: لأنك قسمت علينا قماشًا، فخاط كلٌّ منا نصيبه، فجاء ثوبًا قصيرًا، وثوبُك كبيرًا، وأنت أطول، فلماذا فضَّلتَ نفسك علينا؟ فنادى عمر على ابنه عبدالله، وقال له: أجب الرجل، فقال: إنني تنازلت لأبي عن نصيبي، فخاط منه ومن نصيبه ثوبًا واحدًا، فقال الرجل: الآن عرفنا أنك عادل، فقل نسمعْ يا ابن الخطاب.
وإذا كان مَرؤوسًا، فقد طلب الإسلام منه أن يكون عادلاً مع رئيسه ناصحًا أمينًا مخلصًا، وقد وضَّح لنا عُمر بن عبدالعزيز هذه الأمور، فقال: مَن صحبني فليصحبني بخمس:
• أن يَدُلَّني من العدل على ما لا أهتدي إليه.
• وأن يكون لي على الخير عونًا.
• وأن يُبَلِّغني حاجة مَن لا يستطيع إبلاغها.
• وألا يغتاب عندي أحدًا.
• ويؤدِّي الأمانة التي حملها مني ومن الناس.
وينصح في العلن ويوجِّه، ويدلي بالرأي، ويبلغ الرئيس، ولكن لا يعمل في السر ولا يُفَكِّر في الفتن والدسائس، ولا ينشر الأفكار المسمومة والمبادئ الهدَّامة.
وإذا كان زميلاً، فعليه أن يكون عادلاً مع زملائه.
وأمَّا عن العدل في الأقوال، فقد طلب الإسلام منا تحقيقه في محيط القضاء، فيُطْلَب منَ القاضي، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((القضاة ثلاثة: قاضيَان في النار، وقاضٍ في الجنة: قاض قضى بغير الحق وهو يعلم فذلك في النار، وقاضٍ قضى وهو لا يعلم فأهلك حقوق الناس، فذلك في النار، وقاضٍ قضى بالحق وهو يعلم فذلك في الجنَّة))[1].
وكذلك طلب منَّا العدل في الشَّهادة، قال - عليه الصلاة والسلام -: ((أَلاَ أنبئكم بأكبر الكبائر! قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعُقُوق الوالدين، وكان مُتَّكئًا فجلس، فقال: أَلاَ وقول الزُّور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزُّور، فما زال يُكَرِّرها حتى قال الصحابة: ليته سكت، رأفةً به - عليه الصلاة والسلام.
________________________________________
[1] رواه أبو داود، والنسائي، وصحَّحه الحاكم.

اكتب تعليق

أحدث أقدم