بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن أعظم الأمراض هو مرض النفاق وشعبه؛ فهو مرض خطير وشر كبير إذا استولى على القلب أماته، وصار صاحبه حياً كميت، وصحيح البدن مريض الروح، قال الله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10] .
النفاق داء عضال ووباء قتَّال لا يبتلى به إلا المسلم، أما الكافر فلا يوصف بالنفاق؛ لأنه مجاهر بكفره، والكفر مشتمل على أنواع النفاق كلها.
وقد خاف من النفاق المؤمنون ووجل منه الصالحون؛ قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من الصحابة كلهم يخافون النفاق على نفسه".
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: "لا يأمن المؤمن النفاق على نفسه"، وقال الإمام أحمد: "ومن يأمن النفاق ومن نجى من النفاق فقد نجا من شرور الدنيا وعذاب الآخرة، ومن وقع في شرك النفاق خسر الدنيا والآخرة، قال الله تعالى عن المنافقين: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55].
النفاق داء عضال وخنجر مسموم في خاصرة الأمة فربما أرداها قتيلة أو أصبها الضعف بسببه والمنافقون من الضعف والمهانة بحيث لا يستطيعون أن يواجهوا الأمة أو يعلنوا نفاقهم أمام الملاء فيلجؤون للكيد لأمتهم والتآمر عليها في الخفاء وفي الظاهر يتظاهرون بحرصهم على أمتهم وعلى ثوابتها وأخلاقها ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14].
والنفاق نوعان:
النوع الأول:
نفاق اعتقاد، وهو مخرج من ملة الإسلام.
ويراد بنفاق الاعتقاد: اعتقاد المرء ما يضاد الإسلام ولو عمل بأركان الإسلام بجوارحه؛ لأن الأعمال لا يقبل الله منها إلا ما كان مبنياً على الإيمان؛ فنفاق الاعتقاد: هو أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، قال -تعالى-: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 8- 9].
وصاحب النفاق الاعتقادي مخلد في النار - والعياذ بالله -، قال الله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحديد: 13 - 15], وقوله - عز وجل -: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145]؛ لأن الضرر من المنافق أشد من الضرر بالكافر المجاهر.
وأما النفاق العملي فهو: أن يعمل بخصلة من خصال النفاق، وهو مع ذلك يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب الإسلام ويعمل بأركانه، فهذا قد ارتكب معصية، ولا يُكَفَّر بالمعصية، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان منافقاً خالصا، ومَنْ كانتْ فيه خصلةٌ منهن كانتْ فيه خصلةٌ مِنَ النفاقِ حتى يدَعَها: إذا حدَّث كذَب، وإذا وَعدَ أخْلف، وإذا اؤتمنَ خَان، وإذا خاصمَ فجَر" رواه البخاري ومسلم ومعنى: (إذا خاصم فجر): طلب أكثر من حقه، وادعى ما ليس له، أو لم يعطِ ما عليه من الحق. كالشخص الذي إذا أخطأ عليه أحد في أمر يسير, أو زوجة في تقديم طعام تجده يبالغ في الخصومة ويبالغ في الخطاب ويكبر الأمر فيجعله عظيما رغم أن الأمر هينان ولا يحتمل ذلك كله.
وإذا لم ينزجر المسلم، ويكفَّ عن خصال النفاق العملي ويتب إلى الله منها؛ استحكمت فيه وجرته إلى النفاق الاعتقادي؛ فباء بالخلود في النار، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] أي مع المؤمنين.
ومن أساليب المنافقين محاصرة المؤمنين ومحاولة النيل منهم ومن دينهم فيضربون عليهم الحصار الاقتصادي من تجويعهم والوقوف في أسباب الرزق ومحاصرتهم في وظائفهم لعل لقمة العيش تثنيهم عن مبادئهم ولعلهم يتنازلون عن بعض واجباتهم الشرعية التي لا تروق للمنافقين فخطة التجويع التي يتواصى بها خصوم الرسل على اختلاف الزمان والمكان في حرب العقيدة ومناهضة الأديان.
فهم يحسبون أن لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين. إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلموه للمشركين. ﴿ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ ﴾ [المنافقون: 7] ويحاصرون المسلمين حصاراً عسكرياً ويسدون المنافذ عليهم ليتمكن العدو من استئصالهم. حينما يكون للمنافقين شيء من القوة والتمكين تطغيهم هذه القوة وتنسيهم واقعهم السيء وحقيقتهم فيستعلون على أولياء الله ويتغطرسون عليهم ﴿يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
ينشط المنافقون في أوقات الأزمات في حال انشغال من بيدهم تصريف شؤون الأمة الدينية والدنيوية ففي حال انشغال المسلمين وضعفهم ينجم النفاق وتطل رؤوسهم ويظهر على ألسنتهم ما يكنونه فتعرفهم تارة في صريح القول وتارة في لحنه ففي الأزمات حينما يشعرون بالأمان يظهر ما في قلوبهم ويتبين بفلتات ألسنتهم فإن الألسن مغارف القلوب يظهر منها ما في القلوب من الخير والشر.
المنافقون أشد خطراً من غيرهم, فخطرهم أشد من سائر طوائف الكفر فالكفار عداوتهم ظاهرة وأعيانهم معروفة بخلاف هؤلاء المندسين في صفوف المسلمين ويزعمون أنهم منهم ويحضرون اجتماعات المسلمين فهم أعرف من غيرهم بأسرار المسلمين ومواطن الضعف فيهم يعرفون آمالهم وتطلعاتهم فهم أقدر من غيرهم على الإضرار بهم ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4].
ولاء المنافقين ليس لبني جلدتهم ولا لبلادهم إنما ولاؤهم لأعداء أمتهم وأعداء بلادهم فهم يدينون بالسمع و الطاعة والنصرة لكفرة أهل الكتاب إذا تعارضت مع مصالح بني جلدتهم ومصالح بلادهم ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [الحشر: 11] .
فلا عجب حينما يرتبون مع العدو ويمهدون له الطريق لاحتلال بلادهم ويقدمون الدعم المادي والمعنوي له ويتصلون به سراً فلهم أسوة سيئة بسلفهم الفاسق فهذا أبو عامر الفاسق وكان من كبار الأوس في المدينة يأمر أتباعه من المنافقين في المدينة بأن يبنوا مسجد الضرار وأن يستعدوا بما استطاعوا من قوة وسلاح ويذهب هو إلى قيصر النصراني يستعديه على المسلمين ويطلب منه القدوم لاحتلال المدينة وإخراج النبي وقتل إخوانه الأوس وبني عمه الخزرج فكان يتمنى هذا الفاسق بأن يقدم على صهوة خيله يتقدم الغزاة الروم النصارى فينزل القرآن يفضحهم ويبطل كيدهم ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 107] .
فالمنافقون يتشدقون بحب الوطن وبحرصهم على مصلحة الوطن وعلى جمع الكلمة وهم أبعد الناس عن ذلك بل هم أعداء لدينهم ووطنهم ويظهر ذلك جلياً في الأزمات فمن يكتب التقارير عن وطنه عن أمن وطنه وعن تعليمه وعن مؤسساته المختلفة ويرسلها لأعداء أمته ووطنه ليجعلوها وسيلة ضغط يبتزون بها قادة وطنه من هذا شأنه فهو أبعد الناس محبته لدينه ووطنه فليست المسألة مسألة شعارات إنما يصدق ذلك أو يكذبه العمل ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴾ [النساء: 61 - 63] .
:
والنفاق ليس مربوطاً بشخص فبزواله يزول النفاق إنما هو معتقدات يمليها الحقد على الإسلام والمسلمين فتنتج الكيد للإسلام والمسلمين فكلما هلك رأس من المنافقين خلفه رأس آخر وكلما كلت أفعى وتعبت عن مواصلة الطريق أتمت المسيرة أفعى أخرى فالقرآن لم يصرح باسم واحد منهم مع كثرة ذكر النفاق والمنافقين في سور القرآن المدنية بل نزلت فيهم سورة خاصة تبين سلوكهم المشين وتلونهم وكذلك السنة لم تعتن بذكر أسمائهم إنما جاء فيها بيان طريقهم وصفاتهم وحينما خشي من تسلمهم مناصب قيادية أو أن يكون لهم دور توجيهي في الدولة المسلمة بعد وفاة النبي ذكر النبي أسماءهم لحذيفة بن اليمان فخطر المنافقين يعظم حينما يمكن لهم ويكون لهم دور في توجيه الأمة واتخاذ القرارات.
المنافقون متابينون في تطلعاتهم بحسب الاهتمامات الحاضرة وحسب توجه إخوانهم من كفرة أهل الكتاب ومن اهتماماتهم الحاضرة التي هي تبع لاهتمامات كفرة أهل الكتاب إفساد الأخلاق وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا و السعي لربط الأمة شباباً ونساءً بكفرة أهل الكتاب، وكأن الأمة لا تنهض إلا بالسفور كأنها لا تنهض إلا بالاختلاط المحرم بين الرجال بالنساء ليتهم اهتموا في توجيه الناس لما فيه مصلحة البلاد والعباد بالعلم النافع و الأخذ بالأسباب التي تؤدي إلى التطور العلمي الصناعي إنما أخذوا من الغرب أسوء ما عندهم وتركوا ما الناس محتاجون إليه أخذوا من الغرب ما يدعو عقلاء الغرب إلى تركه و الرجوع إلى العفة واستعادة قوامة الرجل و فصل الرجال عن النساء في كثير من المواطن.
الأمة الإسلامية منذ أمد وهي تتعرض لهجمة من أعدائها فهي بين عدو خارجي يتربص بها الدوائر ويأتيها من أطرافها ويبحث عن مسوغات، ولو كانت أوهن من بيت العنكبوت؛ ليلتهم رقعة من بلاد المسلمين يستبيحها و أهلها نهباً وقتلاً واعتداءاً على المحرمات وبين عدو داخلي يتعاون معه ويمهد الطريق له تارة بالاحتلال الحسي و تارة بالاحتلال المعنوي بالدعوة إلى مبادئ هذا العدو والتبشير بها وإشاعتها في أوساط الموحدين ويحاول فرضها وهذه سنة كونية يتصارع فيها الحق والباطل وربما قوي ساعد الباطل حتى أثر على الحق ودعاته ونالهم منه كرب وشدة ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214] لكن هذه إدالة موقتة اقتضتها حكمة الله.
إنِ ابْتليتَ بالنفاق أو بشيء من خصاله؛ فتب إلى الله -تعالى-، وطهر نفسك قبل الممات، وادع الله تعالى أن يحفظك من النفاق وشعبه؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قريب مجيب سبحانه.
إرسال تعليق