رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه السنة

رئيس اتحاد الوطن العربى الدولى يتحدث عن فقه السنة



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن استقلال السنَّة بالتَّشريع قضية من أهم القضايا الجديرة بالتذكير بها، والتأكيد عليها، وإشاعة حُجَجها وبراهينها؛ لأنها قضية المصدر الثاني من مصادر التَّشريع الإسلامي الحنيف، الذي لا غنى عنه في بيان الإسلام وتقرير أحكامه وتشريعاته، والذي لا يألو خصوم الإسلام في القديم والحديث الجهد في محاولة النيل منه، والتشكيك في حجيته، كله أو بعضه؛ بُغيةَ تحريف الإسلام عما أنزله الله به؛ نورًا وهدى ورحمة للعالمين.
والمنكرون للسنَّة عبر العصور أصناف ومراتب:
الأولى: مَن ينكر الاحتجاج بالسنَّة جملة؛ فلا حجة إلا في القُرْآن، ولا دليل إلا ما كان مستمدًّا منه، معتمدًا عليه.
الثانية: مَن ينكر خبر الآحاد، ويقصُرُ الاحتجاج على القُرْآن والحديث المتواتر.
الثالثة: مَن لا يقبَل مِن السنَّة إلا ما كان بيانًا لحكم قُرْآني؛ لأن السنَّة - في زعم هؤلاء - ليست حجة في ذاتها، وإنما هي مبينة للقُرْآن فقط[1].
والقصد من هذا الموضوع الإسهام في سد الذريعة إلى النيل من السنَّة الشريفة بما من شأنه من الأقاويل - في استقلالها بالتَّشريع - أن يسند مذهب الطاعنين فيها المنكرين لحجيتها على اختلاف مراتبهم.
إنها قضية العقيدة تجاه السنَّة الشريفة أولًا، كما أنها من صميم علم الحديث ومرتكزه، ومن صميم علم التفسير والفقه وأصوله، فأي خلل في الاعتقاد الصحيح فيها ينعكس ضرورة على كل العلوم الشرعية الخادمة للفتوى، ثم الفتوى نفسها، والأحكام الشرعية في جوانب الحياة ومجالاتها المختلفة.
وسأتناول هذا المحور في العناصر الآتية:
أولًا: مقدمات تعريفية بعنوان الموضوع.
ثانيًا: أقوال العلماء في استقلال السنَّة بالتَّشريع، وأدلتهم.
ثالثًا: الموازنة بين الآراء وتقرير الراجح منها.
أولًا: مقدمات تعريفية بعنوان الموضوع.
1 - تعريف السنَّة لغة واصطلاحًا:
أ - السنَّة لغة:
السنَّة في اللغة مشتقة من فعل (سَنَّ) بفتح السين المهملة وتشديد النون، أو من فعل (سنن)، وهذه المادة تفيد أن الشيء تكرر حتى أصبح قاعدة.
ولها عدة معانٍ، الأصل فيها:
السيرة المستمرة والطريقة المتبعة المعتادة، حسنةً كانت أو سيئة، قال ابن الأثير: قد تكرر في الحديث ذكر السنَّة وما تصرف منها، والأصل فيها: الطريقة والسيرة[2].
ب - السنَّة اصطلاحًا:
يختلف تعريف السنَّة في اصطلاح العلماء بحسب مجال تعريفها، في علم الحديث، أو الأصول، أو الفقه.
ويَعنينا في هذا المقام تعريفُها عند علماء أصول الفقه خاصة، بأنها: ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير؛ مما يصلح أن يكون دليلًا لحُكم شرعي[3].
2 - أقسام السنَّة بالنسبة للقُرْآن الكريم.
تنقسم السنَّة في علاقتها بالقُرْآن الكريم - بمعناها عند علماء أصول الفقه - إلى أقسام ذكرها "الشافعي" ثم من بعده "ابن القيم" حيث قال: "والسنَّة مع القُرْآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه، فيكون توارد القُرْآن والسنَّة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
الثاني: أن تكون بيانًا لِما أريد بالقُرْآن وتفسيرًا له.
الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القُرْآن عن إيجابه، أو محرِّمة لِما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام [4].
3 - معنى استقلال السنَّة بالتَّشريع:
أ - المراد باستقلال السنَّة: أن تأتي بما لم يُنَص عليه في الكتاب، إما بوحي غير القُرْآن، وإما باجتهاد معصوم فيه[5].
فالسنَّة المستقلة لا تعني الخروج عن دائرة الوحي العام، وإن خرجت عن دائرة الوحي "القُرْآن" من حيث ما وردت به من أحكام خاصة.
قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113].
يقول الشافعي: فذكر الله الكتاب، وهو القُرْآن، وذكر الحكمة، فسمِعتُ مَن أرضى من أهل العلم بالقُرْآن يقول: الحكمة سنَّة رسول الله[6].
ب - التَّشريع في الإسلام هو: وَضْعُ الحُكم الشرعي لكل فعل من أفعال المكلفين، سواء أكان ذلك الحكم هو الوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الإباحة [7].
ج - فاستقلال السنَّة بتشريع الأحكام معناه: أن تأتي السنَّة بأحكام زائدة على ما في القُرْآن الكريم، بحيث لا يمكن للمجتهد أن يستنبطها منه.
ثانيًا: آراء العلماء في استقلال السنَّة بالتَّشريع:
للعلماء في هذه المسألة قولان:
1 - قول باستقلال السنَّة بالتَّشريع.
2 - وقول بعدم استقلاليتها بالتَّشريع.
وهو ما ذكره "الشافعي" في كتابه "الرسالة" في معرِض ذكره لأقسام السنَّة الشريفة[8].
1 - القائلون باستقلال السنَّة بالتَّشريع وأدلتهم.
ذهب إلى القول باستقلال السنَّة بالتَّشريع جمهور العلماء، وعلى رأسهم الإمام الشافعي:
ويستند هذا المذهب في رأيه إلى أدلة، منها:
أ - إيجاب الله تعالى الطاعةَ لرسوله، والتسليم لحكمه في نصوص، منها:
قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
يقول الشافعي: نزلت هذه الآية في رجل خاصم "الزبيرَ" في أرض، فقضى النبيُّ بها "للزبير".
وهذا القضاء سنَّة من رسول الله، لا حُكم منصوص في القُرْآن[9].
فاستدل الشافعيُّ بهذه الآية على أن هذا الحكم لم يكن في كتاب الله نصًّا واضحًا، وبأنه لو كان كذلك، لكان عدم إيمانهم ناشئًا عن ردِّهم حُكمَ الكتاب، وعدم تسليمهم له، وليس بناشئ عن عدم تحكيم الرسول وعدم التسليم له، وعن الحرج مما قضى، وحينئذ كان الظاهر أن يقال: فلا وربك لا يؤمنون، حتى يقبَلوا حُكمَ الكتاب ويسلموا له[10].
قوله تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80].
وجه الدَّلالة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع فيما زاد من سنَّته على القُرْآن الكريم، لم يكن لطاعتِه معنًى، ولسقطت طاعته المختصة به، وإذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق القُرْآن لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى: ﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ﴾ [النساء: 80][11].
قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 59].
يقول ابن القيم: "فأمَر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غير عرضِ ما أمَر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعتُه مطلقًا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه؛ فإنه أوتي الكتابَ ومِثلَه معه..." [12].
ب - إسناد الله تعالى إلى نبيِّه تحليلَ الطيبات وتحريم الخبائث إسنادًا عامًّا:
قال سبحانه في أوصاف نبيه: ﴿ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].
فالآيةُ الكريمة أَسندت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تحليلَ الطيبات وتحريم الخبائث دون تفرقة بين ما ذكر في القُرْآن وما لم يُذكَر فيه؛ لأن هذا الكل مِن عند الله عز وجل.
ومن الأحاديث الصريحة في هذا المعنى: حديث الرجل الذي قال عن الحج: "أفي كلِّ عام يا رسول الله؟ فقال: ((لو قلتُ: نَعم، لوجَبَتْ))[13]، فكان مناط الوجوب مِن عدمه قوله: "نعم".
وكذلك حديث: ((لولا أن أشقَّ على أمَّتي، لأمرتُهم بالسواك عند كل صلاة))[14].
وجه الدَّلالة: يقول العيني فيها: فيه جواز الاجتهاد منه فيما لم ينزل عليه فيه نص؛ لكونه...ترَك الأمر به لخوف المشقة، والأمر منه أمرٌ من الله في الحقيقة؛ لأنه لا ينطِقُ عن الهوى[15].
ويتأكد هذا المعنى بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: ((ألَا إني أُوتيتُ الكتابَ ومِثلَه معه، ألا لا يوشك رجل على أريكته يقول: عليكم بهذا القُرْآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلُّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه، وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرم الله، ألا لا يحِلُّ لكم الحمارُ الأهلي، ولا كلُّ ذي ناب مِن السباع، ولا لقطة معاهَد، إلا أن يستغنيَ عنها صاحبُها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يَقْرُوه، وله أن يُعقِبَهم بمثل قِراه))[16].
وجه الدلالة: فهذا الحديث يدل على أن الشريعة تتكون من الأصلين معًا: الكتاب والسنَّة، وأن في السنَّة ما ليس في الكتاب، وأنه يجب الأخذ بما في السنَّة كما يجب الأخذ بما في الكتاب الكريم؛ لأن الحديث صريح في أن الذي أحلَّه أو حرَّمه رسول الله مِثلُ الذي أحله أو حرمه الله في الحكم؛ لأن الله أوجب طاعة رسوله طاعةً عامة في القُرْآن الكريم.
قال الإمام الخطابي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشِكُ شبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القُرْآن...إلخ الحديث)، يحذر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من مخالفة السنن التي سنها مما ليس له في القُرْآن ذِكر، على ما ذهب إليه الخوارج والروافض؛ فإنهم تعلقوا بظاهر القُرْآن، وتركوا السنن التي قد تضمنت بيان الكتاب، فتحيَّروا وضلُّوا "[17].
ويقول الطيبي: (ألا لا يحل لكم الحمار): شروع في بيان ما ثبت بالسنَّة، وليس له أثر في الكتاب، على سبيل التمثيل لا التحديد[18].
ج - أجمع المسلمون على أحكام فرعية لا مستند لها إلا السنَّة المستقلة، وإجماعهم على الأخذ من هذا القسم، والاستناد إليه - يستلزم إجماعهم على حجيته.
فمن هذه الأحكام: كون الجدة - أم الأم، أو أم الأب - ترث، وكونها تأخذ السدس، فهذا قد انعقد الإجماع عليه[19]، ومستنده: السنَّة المستقلة، وليس بموجود في الكتاب.
فهذا أبو بكر (سيد الخلفاء الراشدين، وإمام المجتهدين، وأعرفهم بدلالات القُرْآن ومعانيه وكلياته) يقرر على الملأ من الصحابة المجتهدين (الخبيرين بالقُرْآن الذي نزل بلسانهم وبين أظهرهم) - لَمَّا سألته أم الأم عن حكمها في الميراث أنه لا يجد لها في كتاب الله شيئًا، ولا يعلم لها في سنة رسول الله شيئًا، ثم أخذ يسأل الناس عن حديث فيها، فأخبره اثنانِ، فعمِل به.
وكل ذلك قد أقره عليه الصحابة - مَن حضر منهم الحادثة، ومن سمع بها - فكان إجماعًا منهم على عدم وجود حكمها في القُرْآن، وعلى حجية هذا النوع الذي لم يوجد حكمه في القُرْآن.
وهذا عمرُ: يفعل ما فعل أبو بكر لما سألته أم الأب[20]، وقد روي عن عمر حوادثُ كثيرة من هذا النوع.
ومن هذه الأحكام: مشروعية الشُّفعة[21]، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها[22].
وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب[23]، وحد الرجم[24]، والنهي عن زواج المتعة[25]، وغير ذلك كثير وكثير.
حتى قال ابن القيم:" أحكام السنَّة التي ليست في القُرْآن إن لم تكن أكثر منها، لم تنقص عنها، فلو ساغ لنا ردُّ كل سنَّة زائدة كانت على نص القُرْآن، لبطَلَتْ سُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، إلا سنَّة دل عليها القُرْآن، وهذا الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيقع، ولا بد من وقوع خبره"[26].
ويشهد لذلك أنه كثيرًا ما يصدِّر العلماء رؤوس الأبواب في كتب الفقه على اختلاف مذاهبها بعبارة: الأصل في مشروعيته السنَّة، وما في معناها من العبارات؛ إعلامًا بأن تلك الأحكام إنما تقررت بالسنَّة المطهرة استقلالًا مِن غير أن يرد لها ذكر في القُرْآن الكريم.
د - لو لم يجُزِ استقلال السنَّة بالتَّشريع، لم يجُزْ تأكيدُها ولا تبيينها لِما في الكتاب.
لأن التأكيد فرع الصلاحية للتأسيس، وفي التبيين نوع استقلال في تفاصيل الحكم المبيَّن، فكل ما يفرض مانعًا من الاستقلال يكون مانعًا من البيان[27].
هـ - الوقوع في الشرائع السابقة:
في شريعة إبراهيم عليه السلام:
حيث كلفه الله تعالى بذبح ابنه بواسطة الوحي في المنام، وهو تكليف لابنه بالامتثال له، وقد أخذ كلٌّ منهما في القيام بالواجب، وأثنى الله عليهما بسبب ذلك.
وفي شريعة موسى عليه السلام:
حيث أمر فرعون بالإيمان به، وإرسال بني إسرائيل معه، ولَمَّا تنزل التوراة عليه، وقد قامت الحجة على فرعون وصار عاصيًا لَمَّا لم يُطِعْ موسى عليه السلام[28].
و - عموم عصمته صلى الله عليه وسلم في التبليغ عن الله تعالى.
فليس يمتنع عقلًا ولا شرعًا أن تستقل السنَّة بالتَّشريع، ما دام النبي صلى الله عليه وسلم معصومًا عن الخطأ في تبليغه عن الله عز وجل في جميع أقواله وأفعاله؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
2 - أهمُّ أدلة المنكِرين لاستقلال السنَّة بالتَّشريع:
لا بد في هذا المقام من التمييز بين فريقين من المنكرين لاستقلال السنَّة بالتَّشريع، وتحديد الفريق المقصود خلافه في هذا الموضوع.
ذهب إلى القول بعدم استقلال السنَّة بالتَّشريع فريقان:
الفريق الأول: فريق لا يأخذ بأحكام السنَّة المستقلة عند القائلين باستقلالها بالتَّشريع؛ فخلاف هذا الفريق خلاف حقيقي، وليس هو المرادَ مناقشتُه في هذا الموضوع أصالةً، وإنما موضوعه الأنسب به: "حجية السنَّة النبوية الشريفة ورد شبهات منكريها".
الفريق الثاني: فريق يأخذ بتلك الأحكام، لكنه لا يعتقد استقلال السنَّة بها، وإنما تشريعها عنده بالقُرْآن الكريم، وما جاء في السنَّة يعتبره بيانًا وليس استقلالًا، وهو رأي "الشاطبي" ومَن ذهب مذهبه.
وخلاف هذا الفريق خلاف لفظي، وهو القول المخالف المقصود مناقشته في هذا الموضوع.
وأهم أدلتهم:
أ - أن الله تعالى يقول: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، ويقول: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89]، وذلك يدلُّ على أن القُرْآن الكريم اشتمل على جميع أحكام الدِّين، وإلا كان مفرِّطًا فيه، ولم يكن تبيانًا لكل شيء.
والجواب: أن القُرْآن الكريم لم يفرِّطْ في شيء من أمور الدِّين على سبيل الإجمال لا التفصيل[29].
وأن بيان القُرْآن الكريم نوعان: بيان بطريق النص، وبيان بطريق الإحالة على دليل من الأدلة الأخرى، وعلى رأسها السنَّة النبوية الشريفة، في مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7][30].
ب - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجئ الجواب في عدد من القضايا التي سئل عنها إلى حين نزول القُرْآن الكريم فيها، ولو كانت السنَّة تستقل بالتَّشريع لأجاب عنها بسنَّتِه الشريفة من غير أن ينتظر نزول القُرْآن الكريم عليه.
والجواب: أن تلك القضايا التي انتظر الوحي بالقُرْآن فيها قليلةٌ معدودة، وقضايا كثيرة غيرها بلَّغها عن الله تعالى بسنَّته من غير انتظار لنزول الوحي "القُرْآنِ" بها.
فالله - عز وجل - هو الذي يختار لنبيِّه ما يكون تشريعًا بالوحي "القُرْآن"، فينزل عليه القُرْآن فيه فورًا، أو يؤخر نزوله لحِكَم ومصالح في ذلك التأخير، وما يكون تشريعًا بالسنَّة فيبلِّغُ به عن ربه ابتداءً.
ج - أن القُرْآن الكريم دل على وجوب العمل بالسنَّة، فكل عمل جاءت به السنَّة عمل بالقُرْآن.
والجواب عليه: أن النص الدال على حجية السنَّة لا يقال: إنه نص على الأحكام الفرعية التي ثبتت بالسنَّة[31].
د - ما يعتبر استقلالًا للسنَّة في التَّشريع لا يخرج عن كونه بيانًا لمجمَل القُرْآن.
والجواب عليه: أن التبيين نفسَه لا يخلو من نوع استقلال في تفاصيل الحكم المبيَّن، وكل ما يفرض مانعًا من الاستقلال، يكون مانعًا من البيان، كما تقدم[32].
هـ - أن السنَّة لم تتعدَّ مقاصد التَّشريع القُرْآني.
وجوابه: أنه لا يمكن للمجتهد أن يستنبط الأحكام التفصيلية بالمقاصد العامة للقُرْآن، حتى نسلِّم أن السنَّة لم تأتِ بزائد عما في القُرْآن الكريم[33].
ثالثًا: الموازنة بين الرأيين؛ مَن قال بالاستقلال ومَن أنكره:
يتبين مما تقدم من أدلة الفريقين أن الخلاف بينهم في استقلال السنَّة بالتَّشريع خلاف لفظي، وليس خلافًا حقيقيًّا؛ لأنهم متفقون على وجود أحكام جديدة لم ترد في القُرْآن الكريم لا نصًّا ولا صراحة.
إلا أن الجمهور يقولون: إن هذا هو الاستقلال في التَّشريع بعينه؛ لأنه إثبات لأحكام لم ترِدْ في الكتاب.
أما "الشاطبيُّ" ومَن ذهب مذهبه: فإنهم مع تسليمهم بعدم ورودها بنصها في القُرْآن الكريم، فإنهم يقولون: إنها ليست زيادةَ شيءٍ ليس في القُرْآن، وإنما هي بيان لِما جاء به القُرْآن الكريم.
الرأي الراجح: رأي الجمهور؛ لقوة أدلتهم، وسلامتها من المناقشة.
ولما يلزم عن قول "الشاطبي" وغيره من نوع مساندة للمنكِرين لحجية السنَّة بكل أقسامها، وفتح الذريعة لهم لمزيد من التطاول على السنَّة والتشكيك فيها باتخاذ موقف "الشاطبي" في المسألة سندًا لباطلهم، ولو مِن غير الوجه الذي قصده.
ولما يؤدي إليه من الاعتقاد بانحصار الوحي والتَّشريع في القُرْآن دون السنَّة، وهو خلاف الواقع ومقتضى الأدلة التي تقدم بيانها.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
مراجع يتوسع في الإفادة منها في الموضوع:
• حجية السنَّة د. عبدالغني عبدالخالق.
• السنَّة ومكانتها في التَّشريع الإسلامي د. مصطفى السباعي.
• السنَّة حجيتها ومكانتها في الإسلام والرد على منكريها د. محمد لقمان السلفي.
• السنَّة تشريع لازم ودائم، د. فتحي عبدالكريم.
• منزلة السنَّة من الكتاب وأثرها في الفروع الفقهية،محمد سعيد منصور.
________________________________________
[1] كتاب جماع العلم، المطبوع مع الأم (باب: حكاية قول الطائفة التي ردت الأخبار كلها)، دار المعرفة، بيروت، 1973، جـ 7، ص275.
[2] النهاية في غريب الحديث ص 449.
[3] ينظر: فواتح الرحمات بشرح مسلم الثبوت (2/ 96)، بهامش المستصفى للغزالي، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 127)، التحرير في أصول الفقه لابن الهمام (3/ 19/ 20)، إرشاد الفحول للشوكاني، ص: 33.
[4] إعلام الموقعين 2 / 220.
[5] حجية السنة ص 532.
[6] الرسالة ص 73.
[7] السنة تشريع لازم ودائم، فتحي عبدالكريم ص 43.
[8] الرسالة ص 90.
[9] الحديث في هذه القصة: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المساقاة، باب سَكْرِ الأنهار، رقم 2359، 236، وكتاب التفسير، باب: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [النساء: 65]، رقم 4585، ومسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، رقم 2357.
[10]حجية السنة صـ 295، انظر أصل الكلام الرسالة للشافعي ص 82.
[11] إعلام الموقعين (2 / 307، 308) ط: دار الجيل، بيروت.
[12] إعلام الموقعين (2 / 313) ط: دار الجيل.
[13]صحيح مسلم رقم 1337.
[14]صحيح البخاري رقم 887، وصحيح مسلم رقم 252.
[15]عمدة القاري (6 / 180).
[16] أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في لزوم السنة (4604)، وأحمد في المسند (4 / 130، 131)، وإسناده صحيح.
[17] معالم السنن (7 / 😎.
[18] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1 / 247).
[19] انظر: نيل الأوطار (6 / 51)، والمغني (7 / 52)، ولا عبرة بما رُوِيَ عن ابن عباس: أنها بمنزلة الأم؛ فهي روايةٌ شاذَّة.
[20] الحديث في ميراث الجدة: أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الفرائض، باب في الجدة (2894)، والترمذي، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة (2101)، وقال: وهذا أحسن وأصح من حديث ابن عيينة.
[21] الحديث في ذلك: أخرجه البخاري، كتاب الشفعة، باب الشفعة فيما لم يقسم (2257). حجية السنة ص 515، 516.
[22]أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب لا تنكح المرأة على عمتها (5109)، ومسلم، كتاب النكاح، باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح (1408)، وانظر: نيل الأوطار (6 / 146)، وسبل السلام (3 / 998).
[23] أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب الشهادة على الأنساب (2645)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب تحريم ابنة الأخ في الرضاعة (1147)، وانظر: نيل الأوطار (6 / 317)، وسبل السلام (3 / 1151).
[24] أخرجه مسلم، كتاب الحدود، باب حد الزنا (1690)، وانظر: نيل الأوطار (7 / 86)، وسبل السلام (4 / 1267).
[25] أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (4216)، ومسلم، كتاب النكاح، باب نكاح المتعة... (1407)، وانظر: نيل الأوطار (6 / 133).
[26]إعلام الموقعين (2 / 290).
[27] حجية السنة ص 508.
[28] حجية السنة ص 507.
[29]حجية السنة ص 388
[30]حجية السنة ص 385.
[31]حجية السنة ص 527.
[32] حجية السنة ص 508.
[33] انظر حجية السنة صـ 530 ـ 531، والسنة النبوية ومكانتها في التشريع صـ 132.

اكتب تعليق

أحدث أقدم