رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن الرحالة ابن العربي

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن الرحالة ابن العربي



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
وُلد أبو بكر محمد بن عبدالله بن العربي في إشبيلية، ونشأ نشأة دينيَّة، وحفِظ القرآن الكريم ابنَ تسع سنين، ثم أتْقن العربيَّة والشعر وعلم الحساب على يد أبيه وخالِه، وجلس إلى العُلماء واستمع منهم، حتَّى أصبح من حفَّاظ الحديث، وبلغ رتْبة الاجتهاد في علوم الدين، كما برع في الشِّعر والأدب.
"وكان أبوه أبو محمَّد بإشبيلية بدرًا في فلكها، وصدرًا في مجلس ملكها، واصْطفاه معتمد بني عبّاد، .... وولاه الولايات الشَّريفة، وبوَّأه المراتب المنيفة"[1]، "وكان من أهل التفنُّن في العلوم، متقدِّمًا في المعارف كلِّها، متكلِّمًا على أنواعها، حريصًا على نشْرِها، وقام بأمر القضاء أحمد قيام، مع الصَّرامة في الحق، والقوَّة والشدَّة على الظَّالمين والرِّفْق بالمساكين ...... وقيَّد الحديث، وضبط ما روى، واتَّسع في الرواية، وأتْقَن مسائل الخلاف والأصول والكلام"[2].
عرف النَّاس أبا بكر بن العربي قاضيًا وفقيهًا إسلاميًّا كبيرًا، ومفسِّرًا للقرآن وشارحًا للسنَّة، كما أنَّه يعدُّ أصوليًّا عظيمًا، وتناسى الجميع أنَّه أديب ورحَّالة مشهور، ربَّما ساعد على ذلك أنَّ أصل رحلة ابن العربي "ترتيب الرحْلة للترغيب في الملة" تعَدُّ من مؤلَّفاته المفقودة والَّتي لم تصِل إلينا كاملة، وقد فقد الكتاب في حياة مؤلِّفه، ويخبِرُنا بذلك ابن العربي نفسُه عندما يقول: "إن الحوادث قد استلبته"[3].
ولكن ابن العربي حفِظ لنفسه مكانة متميِّزة في تاريخ الأدب العربي كرائد من روَّاد أدب الرحلات، عندما قام بتجريد جانب من رحلتِه: "ترتيب الرحلة للتَّرغيب في الملة"، أسماه: "شواهد الجلَّة والأعيان في مشاهد الإسلام والبلدان"[4]، كما قام ابن العربي بكتابةِ تلْخيص آخر لرحلته، في مقدمة كتابه: "قانون التأويل"، وقد قام الأستاذ سعيد أعراب بتجْريد هذه الخلاصة، وعمِل على تحقيقها، وألْحقها بدراسة له عن ابن العربي[5].
وما قام به ابنُ العربي من تلْخيصٍ لرحلتِه، لا يمكن أن يعوِّضَنا أبدًا عن الأصل المفقود لكتابِه: ترتيب الرحلة، ولا يمكن تتبُّع كلّ خطوات رحلة ابن العربي، ولكنَّه يُمَكِّننا من أن نرسم صورةً واضحة لملامح رحلته إلى الحجاز، وسوف نعمل على توضيح هذه الصورة أكثر، إذا قُمنا بتجميع ما تناثر في بطون الكتُب التي صنَّفها ابن العربي، ووصلت إليْنا، مثل كتاب: أحكام القرآن، وكتاب: عارضة الأحوذي بشرح صحيح التِّرمذي، والتي جاء فيها إشاراتٌ مهمَّة عن رحلاته الحجازيَّة.
(3)
إنَّ ما يجعلنا نهتمّ برحلة أبي بكر بن العربي المعافري إلى الحجاز، أنَّها كانت أسبق الرّحلات الحجازيَّة الأندلسيَّة، فهي من حيث التَّاريخ أسبق بنصف قرن على الأقلّ من رحلة ابن جُبير الكناني (المتوفى سنة 614 هـ/ 1217م)، فأبو بكر بن العربي هو أوَّل أندلسي يصف رحلتَه إلى بلاد المشرق وصفًا دقيقًا، وأوَّل مَن دوَّن رحلته في كتاب أسماه: "ترتيب الرحلة للترغيب في الملة"، وهو بذلك يعدُّ رائدًا لأدب الرحلة الحجازية والرحلة إلى طلب العلم، ليس في بلاد الأندلس وحسب، بل في بلدان العالم الإسلامي كلّه.
عندما أقدم ابن العربي على تدوين رحلته إلى بلاد المشرق، وتدوين مشاهداتِه وانطباعاته التي تركتْها هذه الرحلة في نفسه، ووصْف البلاد التي مرَّ عليها، وتدوين الأحداث التاريخيَّة التي شاهدها وعايشها، وذِكره للعلماء الذين قابلهم وأخذ عنهم، لفتَ ابنُ العربي بذلِك العمل الأنظارَ إليْه، وإلى أهميَّة العمل الأدبي الَّذي قام به، حيثُ كانت هذه الخطْوة هي أوَّل خطوة في عمليَّة تدوين أدَب الرحلات، فابنُ العربي هو أوَّل مَن وضع أسُس فنّ الرحلات، وتدوينها على هيئة مذكَّرات يوميَّة، ووصف مشاهداتِه وانطباعاته بكلّ دقَّة وأمانه في الوصْف.
والَّذي يؤكِّد على أهميَّة عمل ابن العربي وتميُّزه: أنَّه جاء عملاً مخالفًا لكلّ أنْماط الكتابة السَّائدة، والتي كانت تنحصِر - في الغالب - في كتابة التَّقارير العسكريَّة من قادة الجيوش الإسلاميَّة عن طبيعة البلاد المراد فتْحها، أو مشاهدات الجغرافيِّين، ومعاينتهم لطبيعة الأرْض، ووصف تضاريسها ومظاهرها الطبيعيَّة في البلدان المختلفة، أو الحكايات العجيبة والغريبة الَّتي شاهدها بعض التجَّار المغامرين في أسفارِهِم ورحلاتِهم، أو كتُب المسالك والممالك، وكتب البلدان، وكتب فضائل المدُن، وكتب الخطط والآثار وغيرها.
(4)
خطّ سير الرِّحْلة:
سوف نقوم الآن بِمحاولة رسم خطّ سير رحلة ابن العربي، وتتبُّعها من خلال التَّلخيص الَّذي قيَّده ابن العربي في كتاب: "قانون التَّأويل"، ثمَّ نقوم بتجْميع ما تناثر في بطون الكتُب التي صنَّفها ابن العربي، والتي جاء فيها إشاراتٌ مهمَّة عن رحلتِه الحجازيَّة، ثمَّ ترتيبها حسب السِّياق الزَّمني، لتكون سرديَّة متَّصلة متماسكة، ولا يوجد بين مراحلها أيَّة فجوات تحرِم القارئ لذَّة تتبُّع هذه الرحلة.
غرَض الرحلة:
1- أداء فريضة الحجّ:
عندما بلغ ابنُ العربي سنَّ السابعةَ عشرة، ارتحل به أبوه، من أشبيلية إلى المشرق، بعد سقوط دولة آل عباد عام 485هـ/ 1092م، واستولى المرابطون على أشبيلية، وصادروا أموال أمرائِها ووزرائِها، فما كان من الوالد إلاَّ أن اختار أن ينأي بنفسِه وولده عن جحيم السياسة، إلى الارتحال إلى المشرق؛ لأداء فريضة الحج.
2- ويذكر ابن العربي سببًا آخر للرحلة، وهو طلبُه للعلم:
"وكان الباعث على هذا التشبُّث - مع هول الأمر - همَّة لزمت، وعزمة نَجمت، ساقتْها رحمة سبقتْ، ولقد كنت يومًا مع بعض المعلِّمين، فجلس إليْنا أبي - رحمة الله عليْه - يُطالع ما انتهى إليه علْمي .... فدخل إليْنا أحد السَّماسرة وعلى يديْه رزمة كتب... فإذا بها من تأْليف السمناني شيخ الباجي، فسمِعْتُ جَميعَهم يقولون: هذه كتُب عظيمة، وعلوم جليلة، جلَبها الباجي من الشَّرق، فصدعتْ هذه الكلمة كبدي، وقرعت خلدي، وجعلوا يُوردون في ذكره ويُصدرون، ويحكون أنَّ فقهاء بلادِنا لا يفهمون عنه ولا يعقلون... ونذرت في نفسي طيَّة: لئن ملكت أمري لأهاجرنَّ إلى هذه المقامات، ولأفدنَّ على أولاء الرِّجالات، ولأتَمرسنَّ بما لديْهم من العقائد والمقالات، واستمررْتُ عليْها نيَّة، واكتتمْتُها عزيمة"[6].
3- ولكنَّ ابن خلدون (المتوفى سنة 808هـ/ 1406م) يذْكُر غرضًا آخَر من أغراض الرِّحلة، وهو الغرض السياسي؛ حيثُ خرج عبدالله بن العربي وابنه، مُوفدَين من يوسف بن تاشفين إلى عاصمة الخلافة.
"ولمَّا مُحِي رسْم الخلافة وتعطَّل دَسْتُها، وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسُف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العُدوتين، وكان من أهل الخير والاقتداء، نزعت همَّته إلى الدُّخول في طاعة الخليفة، تكميلاً لمراسم دينِه، فخاطَب المستظهِر العبَّاسي، وأوْفد عليْه ببيعتِه عبدالله بن العربي، وابنَه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية، يَطْلُبان تولِيَته إيَّاه على المغرب وتقليده ذلك، فانقلبا إليْه بعهد الخلافة له على المغرب"[7].
4- هذا بِخلاف غرَض السِّياحة والتجْوال، وهذا الغرض واضح جدًّا من خِلال تتبُّع رحلة ابن العربي، وقيامه بِجولات استِكْشافيَّة ووصفيَّة.
قد تتعدَّد الأغراض في الرِّحلة الواحدة، ورحْلة ابن العربي من ذلك النَّوع من الرحلات، وهو نوعٌ يَحتاج رحالة مختلفًا، من طراز خاصّ، يكون صاحب ملكات، ومواهب خاصَّة، وثقافة واسعة، وإحاطة بعلوم شتى، وله من العلاقات ما يَجعله يواصل رحلتَه بنفس الكفاءة التي بدأ بها، وقد توافرت هذه المواصفات في ابن العربي.
قلت بأنَّ رحلة ابن العربي كانت لها أغراضها المختلفة، منها أداء فريضة الحج، وطلب العلم، والسياحة والتجوال، ولا يستبعد أبدًا أن يكون لها غرض سياسي، ولكن سياق الرحلة، وما تحصَّلْنا عليه من نصوص مكمّلة للرّحلة لا يدلّ على ذلك، ربَّما يفيدنا كتاب "شواهد الجلة والأعيان في مشاهد الإسلام والبلدان" في إثبات ذلك، ولكنَّا حتَّى هذا الوقت لم يتيسَّر لنا الاطلاع عليه.
وكان يوم خروج أبي بكر وأبيه من إشبيلية يومًا صعبًا، يصفه ابن العربي بأنَّه أعجب يوم مرَّ عليه[8]، ويصف ساعة خروجُهم من إشبيلية فيقول: "خرجْنا والأعداء يشمتون بنا"[9]، "خرجْنا مكرمين، أو قُلْ: مُكْرَهين، آمنين، وإن شئت خائفين"[10].
خرج الشَّيخ والفتى من إشبيليَّة صبيحة الأحد مستهلَّ ربيع الأوَّل عام 485هـ، متوجّهين إلى مالقة، ومنها إلى غرناطة، التي لم يُطِل فيها المقام، فتابع سيرَه إلى المرية، وأوَّل عمل يقوم به أبو بكر بن العربي في كلِّ بلد ينزل إليْه هو البحث عن العُلماء، ومحاولة الاتِّصال بهم، والجلوس إليْهم.
ثمَّ ركب البحْر إلى بجاية، وكان بمرفأ بجاية بعض العلماء، حرص أبو بكر على ملاقاتهم، وكان ابن العربي يجِد من حفاوة الترْحاب، والاستقبال من كبار القوْم والمبالغة في إكرامهم، ولمَ لا وابن العربي الأب وزير سابق في حكومة إشبيلية السابقة؟!
ثمَّ تابعا سيرَهما طورًا بالبَرِّ وطورًا بالبحر، ومرَّا في طريقهما على بونة (أو عنابة)، ثمَّ دخلا تونس، ثم زارا سوسة، والمهدية، وقد التقى أبو بكر بن العربي بِجملة من عُلماء وفقهاء القيروان، وقد أبدى إعجابه بما سمع وتعلَّم:
"فلمَّا لمح لي هذا الكوكب بطريقة القيروان، واستنارتْ لي فيها بنوع من البرهان، واستبرأْتُها بواضح من الدلالات، غضّ النبات والأفنان، قلت: هذا مطلبي، فأخذت في قراءة شيءٍ من أصول الدين، والمناظرة فيها مع الطَّالبين، ولزمت مجالس المتفقِّهين"[11]، ولم ينسَ أن يقيّم ابن العربي حالة الأدَب في القيروان بأنَّها "على حالة وسطى"[12].
ثمَّ ركبا البحْر من المهدية متَّجهين إلى الحجاز، ويصف ابن العربي ركوبَه البحْر أثناء رحلتِه من إفريقية وصفًا دقيقًا ممتعًا، وكيف عصفتْ بِهم الرِّيح، وقسا البحرُ عليْهم، فتحطَّمت السَّفينة، ونجا أبو بكْر وأبوه من الغرق، وكان خروجُهما بموضع من ساحل طرابلس (برقة)، تسكنه بيوت من بني كعب بن سليم، قال: "وقد سبق في عِلْم الله أن يعظم عليْنا - أي البحْر - بزوله[13]، ويغرقنا في هوله، فخرجنا من البحر خروج الميِّت من القبر، وانتهيْنا بعد خطب طويل إلى بيوت بني كعب من سليم، ونحن من السَّغب[14]، على عطب، ومن العري في أقبح زي، قد قذَف البحر زقاق زيت مزَّقت الحجارة هيئتها، وَدَسَّمَتِ الأدهان وَبَرَها وجلدتَها، فاحتزمناها أُزرًا، واشتملناها لفافًا، تمجُّنا الأبصار، وتخذلنا الأنصار، فعطَف أميرُهم عليْنا ..... فأويْنا إليه فآوانا، وأطعمنا الله على يديْه وسقانا، وأكرم مثوانا وكسانا"[15].
ثمَّ يحدِّثنا أبو بكر بن العربي عن المبالغة في وصْف ما نالهم من إكْرام الأمير لهم، وعرضه عليهم البقاء: ".. وأقمْنا عنده حتَّى ثابت إليْنا نفوسُنا، وذهب عنَّا بؤْسُنا، وسألَنا الإقامة عنده على أن يُصَيِّر إليْنا صدقات بني سليم كلَّها، فأبيْنا إلاَّ الاستِمْرار على العزيمة الأولى، والتَّصميم إلى المرتبة الكريمة التي كانت بنا أولى، ففارقناهُ، ..... وسرنا حتَّى انتهيْنا إلى ديار مصر، فألفيْنا بها جماعة من المحدِّثين والفقهاء والمتكلّمين"[16].
مصر:
نزل ابن العربي في مرفأ الإسكندريَّة ولم يطل بهم المقام بها، ومن ثمَّ واصلا سيْرَهُما إلى القاهرة، وكان وصولهما إليْها في أواخر ربيع الثاني سنة 485هـ.
ويصف ابن العربي حالة الرّكود العلمي لعُلماء مصر، والظّروف السيِّئة التِي تمرُّ بها البلاد في ذلك الوقت قائلاً: "ألفيْنا بها - أي مصر - جماعةً من المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، والسلطان[17] عليهم جريٌّ، وهم من الخمول في سرب خفِي، ومن هجران الخلْق بحيث لا يرشد إليهم جريء، لا ينبِسون من العلم ببنت شفة، ولا ينتسب أحدٌ منهم في فنّ إلى معرفة، بله الأدب.."[18].
ورغْم هذه الحالة التي كان عليْها علماء مصر، إلاَّ أنَّ أبا بكر بن العربي كان يتردَّد على مجالس القرَّاء، ويبدي إعْجابَه بطريقة القراء المصريين فيقول: "وقَدْ سَمِعْت تَاجَ القُرَّاءِ ابْنَ لُفْتَة بِجامِعِ عَمْرٍو يَقْرَأُ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، فكَأَنِّي ما سَمِعْت الآيَةَ قَطُّ، وسَمِعْت ابْنَ الرَّفَّاء - وكَانَ مِن القُرَّاءِ العِظَام - يَقْرَأُ، وأنَا حَاضِرٌ بالقَرافَةِ: {كهيعص} فكَأَنِّي ما سَمِعْتهَا قَطُّ، ....... والقُلُوبُ تَخْشَعُ بِالصَّوْتِ الحَسَنِ كَما تَخْضَعُ لِلوَجْهِ الحَسَنِ، وما تَتَأَثَّرُ بِه القُلُوبُ في التَّقْوَى فهُوَ أعْظَمُ في الأجْرِ وأقْرَبُ إلى لِينِ القُلُوبِ وذَهابِ القَسْوَةِ مِنْها"[19].
وفي مصر تدرَّب أبو بكر على الجدل، وناظر الشِّيعة والقدريَّة، ويصف هذه الطَّوائف قائلاً: "أمَّة غلب عليْها سوء الاعتقاد، ونشئت من غير فطم بلبن العناد، واستولى اليأس منهم على ما هم فيه من الفساد"[20].
القدس:
غادر أبو بكر وأبوه مصر ومنها انطلقا إلى فلسْطين، وفي نيَّتِهما مواصلة السَّير، فواصلا المسير إلى بيت المقْدس، قُبَيْل نهاية سنة 485هـ، وكان بِيَد السَّلاجقة مقاليد الحكم، وكانوا يعملون على نشْرِ الوعْي الإسلامي، وفي القدس يَجد ابن العرَبي بُغْيَته من طلب العلم، فبِها كثرة من العُلماء، وتنوُّع في المذاهب، ووفْرة في المدارس، وتعدُّد في الأدْيان.
فيقول: "ثم رحلنا عن ديار مصر إلى الشام، وأملنا الأمام، فدخلنا الأرْض المقدَّسة، وبلغنا المسجد الأقصى، فلاح لي بدرُ المعرفة، فاستنرتُ به أزْيد من ثلاثة أعوام... وقُلْت لأبي: إن كانت لك نيَّة في الحجّ فامض لعزْمِك، فإنِّي لست برائِم عن هذه البلدة حتَّى أعلم عِلْمَ مَن فيها، وأجعل ذلك دستورًا للعلم، وسلَّمًا إلى مراقيها، فسَاعدني حين رأى جِدِّي، وكانت صحبتُه لي من أسباب جَدّي.."[21].
ولقد طالت إقامة ابن العربي ببيت المقدس أربعين شهرًا – أي: حوالي ثلاثة أعوام أو يزيد - حيث وجد أبو بكر بن العربي القُدس بيئة صالحة للتعلّم والتحصيل، كما وجد بِها مدارس للشَّافعية والحنفيَّة، كما أنَّ الشيوخ والعلماء يعقدون مجالس العلم والمناظرة بين أصحاب المذاهب المختلِفة، والمناظرة بين أصحاب الديانات المختلفة، لقد أغْراه هذا الجوُّ العلمي في القدس، فأقبل على علوم عصْرِه يلتهِمُها، فاستوفى علم الكلام، وأصول الفقه، ومسائل الخلاف، الأمر الَّذي من أجله اتَّخذ قرارَ تأجيل رحلته إلى الحج، رغْم إلحاح والده عليه.
وفي رحاب المسجِد الأقصى كان أبو بكر يقْضِي معظمَ أوقاته، يظلُّ نهارَه في الدرس والتحصيل، ويبيت ليلَه في التهجُّد والعبادة، وحرص ابن العربي على طلب العلم، واستيفاء تحصيله العلمي من شيوخها، فحرص على لقاء جماعة من العُلماء والمحدِّثين الفقهاء الَّذين أخذ عنهم، وتتلْمذ على يد شيخِه الأندلسي أبي بكْر الفهري الطرطوشي (451 - 520هـ).
ورغْم اشتغال ابن العربي بالدَّرس والتَّحصيل، إلاَّ أنَّه حرَص خلال جولاتِه، على زيارة قبور الأنبِياء والصَّالحين، وتسْجيل مشاهداتِه وانطِباعاته، والوقوف على الآثار، فزار قبرَ يُوسف - عليه السلام - وقبر يونس - عليه السلام - وباب حطَّة وقد دخله سنة 486هـ، ومسجد عمر بن الخطَّاب.
ويصِف صخرة المائِدة قائلاً: "شاهَدْت المَائِدةَ بِطُورِ زَيْتَا[22] مِرارًا، وأكَلْت عَلَيْها لَيْلاً ونَهارًا، وذَكَرْت اللَّهَ – سُبْحانَه - فِيهَا سِرًّا وجِهارًا، وكانَ ارْتِفاعُها أسْفَلَ مِن القَامَةِ بِنَحْوِ الشِّبْرِ، وكانَ لهَا دَرَجَتانِ قَلْبِيًّا وجَوْفِيًّا، وكانَتْ صَخْرَةً صَلْداءَ لا تُؤَثِّرُ فِيها المَعاوِلُ، فَكانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: مُسِخَتْ صَخْرَةً إذْ مُسِخَ أرْبَابُها قِرَدَةً وخَنَازيرَ، والَّذي عِنْدي أنَّها كَانَتْ في الأصْلِ صَخْرَة قُطِعَتْ مِن الأرْضِ مَحلاًّ لِلمَائِدةِ النَّازِلَةِ مِن السَّماءِ، وكُلُّ ما حَوْلَها حِجَارَةٌ مِثْلُها، وكَانَ ما حَوْلَها محْفُوفًا بِقُصُورٍ، وقَدْ نُحِتَ فِي ذَلِكَ الحَجَرِ الصَّلدِ بُيُوتٌ، أبْوَابُها مِنْها، ومَجالِسُها مِنْها مَقْطُوعَةٌ فِيها، وحَناياها في جَوانِبِها، وبُيُوتُ خِدْمَتِها قَدْ صُوِّرَتْ مِن الحَجَرِ، كَما تُصَوَّرُ مِن الطِّينِ والخَشَبِ، فإذَا دَخَلْت في قَصْرٍ مِنْ قُصُورِها، ورَدَدْت البَابَ، وجَعَلْت مِنْ وَرَائِه صَخْرَةً كَثُمْنِ دِرْهَمٍ، لم يَفْتَحْه أهْلُ الأرْضِ لِلُصُوقِهِ بِالأرْض، فإذا هَبَّت الرِّيحُ وحَثَتْ تَحْتَهُ التُّرَابَ، لم يُفْتَحْ إلاَّ بَعْدَ صَبِّ المَاءِ تَحْتَهُ والإكْثَارِ مِنْهُ، حتَّى يَسِيلَ بالتُّرابِ ويَنْفَرِجَ مُنْعَرَجُ البَابِ، وقَدْ مَاتَ بِها قَوْمٌ بِهَذه العِلَّةِ، وقَدْ كُنْت أخْلُو فِيهَا كَثِيرًا للدَّرْسِ، ولكِنِّي كُنْت في كُلِّ حِينٍ أكْنُسُ حَوْلَ البَابِ مَخافَةً مِمَّا جَرى لِغَيْرِي فِيها، وقَدْ شَرَحْت أمْرَها في كِتَاب "تَرْتيبِ الرِّحْلة" بِأكْثَرَ مِن هَذا"[23].
ويصف محراب داود - عليْه السلام - قائلاً: "شاهَدْت مِحْرابَ دَاوُد - عليه السلام - في بَيْتِ المَقْدِسِ بِناءً عَظِيمًا مِنْ حِجارَةٍ صَلْدَةٍ لا تُؤَثِّرُ فِيها المَعاوِلُ، طُولُ الحَجَرِ خَمْسُونَ ذِراعًا، وعَرْضُه ثَلاثة عَشَرَ ذِراعًا، وكُلَّما قَامَ بِناؤُهُ صَغُرَتْ حِجارَتُه، ويُرى لَه ثَلاثَة أسْوَارٍ؛ لأنَّهُ في السَّحابِ أيَّامَ الشِّتَاءِ كُلَّها لا يَظْهَرُ لارْتِفاعِ مَوْضِعِه وارْتِفَاعُهُ في نَفْسِه، لَهُ بَابٌ صَغِيرٌ، ومَدْرَجةٌ عَرِيضةٌ، وفِيه الدُّورُ والمَساكِنُ، وفي أعْلاهُ المَسْجِدُ، وفِيه كُوَّةٌ شَرْقِيَّةٌ إلى المَسْجِد الأقْصَى في قَدْرِ البابِ... وليْسَ لأحَدٍ في هَدْمِه حِيلَةٌ"[24].
ثم يصف ابن العربي مشهدًا لثائرٍ على واليه، ويُقارن بين حال أهل القدس، وموقفهم من الثورة، وبين حال أهل الأندلس، وموقفهم من هذه الفِتْنَة لو حدثت في بلادهم:
"ورَأَيْت فِيه – أي: محراب داود، عليْه السَّلام - غَرِيبةَ الدَّهْرِ، وذَلِك أنَّ ثائِرًا ثارَ بِه على والِيهِ، وامْتَنَعَ فِيه بِالقُوتِ، فحَاصَرَهُ، وحَاوَلَ قِتالَهُ بِالنُّشَّابِ مُدَّةً، والبَلَدُ على صِغَرِه مُسْتَمِرٌّ على حَالِه، ما أُغْلِقَتْ لِهَذِه الفِتْنَةِ سُوقٌ، ولا سَارَ إليْها مِن العَامَّةِ بَشَرٌ، ولا بَرَزَ لِلحَالِ مِن المَسْجِدِ الأقْصَى مُعْتَكِفٌ، ولا انْقَطَعَتْ مُناظَرةٌ، ولا بَطَلَ التَّدْرِيسُ، وإنَّما كَانَت العَسْكَرِيَّةُ قَد تَفَرَّقَتْ فِرْقَتَيْنِ يَقْتَتِلُونَ، ولَيْسَ عِنْدَ سائِرِ النَّاسِ لِذَلِك حَرَكَةٌ، ولو كَانَ بَعْضُ هذا في بِلادِنا لاضْطَرَمَتْ نارُ الحَرْبِ فِي البَعِيدِ والقَرِيبِ، ولانْقَطَعَت المَعَايِشُ، وغُلِّقَت الدَّكَاكِينُ، وبَطَلَ التَّعامُلُ لِكَثْرةِ فُضولِنا وقِلَّةِ فُضولِهمْ"[25].
وتجوَّل في ربوع القدس، وشرق الأردن، فزار أكثرَ من ألفِ قرية ومدينة، منها مدينة نابلس ووصف نساءَها قائلاً: "ولقَد دخَلْت نَيِّفًا على ألْفِ قَرْيَةٍ مِن بَرِيَّةٍ، فمَا رَأيْت نِسَاءً أصْوَنَ عِيالاً، ولا أعَفَّ نِساءً مِن نسَاءِ نابُلُسَ... فإنِّي أقَمْت فِيها أشْهُرًا، فمَا رَأيْت امْرَأَةً في طَريقٍ نَهارًا، إلاَّ يَوْمَ الجُمُعةِ، فإنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَيْها حتَّى يَمْتَلِئَ المَسْجِدُ مِنْهُنَّ، فإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ، وانْقَلَبْنَ إلى مَنَازِلهِنَّ، لم تَقَعْ عيْنِي على وَاحِدَةٍ مِنْهُم إلى الجُمُعَةِ الأُخْرَى، وسائِرُ القُرى تُرَى نِساؤُها مُتَبرِّجاتٍ بِزِينةٍ وعُطْلةٍ[26]، مُتَفَرِّقاتٍ في كُلِّ فِتْنَةٍ وعُضْلَةٍ[27]، وقدْ رَأيْت بِالمَسْجِدِ الأقْصَى عَفائِفَ ما خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهنَّ حَتَّى اسْتشْهدْنَ فِيه"[28].
ثمَّ يزور مدينة عسقلان، فينجذب إليها، ويعجب بنشاط أهلها، وخفَّة روحهم، فيقيم بها نحو ستَّة أشهر، ويتَّخذ جملة من الرُّفَقاء والإخوان، لولا هاتف ديني أوْحى إليه بالرحيل، ما كان يترك تلك البلدة رغْم إلحاح أبيه عليْه بالرَّحيل، وأفصح لأبيه عن نيَّته في الرَّحيل، فسرَّ بذلك، وركبا البحْر إلى عكَّا، ثم عرجا على طبرية وحوران، ثمَّ دمشق.
دمشق:
وقد وصل أبو بكر بن العربي وأبوه دمشق في الشُّهور الأولى من سنة 489هـ، واختار ابن العربي من باب الفراديس مقرًّا له، ويصِف ابن العربي هذا الباب فيقول: "بابُ الفَرادِيسِ لَيْسَ في الأرْضِ مِثْلُه، عِنْدَهُ كَانَ مَقرِّي، وإليْهِ مِن الوَحْشَةِ كَانَ مَفرِّي، وإليْه كانَ انْفِرادي لِلدَّرْسِ والتَّقرِّي"[29].
لم يطل المقام بابن العربي في دمشق؛ لأنَّ الحركة العلميَّة فيها تكاد تكون متشابهة مع الحركة العلميَّة التي في القدس، فدمشق لن تضيفَ إليه جديدًا، فنوى الرَّحيل إلى بغداد، وعلى الرَّغْم من قِصَر مدَّة الإقامة في دمشق، إلاَّ أنَّ ابن العربي كانت له جوْلاته ومشاهداتُه الَّتي لم يفُتْه تدوينُها، فوصف لنا ابن العربي المعالم الأثريَّة والتَّاريخيَّة في دمشق، كما صوَّر عمران دمشق وتقدُّمَها في أسباب الرّفاهة والصّيانة والنَّعيم.
فيقول عن أحد هذه المشاهِد العجيبة الَّتي رآها في دمشق: "لقَدْ كُنْت أرَى بِدِمَشْقَ عَجبًا، كَانَ لِجامِعِها بابانِ: بَابٌ شَرْقِيٌّ، وهُوَ بَابُ جَيْرُونَ، وبابٌ غَرْبيٌّ، وكَانَ النَّاسُ يَجْعَلُونَهُ طَريقًا يَمْشُونَ عليها نَهارَهُم كُلَّهُ في حَوائِجِهم، وكَانَ الذِّمِّيُّ إذَا أرَادَ المُرُورَ وقَفَ على البابِ حتَّى يَمُرَّ بِه مُسْلِمٌ مُجْتَازٌ، فيقُول لهُ الذِّمِّيُّ: يا مُسْلِمُ، أتَأْذنُ لي أنْ أمُرَّ مَعَك؟ فيقُولُ: نَعَمْ، فيَدْخُلُ معَهُ، وعليْه الغِيارُ عَلامَة أهْلِ الذِّمَّة، فإذَا رَآهُ القَيِّمُ صاحَ بِه: ارْجِع، ارْجِعْ، فيقُولُ لَه المُسْلِمُ: أنا أَذِنْت لهُ فيَتْرُكُهُ القَيِّمُ"[30].
ويصف مدينة دمشق قائلاً: "مَدِينَةٌ بأعْلاها، ومَدِينَةٌ بِأسْفَلِها، تَشُقُّها تِسْعَةُ أنْهارٍ؛ لِلقَصَبةِ نَهْرٌ، ولِلجامِعِ نَهْرٌ، وباقِيها لِلْبَلدِ، وتجْرِي الأنْهارُ مِنْ تَحْتِها كما تَجْرِي مِنْ فَوْقِها، لَيْسَ فِيها كِظَامةٌ وَلا كَنيفٌ، ولا فِيها دَارٌ، ولا سُوقٌ، وَلا حَمَّامٌ، إلاَّ ويشُقُّهُ المَاءُ لَيْلاً ونَهارًا دَائِمًا أبدًا، وفِيها أرْبَابُ دُورٍ قَدْ مَكَّنُوا أنْفُسَهُم مِن سَعَةِ الأحْوالِ بِالماءِ، حتَّى إنَّ مُسْتَوْقَدَهُم عليْه سَاقِيةٌ، فإذا طُبِخَ الطَّعامُ وُضِعَ في القَصْعةِ، وأُرْسِلَ في السَّاقِية، فيُجْرَفُ إلى المَجْلِسِ فيُوضعُ في المَائِدةِ، ثُمَّ تُرَدُّ القَصْعةُ مِن النَّاحِية الأخْرى إلى المُسْتَوْقَدِ فَارِغةً، فَتُرْسَلُ أُخْرى مَلأى، وهَكَذَا حتَّى يَتِمَّ الطَّعامُ، وإذا كَثُرَ الغُبارُ في الطُّرُقَاتِ أمَر صاحِبُ الماءِ أن يُطْلَقَ النَّهْرُ على الأسْواقِ والأرْباضِ فيَجْري الماءُ علَيْها، حتَّى يَلْجأَ النَّاسُ في الأسْواقِ والطُّرُقَاتِ إلى الدَّكاكينِ، فإذا كُسِحَ غُبارُها سَكَّرَ السَّاقِيانِيُّ أنْهارَها، فَمَشَيْت في الطُّرُقِ على بَرْدِ الهَواءِ ونَقَاءِ الأرْضِ، ولهَا بَابُ جَيْرُون بْنِ سَعدِ بْنِ عُبَادَة، وعِنْدَهُ الْقُبَّةُ الْعَظِيمةُ والمِيقَاتَاتُ لِمَعْرِفَةِ السَّاعاتِ، عَليْها بابُ الفَرَادِيسِ ليْسَ في الأرْضِ مِثْلُه، عِنْدَهُ كَانَ مَقرِّي، وإليْه مِن الوَحْشَةِ كَانَ مَفرِّي، وإلَيْه كَانَ انْفِرادِي لِلدَّرْسِ والتَّقرِّي، وفِيها الغُوطةُ مَجْمَعُ الفَاكِهاتِ، ومَنَاطُ الشَّهَواتِ، عليْها تَجْرِي المِياهُ، ومِنْها تُجْنَى الثَّمَراتُ"[31].
بغداد:
قلنا بأنَّ المقام لم يطل بابن العربي في دمشق، فرحل إلى بغداد، في شعبان سنة 489هـ، وأهلَّ هلال رمضان والقافلة على مشارف العراق، فلمَّا دخل دار السَّلام، كان أوَّل شيء يفعله هو السُّؤال عن حلقات أهل العلم، فدلّوه على المدرسة النظاميَّة، ولكنَّ إقامة ابن العربي لم تطُل بالعراق أكثر من ثلاثة أشهُر، حيثُ نوى أداء فريضة الحجّ هذا الموسم، ورحل ابن العربي إلى الحجاز أواخر ذي القعدة سنة 489هـ.
الحجاز:
خرج ابن العربي من بغداد، إلى بلاد الحجاز، قاصدًا الحجّ، فأحرم من ذات عرق - وهو ميقات الحجيج القادمين من العِراق ونواحيها - يقول ابن العربي: "أمَّا أنا فجئت مراهقًا من ذات عرق إلى الموقف ليلة عرفة، نصفَ الليل، فأصبحت بها، ووقفتُ من الزَّوال يوم الجمعة سنة سبع وثمانين وأربعمائة[32]، ثم دفعت بعد غروب الشمس إلى المزدلفة، فبتّ بها"[33].
ولا يُخفي ابنُ العربي شعورَه الجارف بالسَّعادة لأدائِه فريضة الحجّ في هذا الموسم؛ لأنَّ وقفة عرفة جاءت في يوم الجمعة، فاجتمع للحجيجِ فضل اليوميْن، "لمَّا كانت سنة تسع وثمانين وأربعمائة[34] أهلَّ عليْنا هلال ذي الحجَّة ليلة يوم الخميس... وقد فرِح الناس بوقْفة الجمعة ليجتمع لهم فضل اليوميْن: فضل يوم عرفة وفضل يوم الجمعة؛ ولأنَّ حجَّ النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أيضًا كان يوم عرفة يوم الجمعة"[35].
وقد شاهد قافلةً من الحجيج الشِّيعة القادمين من العراق سنة 489هـ، وقد تركوا الإحرام من ميقات ذات عرق، فـ "الشيعة لا يُحرمون منه"[36].
ومنَ المشاهد المهمَّة التي سجَّلها ابن العربي أثناء إقامته بمكَّة في موسم الحجّ: مشهد مبيت الحجَّاج بعرفة ليلة عرفة، قال: "مررتُ من ذات عرق، فألفيت الحاجَّ كلَّه بائتًا بعرفة ليلة عرفة"[37].
"وهذا بخلاف السنَّة النبويَّة؛ إذ ينبغي أن يكونَ مبيت الحاجِّ في تلك الليلة بمنى لا عرفة"[38]، "وليس على مَن فعل ذلك شيء، ولكنَّه تركَ فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولقد خاب مَن تركه"[39].
ويعلِّق الأستاذ محمد أحمد العقيلي على هذا المشْهد، ذاكرًا سبب عدم مبيت الحجيج في منى فيقول: "الحجيج في ذلك الوقت كانوا غير آمنين على أنفُسِهم أثناء تأدِيَتهم لمناسك الحجّ، فاضطروا إلى ترْك سنَّة المبيت بمنى في اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة، فكانوا يصعدون إلى منى في ذلك اليوم، ثمَّ يتوجَّهون منها مباشرة إلى عرفة؛ خوفًا من غارات محتَمَلة قد يشنُّها بنو شعبة على الحجَّاج أثناء صعودهم لعرفات"[40].
ثم يقول ابنُ العربي: "لقد كُنْت بِمَكَّة مُقيمًا في ذي الحِجَّةِ، سنَة تِسْعٍ وثَمانِينَ وأرْبعِمِائَةٍ، وكُنْت أشْرَبُ ماءَ زَمْزَمَ كثيرًا، وكُلَّما شَرِبْته نَوَيْت بِه العِلمَ والإِيمانَ، حتَّى فَتَحَ اللَّه لي بَرَكَتَه في المِقْدارِ الَّذي يَسَّرَهُ لي مِن العِلمِ، ونَسِيت أن أشْرَبَه لِلعَمَلِ، ويا لَيْتَني شَرِبْته لهُما حتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عليَّ فِيهِما، ولمْ يُقَدَّرْ، فكانَ صَغْوِي إلى العِلمِ أكْثَرَ مِنهُ إلى العَمل"[41].
وصف ابن العربي مشاهداتِه ودوَّن انطباعاته، فصوَّر لنا معالم الحرم المكِّي، كما توقَّف عند المعالم الأثريَّة والتَّاريخيَّة بمكَّة، كما تحرَّى الدقَّة في استِقْصاء الأخبار، وحرص على وصْف نُظم التعليم ووسائله في مكَّة، وأبدى إعجابه الشَّديد بتلك الوسائل، كما أثْنى على الطَّريقة المتَّبعة في التَّعليم، والَّتِي تقوم على أساس التدرُّج في اكتِساب العلوم.
فيقول: "كُنْت أحْضُرُ عِنْدَ الحاسِبِ بِتِلْكَ الدِّيارِ المُكَرَّمةِ، وهُوَ يَجْعَلُ الأعْدادَ على المُتَعَلِّمِينَ الحَاسِبينَ، وأفْوَاهُهُم مَمْلُوءةٌ مِن الماءِ، حتَّى إذا انْتَهَى إلْقاؤُهُ، وقالَ: ما مَعَكُم؟ رَمَى كُلُّ واحِدٍ بِما في فَمِه، وقالَ ما مَعَهُ لِيُعَوِّدَهم خَزلَ اللِّسَانِ عَن تَحْصِيلِ المَفْهُومِ عَن المَسْموعِ، وللقَوْمِِ في التَّعلُّمِ سِيرَةٌ بَديعةٌ، وهيَ أنَّ الصَّغِيرَ مِنْهُم إذا عَقَلَ بعَثُوهُ إلى المَكتبِ، فَإذا عَبَرَ المَكتبَ أخَذَهُ بِتَعْلِيم الخَطِّ والحِسَابِ والعَربِيَّةِ، فإذا حَذَقَهُ كُلَّهُ أوْ حَذَقَ مِنْهُ مَا قُدِّرَ لَه، خَرَجَ إلى المُقْرِئِ فلَقَّنَهُ كِتَابَ اللَّهِ، فَحَفِظَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ رُبْعَ حِزْبٍ، أوْ نِصْفَه، أوْ حِزْبًا، حتَّى إذا حَفِظَ القُرْآنَ خرَجَ إلى مَا شَاءَ اللَّهُ مِن تَعْلِيمِ العِلمِ أوْ تَرْكِه، ومنْهُم - وهُم الأكْثَرُ - مَنْ يُؤَخِّرُ حِفْظَ القُرْآنِ، ويتَعَلَّمُ الفِقْه والحَدِيثَ، وما شَاءَ اللَّهُ، فَرُبَّما كانَ إمامًا، وهُوَ لا يحْفَظُه، وما رَأَيْت بِعَيْني إمامًا يَحْفَظُ القُرْآنَ، ولا رَأيْت فَقِيهًا يَحْفظُه إلاَّ اثْنَيْنِ، ذَلِكَ لِتَعْلَموا أنَّ المَقْصودَ حُدُودُه لا حُرُوفُه، وعُلِّقَت القُلُوبُ اليَوم بِالحُرُوفِ، وضَيَّعُوا الحُدُودَ"[42].
وابنُ العربي في مكَّة والمدينة لا ينسى طلبَه للعلم، فيواصل ابن العربي طلبَ العِلْم، على يد مشايخ وعلماء مكَّة والمدينة، فجلس إليهم مدَّة، ثم "عاد إلى بغداد ثانية، وصحِب بها كثيرًا من العلماء والأدباء، فأخذ عنهم وتفقَّه عندهم، وسمع العِلْم منهم"[43].
العراق:
ثمَّ ارتَحل ابن العربي راجعًا إلى بغداد مرَّة ثانية، بعد أدائِه فريضة الحجِّ، وأقام فيها بعض الوقت، "وصحب بها كثيرًا من العلماء والأُدباء، فأخذ عنهم وتفقَّه عندهم، وسمع العلم منهم"[44]، فتتلْمَذ على يد التبريزي العالم اللغوي (421 - 502هـ)، وأبي بكْر الشَّاشي الشَّافعي (429 - 507هـ)، واستمع إلى دروس أبي حامد الغزالي (450 - 505هـ)، في المدرسة النظاميَّة، وقد التقى به برباط أبي سعيد بمدينة السلام، في جمادى الآخرة سنة 490هـ، ولا يُخْفِي ابن العربي فرحتَه بلقاء الإمام الغزالي، وكان يفتخر بالأخْذ عنه، فيقول: "ورد عليْنا دَانِشْمَنْد[45] فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظاميَّة، معرضًا عن الدنيا، مقبلاً على الله تعالى، فمشيْنا إليْه، وعرضنا أمنيَّتنا عليه، وقلت له: أنتَ ضالَّتنا التي كنَّا ننشد، وإمامُنا الَّذي به نسترشد، فلقِينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصّفة، وتحقَّقنا أنَّ الَّذي نقل إليْنا من أنَّ الخبَر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم، ولو رآه عليُّ بن العباس[46] لما قال:
إِذَا مَا مَدَحْتَ امْرَأً غَائِبًا فَلا تُغْلِ فِي مَدْحِهِ وَاقْصِدِ
فَإِنَّكَ إِنْ تُغْلِ تُغْلِ الظُّنُو نَ فِيهِ إِلَى الأَمَدِ الأَبْعَدِ
فَيَصْغُرُ مِنْ حَيْثُ عَظَّمْتَهُ لِفَضْلِ المَغِيبِ عَلَى المَشْهَدِ
فقصدت رباطَه، ولزمتُ بساطه، واغتنمت خلْوته ونشاطه"[47].
ثمَّ قام ابنُ العربي بجوْلة في أنحاء العراق، فزار البصْرة، والكوفة، والكرْخ، والموصل.
في طريق العودة:
غادر ابنُ العربي بغداد أواخِر سنة 491هـ، بعد أنِ استكمل تحصيلَه العلمي، فمرَّ على دمشق، والقدس، فجدَّد أبو بكر العهْد بشيوخه في الشَّام، وطاف على مزارات بيت المقدس.
الإسكندرية:
ثم ينتقل إلى الإسكندرية أوائل سنة 492هـ، ونزل على أستاذِه أبي بكر الطرطوشي، الَّذي انتقل هو الآخر إلى ثغر الإسكندريَّة ليتَّخذه مقرًّا له، وكان الصليبيُّون قدِ استولَوا على بيت المقدس في شعبان سنة 492هـ - 1098م، وقد حرَص بها على لقاء جماعةٍ من المحدِّثين، فكتب عنهم واستفاد منهم وأفادَهم.
ويَحكي عن بعض مشاهداتِه بالإسكندرية فيقول: "وقدْ شَاهَدْت بِثَغْرِ الإسْكَنْدَرِيَّة إذا مَاتَ مِنْهُم ميِّتٌ صَوَّرُوهُ مِنْ خَشَبٍ في أحْسَنِ صُورةٍ، وأجْلَسُوهُ في مَوْضِعِه مِنْ بَيْتِه وكَسَوْهُ بِزَّتَه إنْ كَانَ رَجُلاً، وحِلْيَتَها إنْ كَانَتْ امْرَأةً، وأغْلَقُوا عَلَيْه البابَ، فإذا أصَابَ أحَدًا مِنْهُم كَرْبٌ أو تَجَدَّدَ لَه مَكْرُوهٌ، فتَحَ البابَ عَلَيْه وجَلَسَ عِنْدَهُ يَبْكي ويُناجِيهِ بكانَ وكانَ حتَّى يَكْسِرَ سَوْرةَ حُزْنِهِ بإهْراقِ دُمُوعِه، ثُمَّ يُغْلِقُ البابَ عليْه وينْصَرِفُ عَنْه، وإنْ تَمَادَى بِهم الزَّمانُ يَعْبُدُوها مِن جُمْلةِ الأصْنامِ والأوْثانِ"[48].
وكانت وفاة والده بالإسكندرية في محرَّم سنة 493هـ/ 1099م، أحد الأسباب القويَّة، الَّتي دفعته للرجوع إلى وطنه، في نفس العام، بعد رحلة استغرقتْ ثَمانية أعوام[49]، قضاها ابن العربي، متجوِّلاً في بلاد المشرق الإسلامي، طالباً للعلم تارةً، وحاجًّا تارة، وسائحًا تارة أخرى.
ومن الصعوبة تحديد طريق العوْدة إلى الأندلس، أكانت بحرًا أم برًّا، إلاَّ أنَّه نزل بتلمسان، وفاس وأملى بهما مجالس علم، ثمَّ مرَّ بأرض دكالة، ثمَّ دخل ابن العربي مراكش عاصمة المغرب وقابل ابن تاشفين.
"وقدم إلى بلده إشبيليَّة، بعلم كثير لم يدخلْه أحد قبله، ممَّن كانت له رحلة إلى المشرق"[50]، "فحلَّها والنفوس إليه متطلِّعة، ولأنبائه متسمعة"[51].
ويبدو أنَّ ابن العربي، بعد عودته إلى بلاد الأندلس، أكثرَ من الحديث عن رحلتِه، ومشاهداته وانطباعاته عن بلاد المشرق، "ولكثْرة حديثه وأخباره، وغريب حكاياته ورواياتِه، أكثر النَّاس فيه الكلام، وطعنوا في حديثه"[52].
وكما شاهد ابن العربي سقوطَ دولة آل عباد على يد يوسف بن تاشفين في أوَّل شبابه، شاهد كذلك سقوط دولة بني تاشفين على يد عبدالمؤمن بن علي، صاحب دولة الموحّدين في أواخر شيخوختِه.
وفي سنة 542هـ ترأَّس أبو بكر بن العربي وفد (إشبيلية)، لمقابلة عبدالمؤمن بن علي بمراكش، إلاَّ أنَّ عبدالمؤمن حبس هذا الوفد في مراكش نحو عام، ثم سرّحوا، وتوفِّي ابن العربي أثناء عودته بمقربةٍ من مدينة فاس، ودفِن بها.
ــــــــــــــــ
[1] أحمد بن المقري التلمساني: نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب - تحقيق إحسان عباس - ج2 - ص34 - دار صادر - بيروت - 1968م.
[2] المرجع السابق - ج2 - ص29.
[3] أبو بكر بن العربي: قانون التأويل - تحقيق محمد السليماني - دار الغرب الإسلامي - ص68 - بتصريف - بيروت - 1990م.
[4] تمَّ نشْر هذا الكتاب بتحْقيق محمد يعلى - الوكالة الإسبانية للتعاوُن الدولي - مدريد 1996م، ولكن لم يتوفَّر لنا حظّ الاطلاع عليه.
[5] سعيد أعراب: مع القاضي أبي بكر ابن العربي - دار الغرب الإسلامي - الطبعة الأولى - بيروت - 1987م.
[6] أبو بكر بن العربي: قانون التأويل - ص75 وما بعدها.
[7] عبدالرحمن بن خلدون: مقدّمة ابن خلدون - تحقيق علي عبدالواحد وافي - ج2 - ص616 وما بعدها - مكتبة الأسرة 2006م - القاهرة.
[8] أبو بكر بن العربي: قانون التَّأويل - ص75.
[9] نفسه.
[10] المرجع السابق - ص77.
[11] المرجع السابق - ص84.
[12] نفسه.
[13] أي بعجائبه.
[14] السغب: الجوع مع التعب.
[15] ابن العربي: قانون التأويل - ص85.
[16] المرجع السابق - ص88 وما بعدها.
[17] هو معد بن الظَّاهر بن الحاكم بأمر الله، خامس خلفاء مصر من بني عبيد.
[18] ابن العربي: قانون التأويل - ص89.
[19] ابن العربي: أحكام القرآن، تحقيق محمد عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية، ج4، ص4 وما بعدها، الطبعة الثالثة، بيروت، 2003م.
[20] ابن العربي: قانون التأويل - ص90.
[21] المرجع السابق - ص90 وما بعدها.
[22] جبل قريب من بيت المقدس.
[23] ابن العربي: أحكام القرآن - ج2 - ص4 وما بعدها.
[24] المرجع السابق - ج4 - ص6.
[25] المرجع السابق - ص7.
[26] عطلة: عارية من الزينة.
[27] عضلة: شجرة تشبه الدفلي.
[28] ابن العربي: أحكام القرآن - ج3 - ص569.
[29] المرجع السابق - ج4 - ص392.
[30] المرجع السابق - ج2 - ص470 وما بعدها.
[31] أحكام القرآن - ج 4 - ص392.
[32] الصَّحيح أنَّها سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
[33] أبو بكر بن العربي: عارضة الأحوذي بشرْح صحيح الترمذي - دار الكتب العلميَّة - ج4 - ص153 - الطبعة الأولى - بيروت - 1995م.
[34] اتَّخذ البعض من هذا النَّص، والنَّص السَّابق عليه، حجَّة بأنَّ ابن العربي قام بأداء فريضة الحج مرَّتين:
المرَّة الأولى: كانت في عام 487هـ/ 1094م.
والمرة الثانية: كانت في عام 489هـ/ 1096م.
وهذه مغالطة بُنِيَت على تحريف في النَّصّ، فالفرق بين سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وتسع وثمانين وأربعمائة يسير، والدَّليل على أنَّ ابن العربي لم يحجَّ في سنة سبع وثَمانين وأربعمائة، أوَّلاً: أنَّه بدأ رحلته، بدأت سنة 485هـ/ 1092م، وكما يقول ابنُ العربي: أنَّه أقام في القدس ثلاث سنوات، فمعنى ذلك أنَّ ابن العربي كان ما زال في القدس سنة 487هـ.
ثانيًا: أنَّ ابن العربي جاء الحجاز قادمًا من العراق والدَّليل على ذلك أنَّه أحرم من ذات عرق - وهو ميقات الحجيج القادمين من العراق - فكيف لابن العربي أن يَخرج من العراق لأداء فريضة الحج سنة سبع وثَمانين وأربعمائة، وهو ما زال بالقدس، والصحيح المتَّفق عليه أنَّ ابن العربي لم يؤدّ فريضة الحجّ إلاَّ مرَّة واحدة سنة تسع وثَمانين وأربعمائة.
[35] أبو بكر بن العربي: عارضة الأحوذي - ج4 - ص49 وما بعدها.
[36] نفسه.
[37] المرجع السابق - ج4 - ص110.
[38] محمد أحمد العقيلي: "قبيلة بني شعبة" مجلة العرب - ج11، 12 - 1974م - ص897 وما بعدها - الرياض - دار اليمامة.
[39] أبو بكر بن العربي: عارضة الأحوذي - ج4 - ص110.
[40] محمد أحمد العقيلي: "قبيلة بني شعبة" مجلة العرب - ج11، 12 - 1974م - ص897 وما بعدها - الرياض - دار اليمامة.
[41] ابن العربي: أحكام القرآن - ج3 - ص98.
[42] المرجع السابق - ج4 - ص349.
[43] نفح الطيب - ج2 - ص29 وما بعدها.
[44] نفسه.
[45] دانشمند: كلمة فارسية تعني العارف، أو الحكيم العلامة، والمقصود بها الإمام الغزالي.
[46] هو الشاعر: ابن الرومي.
[47] ابن العربي: قانون التأويل - ص 111 وما بعدها.
[48] ابن العربي: الأحكام - ج 4 - ص9.
[49] لقد استغرقت رحلة ابن عربي ثمانية أعوام حتى وفاة والده، وحوالي عشْر سنوات حتى عودته إلى إشبيليَّة، حيث ابتدأ رحلتَه في مستهل ربيع الأول سنة 485هـ - 1092م، وكانت عودته سنة 495هـ - 1102م.
[50] المقري: نفح الطيب - ج2 - ص 29 وما بعدها.
[51] المرجع السابق - ج2 - ص 34.
[52] المرجع السَّابق ج2 ص30.

اكتب تعليق

أحدث أقدم