بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
مما لا شك فيه أن آخر حصن ومعقل لحفظ العرض وصيانة الكرامة وحراسة الفضيلة، ما أودعه الله - تعالى- في نفس كل آدمي من غيرته على الأعراض؛ غيرة النساء على أعراضهن وشرفهن، وغيرة أوليائهن عليهن، وغيرة المؤمنين على أن تنال الحرمات أو تُخدش بما يجرح كرامتها وعفّتها.
حقيقة الغيرة
الغيرة في القلب مثل القوة في البدن تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت أصبح البدن قابلاً للأمراض، فتتمكن منه، فيكون الهلاك.
غيرة العرب في جاهليتهم قبل الإسلام:
والعرب في الجاهلية قبل الإسلام لا يعرفون في حفظ العرض هوادة، ولا في صيانة الكرامة مواربة، حتى تجاوزوا في الغيرة حدودها إلى كراهة أن يلدوا البنات، وإلى وأدهن وهن حيات، يقول - تعالى -: ( وَإذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [النحل: 58-59]، وإلى حروب تنشب بينهم شرارتها تعدٍّ على عرض أو إهانة لكرامة.
وأما بذلهم المال لصون أعراضهم فأسهل ما تجود به نفوسهم، يقول قائلهم:
أصون عرضي بمالي لا أبدده *** لا بارك الله بعد العرض في المال
أحتال للمال إن أودى فأكسبه *** ولست للعرض إن أودى بمحتال[1]
ولم تكن غيرة أحدهم قاصرة على عرضه فحسب، بل إنه يغار على عرض جيرانه وقرابته وقبيلته، يقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مثواها[2]
وفي غيرة نسائهم أمثال اشتهرت، وأشعار رويت؛ ففي الأمثال قال أكثم بن صيفي: “تجوع الحرة ولا تأكل بثديها”[3].
وقال الأعشى في المرأة تمر من بيت جارتها في سكينة تتحفظ بها من إثارة أعين الناظرين إليها:
كأن مرورها من بيت جارتها *** مر السحابة لا ريث ولا عجل[4]
وقال النابغة الذبياني:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد[5]
رعاية الإسلام للغيرة وتهذيبه لها:
ذاك كان حال العرب في الجاهلية قبل الإسلام؛ غيرةً على أعراضهم، وحفظاً لكرامتهم، ويوم أن جاء الإسلام أقرَّ هذه الغيرة وهذّبها وطهّرها ونقّاها مما خرج بها عن حدها واعتدالها؛ فشجع على الرغبة في إنجاب البنات بدلاً من كراهيتهن، حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته؛ كن له حجاباً من النار يوم القيامة))[6].
وميّز النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يحمد من الغيرة وما يذم، حيث قال: (( إن من الغيرة ما يحب الله - عز وجل -، ومنها ما يبغض الله - عز وجل -، فأما الغيرة التي يحب الله - عز وجل -: فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله - عز وجل -: فالغيرة في غير ريبة)) [7].
يقول العلماء: وكثير ممن تشتد به غيرته فتحمله على سرعة الإيقاع والعقوبة من غير إعذار منه، ومن غير قبول لعذر من اعتذر إليه، بل يكون له في نفس الأمر عذر، ولا تدعه شدة الغيرة أن يقبل عذره.
وكثير ممن يقبل المعاذير تحمله على قبولها قلة الغيرة، حتى يتوسع في طرق المعاذير، ويرى عذراً ما ليس بعذر، حتى يعتذر كثير منهم بالقدر، وكل من هذا وذاك غير ممدوح على الإطلاق.
شرف الحيوان البهيم على من عدم الغيرة من الآدميين:
وإذا كان الإفراط في الغيرة مذموماً، فإن التفريط فيها أشد ذماً؛ لأن ضعف الغيرة في الإنسان أو انعدامها يجعله أحط من العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، بل وأحط من بهيمة الأنعام التي تغار بغريزتها؛ فذكور الماعز تغار، والديكة والإبل والقردة تغار، وهذا أمر معلوم مشاهد لدى الناس..أخرج البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون قال: " رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة، قد زنت، فرجموها، فرجمتها معهم"[8].
طهر الحياة وجمال الإنسانية في صيانة العرض وحفظ الكرامة:
بصيانة العرض وكرامته يتجلى صفاء الدين وجمال الإنسانية، ومن حرم الغيرة حرم طهر الحياة، ولا يمتدح بالغيرة إلا كرام الرجال وكرائم النساء، وكل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها[9]؛ ولذا ذكر العلماء في اشتراط المحرم للمرأة في السفر إلى الحج أو العمرة، أنه إذا كان قليل الحمية لا يغار عليها فإنه لا يكتفي به في السفر؛ فكيف بغيرهما من الأسفار؟!
واعتبر الشرعُ شهيداً من قُتل دون عرضه، ففي الحديث: «من قتل دون أهله فهو شهيد»[10]، وفي الحديث أيضاً: (( إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وإن غيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله))[11]، وفي خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف: (( يا أمة محمد، ما أحد أغير من الله أن يرى عبده أو أمته تزني))[12].
يقول ابن القيم: " وفي ذكر هذا الذنب بخصوصه في خطبة الكسوف سر بديع؛ فغض البصر يورث نوراً في القلب، ولهذا جمع الله - تعالى -بين الأمر به وبين ذكر آية النور في سورة واحدة، وهي “سورة النور”[13]؛ لتعلّق أحدهما بالآخر، وجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الكسوف بين ظلمة القلب بالزنا وظلمة الوجود بكسوف الشمس، وذكر أحدهما مع الآخر[14]".
غيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -:
وأشد الناس غيرة على الأعراض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -.. عن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( أتعجبون من غيرة سعد، والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن))[15].
سبب ضعف الغيرة وانعدامها:
وسبب ضعف الغيرة وانعدامها: كثرة ملابسة الذنوب. يقول العلماء: وكلما اشتدت ملابسة المرء للذنوب، أخرجت من نفسه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف جداً حتى لا يستقبح بعد ذلك قبيحاً، لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد، فقد دخل في باب الهلاك.
ومن الناس من لا يقتصر على عدم الاستقباح، بل يُحسن الفواحش والظلم لغيره، ويزيّنه له، ويدعوه إليه، ويحثّه عليه، ويسعى له في تحصيله، ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله، والجنة حرام عليه؛ ففي الحديث: (( ثلاثة لا ينظر الله - عز وجل - إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث))[16]، والديوث: هو من يقرُّ الفحش في أهله، ولا غيرة له عليهم.
خاتمة
فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة، وهذا يدل على أن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له؛ فالغيرة تحمي القلب، فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغيرة يميت القلب، فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع البتة.
وإذا هُدم للفضيلة حصنها، وإذا ضُيع أمر الله، فكيف تستنكر الخيانات البيتية، والشذوذات الجنسية، وحالات الاغتصاب، وجرائم القتل، وألوان الاعتداء؟!
كم للفضيلة من حصن امتنع به أولو النخوة، فكانوا بذلك محسنين، وكم للرذيلة من صرعى أوردتهم المهالك، فكانوا هم الخاسرين.
في ظلال الفضيلة منعة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذل وهوان.
والرجل هو صاحب القوامة، وإذا ضعف القوام فسد الأقوام، وإذا فسد الأقوام، خسروا الفضيلة وفقدوا العفة وتاجروا بالأعراض عياذاً بالله[17].
حفظ الله لنا وللمسلمين العرض والكرامة، وثبَّت في قلوبنا الغيرة على الحرمات، ووقانا سُبل الردى والهلكات.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] شرح ديوان الحماسة، أبو علي أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني (المتوفى: 421 هـ)، المحقق: غريد الشيخ، وضع فهارسه العامة: إبراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003م، ص 1184.
[2] العقد الفريد، أبو عمر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد ربه ابن حبيب ابن حدير بن سالم المعروف بابن عبد ربه الأندلسي (المتوفى: 328هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1404 هـ، ج 6/ 3.
[3] الأمثال، أبو عُبيد القاسم بن سلام بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224هـ)، المحقق: الدكتور عبد المجيد قطامش، دار المأمون للتراث، الطبعة الأولى 1400 هـ - 1980م، ص 196.
[4] الكامل في اللغة والأدب، محمد بن يزيد المبرد أبو العباس (المتوفى: 285هـ)، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الثالثة 1417 هـ - 1997م، ج 3/ 42.
[5] الشعر والشعراء، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (المتوفى: 276هـ)، دار الحديث، القاهرة، 1423 هـ، ج 1/ 168.
[6] سنن ابن ماجه رقم 3669، وصححه الألباني.
[7] سنن النسائي رقم 2558، وحسنه الألباني.
[8] صحيح البخاري رقم 3849.
[9] الغيرة على الأعراض، من خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد.
[10] سنن أبي داود رقم 4772، وصححه الألباني.
[11] صحيح مسلم رقم 2761.
[12] صحيح البخاري رقم 5221.
[13] الآية 30 و35 منها.
[14] روضة المحبين ونزهة المشتاقين، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1403هـ - 1983م، ص 295.
[15] صحيح البخاري رقم 7416.
[16] سنن النسائي رقم 2562، وقال الألباني: حسن صحيح.
[17] الغيرة على الأعراض، من خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد.
إرسال تعليق