بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
دَّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسمِ (الجَمِيلِ)
الجَمِيلُ فِي اللغَةِ مِنَ الجَمَالِ هُوَ الحُسنُ فِي الخِلقَةِ وَالخَلقِ، جَمُلَ يَجمُلُ فَهُوَ جَمِيلٌ كَكَرُمَ فَهُوَ كَرِيمٌ، وَتَجمَّلَ تَزيَّنَ، وَجَمَّلَهُ تَجمِيلًا زَيَّنَهُ، وَأَجَمَلَ الصَنِيعَةَ عِندَ فُلاَنٍ يَعِني: أَحسَنَ إِلَيهِ، وَالمُجَامَلَةُ هِيَ المُعَامَلةُ بِالجَمِيلِ، وَالتَّجَمُّلُ تَكَلُّفُ الجَمِيلِ، وَقَدْ جَمُلَ الرَّجُلُ جَمَالًا فَهُوَ جَمِيلُ وَالمرأَةُ جَمِيلَةٌ، وَقَالَ الأحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ:
وَإِذَا جَمِيلُ الْوَجْهِ لَمْ
يَأْتِ الْجَمِيلَ فَمَا جَمَالُهْ
مَا خَيْرُ أَخْلَاقِ الْفَتَى
إِلَّا تُقاهُ وَاحْتمَالُهْ[
وَالصبرُ الجَمِيلُ هُوَ الذِي لَا شَكوَى مَعَهُ، وَلَا جَزَعَ فِيهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، وَقَولُهُ: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85]؛ أَيْ: أَعرِضْ عَنهُم إعرَاضًا لَا جَزَعَ فيهِ.
وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الجَمِيلُ، جَمَالُهُ سُبحَانَهُ عَلَى أَربَعِ مَرَاتِبَ: جَمَالِ الذَّاتِ، وَجَمَالِ الصِّفَاتِ، وَجَمَالِ الأَفعَالِ، وَجَمَالِ الأَسمَاءِ.
فَأَسمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَأَفعَالُهُ كُلُّهَا حِكمَةٌ وَمَصلَحَةٌ، وَعَدلٌ وَرَحْمَةٌ، وَأَمَّا جَمَالُ الذَّاتِ وَكَيفِيَّةُ مَا هُوَ عَلَيهِ فَأمرٌ لَا يُدرِكُهُ سِوَاهُ، وَلَا يَعلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَلَيسَ عِندَ المَخلُوقِينَ مِنهُ إِلَّا تَعرِيفَاتٌ تَعَرَّفَ بِهَا إِلَى مَنْ أَكرَمَهُ مِنْ عِبَادِهِ[.
وَعِندَ البُخَارِيِّ وَمُسلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ"]، قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ عَباسٍ رضي الله عنهما: "حُجِبَ الذَّاتُ بِالصِّفَاتِ وَحُجِبَ الصِّفَاتُ بِالأَفعَالِ، فَمَا ظَنُّكَ بِجَمالٍ حُجِبَ بَأَوصَافِ الكَمَالِ، وَسُتِرَ بِنُعُوتِ العَظَمَةِ وَالجَلَالِ" وَمِنْ هَذَا المَعنَى يُفهَمُ بَعضُ مَعَانِي جَمَالِ ذَاتِهِ، فَإِنَّ العَبدَ يَتَرَقَّى مِنْ مَعرِفَةِ الأَفْعَالِ إِلَى مَعرِفَةِ الصِّفَاتِ، وَمِنْ مَعرِفَةِ الصِّفَاتِ إِلَى مَعرِفَةِ الذَّاتِ، فَإِذَا شَاهَدَ شَيئًا مِنْ جَمَالِ الأَفْعَالِ استَدَلَّ بِهِ عَلَى جَمَالِ الصِّفَاتِ، ثُمَّ استَدَلَّ بِجَمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى جَمَالِ الذَّاتِ، وَمِنْ هَهُنَا يَتَبيَّنُ أَنهُ سُبحَانَهُ لَهُ الحَمدُ كُلُّهُ، وَأَنَّ أَحَدًا مِنْ خَلقِهِ لَا يُحصِي ثَنَاءً عَلَيهِ، بَل هُوَ كَمَا أَثَنَى عَلَى نَفسِهِ.
وُرُودُهُ فِي الحَدِيثِ الشَّريفِ:
رَوَى عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يَدْخلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مثْقَالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ" قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَن يَكُونَ ثوبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا، قَالَ: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ".
المَعْنَى ِفِي حَقِّ الله تَعَالَى:
قَالَ النَّوَوِيُّ: "وَقَولُهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ" اختَلَفُوا فِي مَعنَاهُ، فَقِيلَ: إِنَّ مَعنَاهُ: أَنَّ كُلَّ أَمرِهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حَسَنٌ جَمِيلٌ، وَلَهُ الأَسمَاءُ الحُسنَى، وَصِفَاتُ الجَمَالِ وَالكَمَالِ.
وَقِيلَ: جَمِيلٌ بِمَعنَى: مُجْمِلٌٍ كَكَرِيمٍ وَسَمِيعٍ بِمَعنَى: مُكْرِمٍ وَمُسْمِعٍ.
وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو القَاسِمِ القُشَيرِيُّ رحمه الله: مَعنَاهُ: جَلِيلٌ، وَحَكَى الإِمَامُ أَبُو سُلَيمَانَ الخَطَّابِيُّ أَنَّهُ بِمَعنَى: ذِي النُّورِ والبَهجَةِ؛ أَيْ: مَالِكُهُمَا.
وَقِيلَ مَعنَاهُ: جَمِيلُ الأَفعَالِ بِكُم باللُّطفِ والنَّظرِ إليكُم، يُكَلِّفُكُم اليَسِيرَ مِنَ العَمَلِ ويُعِينُ عَلَيهِ، وَيُثِيبُ عَلَيهِ الجَزِيلَ وَيشكُرُ عَلَيهِ
وَأولُ كَلَامِ الخَطَّابِيِّ:
"الجَمِيلُ: هُوَ المُجْمِلُ المُحْسِنُ، فَعِيلٌ بِمَعنَى مُفْعِلٍ"
وَقَالَ الحليميُّ: "وَمِنهَا: الجَمِيلُ: وَهَذَا الاسمُ فِي بَعضِ الأَخبَارِ عِنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعنَاهُ: ذُو الأَسمَاءِ الحُسنَى؛ لِأَنَّ القَبَائِحَ إِذَا لَم تَلِقْ بِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُشتَقَّ اسمُهُ مِنْ أَسمَائِهَا، وَإِنَّمَا تُشتَقُّ أَسمَاؤُهُ مِنْ صِفَاتِهِ التِي كُلُّهَا مَدَائِحُ، وَالأَفعَالِ التِي أَجمَعُهَا حِكْمَةُ"
وَقَالَ ابنُ الأَثِيرِ: "إِنَّ اللهَ تَعَالَى جَمِيلٌ": أَيْ حَسَنُ الأَفعَالِ، كَامِلُ الأَوصَافِ".
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ[14]:
وَهُوَ الجَمِيلُ عَلَى الحَقِيقَةِ كَيفَ لَا
وَجَمَالُ سَائرِ هَذِهِ الأكْوانِ
مِنْ بَعضِ آثَارِ الجَمِيلِ فربُّهَا
أولَى وأَجْدَرُ عِندَ ذِي العِرْفانِ
فَجَمَالُهُ بالذَّاتِ والأَوْصَافِ وال
أَفْعَالِ والأَسمَاءِ بالبُرهَانِ
لاَ شَيءَ يُشبِهُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ
سُبحَانَهُ عَنْ إفْكِ ذِي البُهْتَانِ
ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسمِ:
1- أَنَّ اللهِ تَعَالَى هُوَ الجَمِيلُ عَلَى الحَقِيقَةِ بِلَا كَيفٍ نَعلَمُهُ، وَجَمَالُهُ بِالذَّاتِ وَالأوصَافِ والأَسمَاءِ والأَفعَالِ، لَا شَيءَ يُمَاثِلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ سُبحَانُهُ عَنْ نَفسِهِ: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
وَقَالَ سُبحَانُهُ: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [مريم: 65].
قَالَ القَاضِي أَبُو يَعلَى الفرَّاءُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - بَعدَ أَن ذَكَرَ حَدِيثَ ابنِ مَسعُودٍ السَّابِقَ "إِنَّ اللهِ جَمِيلٌ": "اعلَمْ أَنَّهُ غَيرُ مُمتَنِعٍ وصْفهُ تَعَالَى بالجَمَالِ وأَنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الذاتِ؛ لأِنَّ الجَمَالَ فِي مَعنَى الحُسْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أولِ الكِتَابِ قَولُهُ: "رَأَيتُ رَبيِّ فِي أَحسَنِ صُورَةٍ" وبيَّنَّا أنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ رَاجِعَةٌ إِلَى الذَّاتِ كَذَلِكَ هَاهُنَا، وَلِأَنَّهُ لَيسَ فِي حَملِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مَا يُحِيلُ صِفاتِهِ وَلَا يُخرِجهَا عَمَّا تَستَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ طَريقَهُ الكَمَالُ وَالمَدحُ، وَلأنَهُ لَو لَم يُوصَفْ بِالجَمَالِ جَازَ أَنْ يُوصَفَ بضِدِّهِ وَهُوَ القُبْحُ، وَلمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوصَفَ بِضدِّهِ جَازَ أَنْ يُوصَفَ بِهِ، أَلَا تَرَى أنَّا وَصَفْنَاهُ بالعِلمِ وَالقُدرَةِ والكَلَامِ؛ لِأَنَّ فِي نَفيهَا إِثبَاتَ أَضدَادِهَا وَذَلِكَ مُستَحِيلٌ عَلَيْهِ، كَذَلِكَ هَاهُنَا.
فَإِن قِيلَ: قَولُهُ: "جَمِيلٌ" بِمَعنَى: مُجْمِلٌ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ؛ لِأَنَّ فَعِيل قَد يَجِيءُ عَلَى مَعنَى: مُفعِل، وَمِنهُ قَولُنَا: حَكِيمٌ والمُرَادُ مُحْكِمٌ لِمَا فَعَلَهُ.
قِيلَ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الخَبَرَ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ الحَثُّ لَهُم عَلَى التَّجمُّلِ فِي صِفَاتِهِم، لَا عَلَى مَعنَى التَّجْمِيلِ فِي غيرِهِم فَكَانَ مُقتَضَى الخَبَرِ: إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ فِي ذَاتِهِ يُحِبُّ أَنْ تَتَجَمَّلُوا فِي صِفَاتِكم، فَإِذَا حُمِلَ الخَبَرُ عَلَى فِعلِ التَّجمِيلِ فِي الغَيرِ، عُدِلَ بِالخَبَرِ عَمَّا قُصِدَ بِهِ.
فَإِن قِيلَ: مَعنَى الجَمَالِ هَاهُنَا الإِحسَانُ والإِفضَالُ، فَيكُونُ مَعنَاهُ: هُوَ المُظهِرُ النِّعمَةَ وَالفَضلَ عَلَى مِنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ بِرَحمَتِهِ.
قِيلِ: هَذَا غَلَطٌ؛ لأِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ الجَمَالَ وَالإِحسَانَ وَالإِفضَالَ فَقَالَ: "جَميلٌ يُحبُّ الجَمَالَ، وَجَوَادٌ يُحِبُّ الجُودَ، وَكَرِيمٌ يُحِبُّ الكُرَمَاءَ" فَإِذَا حَمَلنَا الجَمَالَ عَلَى ذَلِكَ حُمِلَ اللفظُ عَلَى التكرَارِ، وَعَلَى مَا لَا يُفيدُ.
وَجَوَابٌ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ نِعَمَ اللهِ ظَاهِرَةٌ، فَحَمْلُ الخَبَرِ عَلَى هَذَا يُسقِطُ فائِدَةَ التَّخصِيص بِالجَمَالِ
فَهُوَ سُبحَانَهُ الأجمَلُ وَالأَحسَنُ فِي سَائِرِ صِفَاتِ الكَمَالِ، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا كَمَالٌ جَلَّ وَعَلَا.
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60]: "وَهُوَ الأَفضَلُ والأطيَبُ وَالأحسَنُ والأَجمَلُ، وذَلِكَ التَّوْحِيدُ وَالإِذعَانُ لَهُ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيرُهُ"
2- اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ مُجْمِلُ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، وَاهِبُ الجَمَالَ والحُسْنَ لِمَن شَاءَ، كَمَا مَرَّ مَعنَا قَولُ ابنِ القَيِّمِ رحمه الله إِذْ يقُولُ:
وَهُوَ الجَمِيلُ عَلَى الحَقِيقَةِ كَيفَ لَا
وَجَمَالُ سَائرِ هَذِهِ الأكْوانِ
مِنْ بَعضِ آثَارِ الجَمِيلِ فربُّهَا
أولَى وأَجْدَرُ عِندَ ذِي العِرْفانِ
وَقَدْ نَبّهَ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ إِلَى ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثيرَةٍ، فَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [النمل: 60]، وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7].
فاللهُ سُبحَانَهُ هُوَ الذِي زيَّنَ الأَرضَ، وَجَمَّلهَا بِأنوَاعِ الحَدَائِقِ وَالبَسَاتِينِ والأَشجَارِ والأَزهَارِ وَالخُضرَةِ ذَاتِ البَهجَةِ وَالحُسنِ وَالجَمَالِ، بحَيثُ أَنَّ النَّاظِرَ إِليهَا يَبْتَهِجُ وَتَفرَحُ نفْسُهُ بِهَا، وَينشَرِحُ صَدرُهُ بِسَبَبِهَا.
وَمِثلُهُ قَولُهُ سُبحَانَهُ عَن الأنعَامِ: ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ﴾ [النحل: 6]؛ أَيْ: فِي الأنعَامِ جَمَالٌ وَزِينَهٌ فِي أَعيُنِ النَّاسِ، لِحُسنِ صُورَتِهَا وَتَركِيبِهَا، وَتَنَاسُقِ أَعضَائِهَا وَتَنَاسُبِهَا[17].
وَهُوَ أَيضًا جَلَّ وَعَلَا يَمتَنُّ عَلَى بَنِى آدَمَ بِذَلِكَ إِذْ يَقُولُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 - 8].
وَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [التين: 4].
فَقَدْ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ صُورَةٍ وَأجمَلِ تَقوِيمٍ، وَهُم أَيضًا مُتَفَاوِتُونَ فِي هَذَا الحُسنِ وَالجَمَالِ، فَقَدْ أُعطِي يُوسُفُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَطرَ الحُسنِ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم[18]، وَلَمَّا رَأَتهُ النِّسوَةُ ﴿ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31].
3- وَقَدْ أُعطِيَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ حَظًّا وَافِرًا: تَنَاسُبَ الأَعْضَاءِ، وَتَنَاسُقَهَا، وَجَمَالَ الوَجْهِ وَاسْتِدَارَتَهُ وَاسْتِنَارَتَهُ، وَحُسْنَ القَوَامِ وَرَبْعَتَهُ، وَلِينَ الكَفِّ وَطِيبَ رَائِحَتِهِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي وَصْفِهِ.
فَعَن رَبِيعَةَ بنِ أَبِي عَبدِ الرحمَنِ قَالَ: سَمِعتُ أَنسَ بنَ مَالِكٍ يَصِفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "كَانَ رَبْعَةً مِنَ القَومِ، لَيْسَ بالطَّويلِ وَلَا بالقَصيرِ، أزهَرَ اللَّونِ، لَيسَ بأبيَضَ أَمْهَقَ وَلَا آدَمَ، لَيْسَ بِجَعدٍ قَطِطَ، ولا سَبطٍ رَجِل..."[19].
وَعَن البَرَاءِ بنِ عَازبَ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحسَنَ النَّاسِ وَجهًا، وأَحسنَهُ خَلْقًا، لَيْسَ بالطَّويلِ البائِنِ وَلَا بِالقَصِيرِ"[20].
وَعَنهُ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَربُوعًا بَعِيدَ مَا بَينَ المَنكِبَينِ، لَهُ شَعَرٌ يَبلُغُ شَحمَةَ أُذنَيهِ، رَأيتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمرَاءَ لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحسَنَ مِنهُ"
وَسُئِلَ رضي الله عنه: "أَكَانَ وَجهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثلَ السَّيفِ؟ قَالَ: "لَا، بَلْ مِثلَ القَمرِ"
4- وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَحسَنِ النَّاسِ أَخَلَاقًا: سَمَاحَةً وَشَجَاعَةً، وَحِلمًا وَكَرمًا، وَرحمَةً وَشَفَقَةً، وَصِلَةً وَبِرًّا، كَمَا وَصَفَتْهُ خَدِيجَةُ رضي الله عنها بِقَولِهَا: "إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعدُومَ، وتَقْرِي الضَّيفَ، وتُعينُ عَلَى نَوائِبِ الحَقِّ"
وَعَن أَنسٍ رضي الله عنه قَالَ: "خَدَمتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنينَ واللهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيءٍ: لِمَ فَعَلتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعلتَ كَذَا"
وَقَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحَسَنَ الناسِ خُلُقًا"
وَقَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ الناسِ، وَكَانَ أَجْودَ الناسِ، وَكَانَ أَشجَعَ الناسِ...
وَعَنِ ابنِ عَمروٍ قَالَ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَأَنهُ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ خِيَارَكُم أَحسَنُكم أَخلَاقاً"
قَالَ الراغِبُ: "الجَمَالُ: الحُسْنُ الكَثِيرُ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: جَمَالٌ يَختَصُّ بِهِ الإنسَانُ فِي نفسِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ فِعلهِ، وَالثانِي: مَا يُوصَلُ مِنهُ إِلَى غَيرِهِ".
وَعَلَى هَذَا الوَجهِ مَا ثَبَتَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم؛ أَنهُ قَالَ: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ" تَنبِيهًا أَنهُ مِنهُ تَفِيضُ الخَيرَاتُ الكَثِيرَةُ فيُحِبُّ مَنْ يَختَصُّ بِذَلِكَ
فَسُبحَانَ مَنْ جَمَعَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بَينَ كَمَالِ الخَلْقِ وَالخُلُقِ.
5- وَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِمُلَازَمَةِ كُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ، وَأَوصَى نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَأُمَّتَهُ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ عَدِيدَةٍ:
فَقَالَ سُبحَانَهُ: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]؛ أَيْ: صَبرًا لَا شَكوَى فِيهِ لأَِحَدٍ غَيرِ اللهِ تَعَالَى وَذَلِكَ فِي مُقَابِلِ استِهزَاءِ الكُفَّارِ، وَعَدَمِ إِيمَانِهِم بِمَا يَدعُوهُم إِلَيْهِ مِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ.
وَقَالَ سُبحَانَهُ وتَعَالَى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]؛ أَيِ: اصبِرْ عَلَى مَا يَقُولُ المُشرِكُونَ وَعَلَى أَذَاهُم، واهجُرهُم فِي اللهِ هَجْرًا جَمِيلًا؛ أَيْ: لَا عِتَابَ مَعَهُ، وَقِيلَ: لَا جَزَعَ فيهِ، وَقِيلَ: الهَجرُ فِي ذَاتِ اللهِ.
كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ [الأنعام: 68]
وَمِثلُهَا قَولُهُ تَعَالَى: ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [الحجر: 85][31].
وَقَالَ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 28].
وَقَالَ فِي السُّورَةِ نَفسِهَا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: 49].
أَيْ: طَلِّقُهُوهُنَّ طَلَاقاً خَالِيًا مِنَ الأَذَى، وَعَارِيًا عَنْ مَنعِ الحُقوقِ الوَاجِبَةِ، وَهَذَا هُوَ السَّراحُ الجَمِيلُ الذِي يُحِبُّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم، وَيَأمُرُ بِهِ اللهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم[
6- اللهُ سُبحَانَهُ يُحِبُّ التَّجمُّلَ فِي غَيرِ إسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ، وَلَا بَطَرٍ وَلَا كِبْرٍ، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ السَّابِقِ: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ"، وَقَدْ قَالَهُ صلى الله عليه وسلم جَوَابًا لِمَنْ قَالَ لَهُ: "إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنَ يَكُونَ ثَوبُهُ حَسَنًا ونَعْلُهُ حَسَنًا" وَبَيَّنَ أَنَّ مُجَرَّدَ فِعلِ ذَلِكَ وَمَحَبَّتِهُ لَا يَدخُلُ فِي الكِبْرِ المَذمُومِ.
وَ "... الجَنَّةُ دَارُ المُتَوَاضِعِينَ الخَاشِعِينَ، لَا دَارَ المُتَكَبرِينَ الجَبَّارِينَ، سَوَاءً كَانُوا أغَنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ "لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَنْ فِي قَلبهِ مِثقَالُ ذَرةٍ مِنْ كِبرٍ، وَلَا يَدخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلبهِ مِثقَالُ ذَرةٍ مِنْ إِيمَانٍ"، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوبُهُ حَسَنًا ونَعلُهُ حَسَنًا أَفَمِنَ الكِبرِ ذَاكَ؟ فَقَالَ: "لَا، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ، وَلَكِنَّ الكِبرَ بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ".
فَأَخبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّجَمُّلَ فِي اللِّبَاسِ الذِي لَا يَحصُلُ إلَّا بِالغِنَى، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيسَ مِنَ الكِبرِ.
وَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "ثَلَاثةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيهِم يَومَ القِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِم، وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ: فَقِيرٌ مُختَالٌ، وَشَيخٌ زَانٍ، ومَلِكٌ كَذَّابٌ".
وَكَذَلِكَ الحَدِيثُ المَروِيُّ: "لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذهَبُ بِنَفسِهِ، ثُمَّ يَذهَبُ بِنَفسِهِ، ثُمَّ يَذهَبُ بِنَفسِهِ، حَتَّى يُكتَبَ عِندَ اللهِ جَبَّارًا، وَمَا يَملِكُ إِلَّا أَهلَهُ
فَعُلِمَ بِهَذَينِ الحَدِيثَينِ: أَنَّ مِنَ الفُقَرَاءِ مَنْ يَكُونُ مُختَالًا، لَا يَدخُلُ الجَنَّةَ، وَأَنَّ مِنَ الأَغنِيَاءِ مَنْ يَكُونُ مُتجَمِّلًا غَيرَ مُتَكَبرٍ، يُحِبُّ اللهُ جَمَالَهُ، مَعَ قَولِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِنَّ اللهَ لَا يَنظُرُ إِلَى صُورِكُم، وَلَا إِلَى أَموالِكُم، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُم وَأَعْمَالِكُم"
وَمِنْ هَذَا البَابِ قَولُ هِرقلَ لأَِبِي سُفيَانَ: أَفَضُعَفَاءُ النَّاسِ اتَّبعَهُ أَمْ أَشرَافُهُم؟ قَالَ: بَلْ ضُعَفَاؤهُم، قَالَ: وَهُم أَتبَاعُ الأَنبِيَاءِ.
وَقَدْ قَالُوا لِنُوحٍ: ﴿ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ [الشعراء: 111]، فَهَذَا فِيهِ أَنَّ أَهلَ الرِئَاسَةِ والشَّرَفِ يَكُونُونَ أَبعَدَ عَنِ الانِقيَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَطَاعِتِهِ؛ لأَِنَّ حُبَهُم للرِّئَاسَةِ يَمنَعُهم ذَلِكَ بِخِلاَفِ المُستَضعَفِينَ، وَفِي هَذَا المَعنَى الحَدِيثُ المَأثُورُ - إِنْ كَانَ مَحفُوظاً - "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسكِينًا، وَاحْشُرنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ
فَالمَسَاكِينُ ضِدُّ المُتَكَبِّرِينَ، وَهُم الخَاشِعُونَ للهِ، المُتَوَاضِعُونَ لِعَظَمَتِهِ، الذِينَ لَا يُريدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرضِ، سَوَاءً كَانُوا أَغنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ
المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ:
وَقَالَ سُبحَانَهُ الجَمِيلُ الذِي لَا أَجمَلَ مِنهُ، بَلْ لَو كَانَ جَمَالُ الخَلقِ كُلِّهُم عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنهُم، وَكَانُوا جَمِيعُهُم بِذَلِكَ الجَمَالِ لَمَا كَانَ لِجَمَالِهِم قَطُّ نِسبَةٌ إِلَى جَمَالِ اللهِ، بَل كَانَت النِّسبَةُ أَقَلَّ مِنْ نِسبَةِ سِراجٍ ضَعِيفٍ إِلَى حِذَاءِ جَرمِ الشَّمسِ: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ﴾ [النحل: 60].
وَقَدْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ عَبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو بنِ العَاص، وَأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيّ، وَعَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وَثَابِتُ بنُ قَيسٍ، وَأّبُو الدَّردَاءِ، وَأَبُو هُرَيرَةَ، وَأَبُو رَيحَانَةَ رضي الله عنهم أجمعين.
وَمِنْ أَسمَائِهِ الحُسنَى: الجَمِيلُ، وَمَنْ أَحَقُّ بِالجَمَالِ مِمَّنْ كُلُّ جَمَالٍ فِي الوُجُودِ فَهُوَ مِنْ آثَارِ صُنعِهِ، فَلَهُ جَمَالُ الذَّاتِ، وَجَمَالُ الأَوصَافِ، وَجَمَالُ الأَفعَالِ، وَجَمَالُ الأَسمَاءِ، فَأَسمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا كَمَالٌ، وَأَفعَالُهُ كُلُّهَا جَمِيلَةٌ.
فَلَا يَستَطِيعُ بَشَرٌ النَّظَرَ إِلَى جَلَالِهِ وَجَمَالِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِذَا رَأَوهُ سُبحَانَهُ فِي جَنَّاتِ عَدنٍ أَنَستُهم رُؤيَتُهُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ، فَلَا يَلتَفِتُونَ حِينَئِذٍ إِلَى شَيءٍ غَيرِهِ، وَلَوْلَا حِجَابُ النُّورِ عَلَى وَجهِهِ لأَحرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجهِهِ سبحانه وتعالى مَا انتَهَى إِليهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلقِهِ.
كَمَا هُوَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَخَمسِ كَلِمَاتٍ قَالَ: "إِنَّ اللهِ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخفِضُ القِسطَ وَيَرفَعُهُ، وَيُرفَعُ إِلَيهِ عَمَلُ الَّليلِ قَبلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبلَ عَمَلِ الَّليلِ، حِجَابُهُ النُورُ لَو كَشَفَهُ لأَحرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجهِهِ مَا انتَهَى إِلَيهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلقِهِ"
مَعرِفَةُ اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بِالجَمَالِ:
مِنْ أَعَزِّ أَنَواعِ المَعرِفَةِ مَعرِفَةُ الرَّبِّ سُبحَانَهُ بِالجَمَالِ، وَهِي مَعرِفَةُ خَوَاصِّ الخَلقِ، وَكُلُّهُم عَرِفَهُ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَأَتَمُّهُم مَعرِفَةً مَنْ عَرِفَهُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَجَمَالِهِ سُبحَانَهُ، لَيْسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ فِي سَائِرِ صِفَاتِهِ، وَلَوْ فَرَضْتَ الخَلقَ كُلَّهُم عَلَى أَجمَلِهِم صُورَةً وَكُلُّهُم عَلَى تِلكَ الصُّورَةِ، وَنَسَبتَ جَمَالَهُم الظَّاهِرَ والبَاطِنَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ سُبحَانَهُ لَكَانَ أَقلَّ مِنْ نِسبَةِ سِرَاجٍ ضَعِيفٍ إِلَى قُرصِ الشَّمس.
وَيَكفِي فِي جَمَالِهِ أَنَّهُ لَو كَشَفَ الحِجَابَ عَنْ وَجْهِهِ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُهُ مَا انتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيَكْفِي فِي جَمَالِهِ أَنَّ كُلَّ جَمَالٍ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَمِنْ آثَارِ صَنْعَتِهِ فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ صَدَرَ عَنْهُ هَذَا الجَمَالُ.
وَيَكفِي فِي جَمَالِهِ أَنَّهُ لَهُ العِزَّةُ جَمِيعًا، وَالقُوَّةُ جَمِيعًا، والجُودُ كُلُّهُ، وَالإِحسَانُ كُلُّهُ، وَالعِلْمُ كُلُّهُ، وَالفَضْلُ كُلُّهُ، وَلِنُورِ وَجْهِهِ أَشْرَقَتِ الظُّلُمَاتُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي دُعَاءِ الطَّائَفِ: "أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الذِي أَشرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ وَصَلحَ عَلَيْهِ أَمرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ".
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَيسَ عِنْدَ رِبِّكُم لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ، فَهُوَ سُبحَانَهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا جَاءَ لِفَصلِ القَضَاءِ تُشْرِقُ الأَرْضُ بِنُورِهِ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ الحُسْنَى (الجَمِيلُ) وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ"[39].
وَجَمَالُهُ سُبحَانَهُ مِنْ أَربَعِ مَرَاتِبَ: جَمَالُ الذَّاتِ، وجَمَالُ الصِّفَاتِ، وَجَمَالُ الأَفعَالِ، وَجَمَالُ الأَسْمَاءِ، فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا حُسْنَى، وَصِفَاتُهُ كُلُّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ، وَأفْعَالُهُ كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَمَصلَحَةٌ وَعَدْلٌ وَرَحْمَةٌ، وَأَمَّا جَمَالُ الذَّاتِ وَمَا هُوَ عَلَيهِ فَالأَمْرُ لَا يُدْرِكُهُ سِوَاهُ، وَلَا يَعْلَمُهُ غَيرُهُ، وَلَيسَ عِنْدَ المَخْلُوقِينَ مِنْهُ إِلَّا تَعْرِيفَاتٌ تَعرَّفَ بِهَا إِلَى مَنْ أَكْرَمَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الجَمَالَ مَصُونٌ عَنِ الأَغْيَارِ مَحْجُوبٌ بَسَترِ الرِّدَاءِ وَالإِزَارِ، كَمَا قَالَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَيمَا يُحْكَى عَنهُ: "الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالعَظَمَةُ إِزَارِي"، وَلَمَّا كَاَنَتِ الكِبْرِيَاءُ أَعْظَمَ وَأَوْسَعَ كَانَتْ أَحَقَّ بِاسمِ الرِّداءِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ الكَبِيرُ المُتُعَالُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ العَلِيُّ العَظِيمُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "حُجِبَ الذَّاتُ بِالصِّفَاتِ، وَحُجِبَ الصِّفَاتُ بِالأَفْعَالِ، فَمَا ظَنُّكَ بَجَمَالٍ حُجِبَ بِأَوْصَافِ الكَمَالِ، وَسُتِرَ بِنُعُوتِ العَظَمَةِ وَالجَلَالِ".
وَمِنْ هَذَا المَعْنَى يُفْهَمُ بَعْضُ مَعَانِي جَمَالِ ذَاتِهِ، فَإِنَّ العَبْدَ يَتَرَقَّىَ مِنْ مَعْرِفَةِ الأَفْعَالِ إِلَى مَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ، وَمِنْ مَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ إِلَى مَعْرِفَةِ الذَّاتِ، فَإِذَا شَاهَدَ شَيْئًا مِنْ جَمَالِ الأَفْعَالِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَمَالِ الصِّفَاتِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِجَمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى جَمَالِ الذَّاتِ.
وَمِنْ هُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الحَمْدُ كُلُّهُ، وأَنَّ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ لَا يُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ أَنَّ يُعْبَدَ لِذَاتِهِ، وَيُحَبَّ لِذَاتِهِ، وَيُشْكَرَ لِذَاتِهِ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ، وَيُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ، وَيحْمدُ نَفسَهُ، وَأَنَّ مَحَبَتَهُ لِنَفْسِهِ، وَحَمْدَهُ لِنَفْسِهِ، وَثَنَاءَهُ عَلَى نَفسِهِ، وَتَوحِيدَهُ لِنَفْسِهِ هُوَ فِي الحَقِيقَةِ الحَمدُ وَالثَّنَاءُ وَالحُبُّ وَالتَّوْحِيدُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَفَوْقَ مَا يُثْنِى بِهِ عَلَيْهِ خَلقُهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا يُحِبُّ ذَاتَهُ يُحِبُّ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ، فَكُلُّ أَفْعَالِهِ حَسَنٌ مَحْبُوبٌ وَإِنْ كَانَ فِي مَفعُولَاتِهِ مَا يُبْغِضُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَلَيْسَ فِي أَفْعَالِهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ مَسْخُوطٌ، وَلَيْسَ فِي الوُجُودِ مَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ، وَيُحْمَدُ لِذَاتِهِ؛ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ، وَكُلُّ مَا يُحَبُّ سِوَاهُ فَإِنْ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ تَابِعَةً لِمَحَبتِهِ سُبْحَانَهُ بِحَيثُ يُحِبُّ لأَِجْلِهِ فَمَحَبتُهُ صَحِيحَةٌ، وَإِلَّا فَهِيَ مَحَبَةٌ بَاطِلَةٌ.
وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّ الإِلَهَ الحَقَّ هُوَ الذِي يُحَبُّ لِذَاتِهِ، وَيُحَمَدُ لذاتِهِ، فَكَيفَ إِذَا انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ إِحسَانُهُ وَإِنعَامُهُ وَحِلْمُهُ وَتَجَاوُزُهُ وَعَفْوُهُ وَبِرُّهُ وَرَحْمَتُهُ، فَعَلَى العَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَيُحِبُّهُ وَيَحمَدُهُ لِذَاتِهِ وَكَمَالِهِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لاَ مُحْسِنَ عَلَى الحَقِيقَةِ بِأَصنَافِ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ إِلَّا هُوَ فَيُحِبُّهُ لإِحسَانِهِ وَإِنعَامِهِ، وَيحمَدُهُ عَلَى ذَلِكَ؛ فَيُحِبُّهُ مِنَ الوَجهَينِ جَمِيعًا.
وَكَمَا أَنَّهُ لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ، فَلَيسَ كَمَحَبَّتِهِ مَحَبَّةٌ، وَالمَحَبةُ مَعَ الخُضُوعِ هِيَ العُبُودِيَّةُ التِي خُلِقَ الخَلْقُ لأَِجْلِهَا، فَإِنَّهَا غَايَةُ الحُبِّ بَغَايَةِ الذُّلِّ، وَلَا يَصلُحُ ذَلِكَ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ، وَالإِشرَاكُ بِهِ فِي هَذَا هُوَ الشِّرْكُ الذِي لَا يَغفِرُهُ اللهُ، وَلَا يَقبَلُ لِصَاحِبِهِ عَمَلًا.
إرسال تعليق