رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن ديناميكية الاّداء الصوتى

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن ديناميكية الاّداء الصوتى



بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
مما لاشك فيه أن للقرآن أداء صوتي متميز وتأثير صوتي عجيب، وهو يتجلى في تنقله بين مقاطع مختلفة وأساليب متعددة من الأداء الصوتي، مما يثير الشجن أو الأمل أو الفرح لدى سامعه ولو لم يكن يعرف العربية، وأرى من وجوه الإعجاز: الأداء القرآني الواسع الدقيق الجميل المتناسق بين المدلول والعبارة والإيقاع والظلال والجو] [1].
وقد تنبه العلماء من قبل إلى هذه الميزة الصوتية للقرآن الكريم، وعدوها من وجوه إعجازه، يقول السيوطي في ذكره لوجوه الإعجاز: [الوجه الحادي والعشرون من وجوه إعجازه: أن سامعه لا يمجه، وقارئه لا يمله، فتلذ له الأسماع، وتشغف له القلوب، فلا تزيده تلاوته إلا حلاوة، ولا ترديده إلا محبة، ولا يزال غضا طريا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه، يُمل مع الترديد، ويُعادى إذا أعيد] [2].
وما يعنينا هنا تتبع ديناميكية الأداء الصوتي في القرآن الكريم، وذلك من خلال أشياء عدة سنبينها في هذا المبحث.
أولا: الجناس:
الجناس بين اللفظين هو من أهم المؤثرات الصوتية التي تطرب الأذن بما تؤديه من إيقاع متقارب من جهة، مما يجعل الأذن تصغي له وتهش لسماعه، كما أنه يثر الفكر لتعقب المعاني المتباينة للكلمات ذات الأداء الصوتي المتقارب، والجناس بين الكلمتين في الاصطلاح هو: [تشابههما في اللفظ] [3]، وهو قسمان: تام وغير تام، فالتام منه: أن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها وترتيبها [4]، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ [الروم: من الآية 55]، فالساعة تكررت بمعنيين مختلفين، ولكنها ذات إيقاع واحد في السمع، مما يثير التأمل في اختلاف المعنيين لكلمة واحدة تكررت في الجملة.
وغير التام ما كان فيه اختلاف في أحد الأمور الأربعة السابقة، وعلى هذا الأساس يكون لدينا أربعة أقسام للجناس غير التام.
القسم الأول: الجناس المحرف:
[إن اختلفا في هيئات الحروف فقط][5]، ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ [الصافات: 72- 73]، فكلمة منذرين جاءت بصيغة اسم الفاعل مرة واسم المفعول مرة أخرى، وقد أدت إيقاعين متقاربين، لمعنيين مختلفين.
القسم الثاني: أن تختلف الكلمتان في عدد الحروف ويسمى الجناس ناقصا[6]، ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾ [القيامة: 29-30]، فكلمة المساق زيد فيها الميم عن كلمة الساق، فهو جناس ناقص ولكنه ممتع وشجي، وهو في سياق الآية هنا يبعث الهول من رحلة الموت والانتقال إلى الآخرة.
القسم الثالث: أن تختلف الكلمتان في أنواع الحروف، ويشترط أن لا يقع الاختلاف بأكثر من حرف، فإذا كان الحرفان متقاربان سمي الجناس مضارعا[7]، ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [الأنعام: 26]، فالجناس بين ينهون وينأون هو جناس مضارع يؤدي التقارب الصوتي بين الهمزة والهاء إلى انسجام في الإيقاع، ومخرجهما من أقصى الحلق كما ذكر سيبويه[8]، وقد وقع الجناس في وسط الكلمة.
وإن كانا غير متقاربين سمي لاحقا، ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ﴾ [الهمزة: 1]، فالجناس بين كلمتي همزة ولمزة، وقد وقع الخلاف في الحرف الأول، فالهمزة في كلمة همزة من أقصى الحلق واللام في كلمة لمزة من حافة اللسان[9]. ونحوه أيضا قوله تعالى: ﴿ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ ﴾ [النمل: من الآية 22]، والسين في كلمة سبأ من حروف الصفير ومخرجها من طرف اللسان فوق الثنايا العليا، وأما النون في قوله نبأ فهي من طرف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا[10]. وقد يقع الخلاف في وسط الكلمة كما في قوله تعالى أيضا: ﴿ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ﴾ [غافر: 75]، فالفاء في قوله تفرحون من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، وأما الميم في قوله تمرحون فهو من بين الشفتين[11]. وقد يقع الخلاف في الحرف الأخير كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ﴾ [النساء: من الآية 83]، فكلمة أمر وأمن، يختلفان بالراء والنون، وهما من مخرج واحد في الأصل، ولكن الراء أدخل في ظهر اللسان قليلا لانحرافه إلى اللام مخرج الراء كما ذكر ابن جني[12].
القسم الرابع: أن تختلف الكلمتان في ترتيب الحروف، ويسمى جناس قلب[13]، ومثاله قوله تعالى: ﴿ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ ﴾ [طـه: من الآية 94].
ثانيا: ملحقات الجناس:
ويلحق بالجناس أن يجمع اللفظين الاشتقاق[14]، كما في قوله تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ﴾ [الروم: من الآية 43]، فقوله أقم فيه الأمر بالنهوض بأعباء الرسالة، وقوله القيم فيه نعت للدين القويم، وهي عملية متكاملة فليس الغرض إقامة الوجه نحو أي دين كان وإنما الغرض إقامته وتوجيهه نحو الدين القيم، فهنا تجتمع العبادة والصواب، فليس ثمة فائدة في أحدهما دون الآخر، ولقد اجتمع الأمر مع النعت في وحدة صوتية رائعة تكاد تأخذ بالإنسان وتزج به في الصراط المستقيم. ومن هذا الباب أيضا قوله تعالى: ﴿ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ ﴾ [الواقعة: 89]، فما أجمل أن يجتمع الروح والريحان هنا، في الطريق إلى الجنة، مع ما في الكلمتين من تناغم صوتي يقابله جمال المعنى الذي تفيض به كل كلمة مع صاحبتها، فيكون أكثر إشراقا مما لو كانت مفردة وحدها في السياق.
ويلحق بالجناس أيضا: رد العجز على الصدر، وهو: [أن يجعل أحد اللفظين المكررين أو المتجانسين أو الملحقين بهما في أول الفقرة، والآخر في آخرها] [15]، ومثاله قوله تعالى: ﴿ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاه ﴾ [الأحزاب: من الآية 37]، فقد تكرر الفعل تخشى مرتين، في الولى كان مذموما لأنه خشية للناس الذين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا رشدا، وفي الثانية كان ممدوحا لأنه لرب الناس ومالكهم ومن بيده الأمر كله، وهو في الثانية مصحوب بحرف المد وهاء الضمير، وكأن هذا المد الصوتي هو مد للخشية نفسه لتتجاوز البشر وأدنياهم وقيمهم وتتجه إلى الله العلي الكبير.
وأقسام الجناس كثيرة، واستعراضها جميعا يطول، ويكفي أن نشير إلى أن انسجام الصوات وتقاربها وهو ما يفيده الجناس ليس على حساب المعنى، ولم يتعمد القرآن مجيء الجناس ولم يقصد إليه ويجعل المعنى تبعا له كما يفعل بعض البلغاء، بل جعله تابعا للمعنى، ويسوقه عفوا دون قصد، فيؤدي الانسجام الصوتي بين الكلمات متعة للسمع، وهي مصحوبة بمتعة للفكر أيضا عندما يبحث عن خبايا المعاني التي تستتر وراء جمال الألفاظ وتناغمها وانسجامها الصوتي، وهذا من ديناميكية القرآن ودلائل إعجازه.
ثالثا: الفواصل القرآنية
الفواصل هي رؤوس الآيات القرآنية، [ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعا، لأن الله تعالى لما سلب عنه اسم الشعر، وجب سلب القافية عنه أيضا، لأنها منه وخاصة به في الاصطلاح، وكما يمتنع استعمال القافية فيه يمتنع استعمال الفاصلة في الشعر، لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه] [16].
والفواصل القرآنية ذات جرس موسيقي رائع، تجعل الأذن تتشنف لسماعها، والفكر يثور عند ذكرها، والقلب يصحو لدى تردادها، والخيال ينبعث مع موسيقاها وحسن أدائها، ومن أجل مراعاة هذه الفواصل يتم تطويع اللغة وقواعدها خدمة لها، فقد نقل السيوطي عن ابن الصائغ قوله: [اعلم أن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يرتكب فيها أمور من مخالفة الأصول. قال: وقد تتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة، فعثرت منها على ما ينيف على أربعين حكما] [17].
وهذه بعض الحالات التي يرتكب فيها مخالفة الأصول مراعاة للفاصلة:
1- تقديم المعمول على العامل، نحو قوله تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]، والتقديم هنا يفيد القصر بجعل العبادة متجهة إلى الله وحده دون سواه، فهو مقصود لذاته، فضلا عن إفادته للفاصلة النونية المسبوقة بحرف مد وهو الياء، مما يعطي صوتا رتيبا هادئا لا تجده مما لو جرى الكلام على الأصل فقلت نعبد إياك ونستعين إياك.
2- تقديم ما هو متأخر في الزمان، نحو قوله تعالى: ﴿ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ﴾ [النجم: 25]، والسبب هو أن الآخرة أهم من الدنيا في ميزان الله، ولذلك نردد دوما في الصلاة: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الفاتحة: 4].
3- تقديم الفاضل على الأفضل، نحو قوله تعالى: ﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ﴾ [طـه: 70]، وهذا أسلوب عربي يسمى الترقي، تقول: جاء الجنود والوزير والملك[18]، وبضده التدلي، وورد الاثنان في القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ﴾ [لأعراف: 122].
4- تقديم الضمير على ما يفسره، نحو قوله تعالى: ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ [طـه: 67].
5- تقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد، نحو قوله تعالى: ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورا ﴾ [الإسراء: من الآية 13]. والمهم هنا لقاء الكتاب قبل نشره، ولذا قدم الفعل وهو صفة الكتاب وأخر منشورا.
6- حذف ياء المنقوص المعرف، نحو قوله تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9].
7- حذف ياء الفعل غير المجزوم، نحو قوله تعالى: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ﴾ [الفجر: 4].
8- حذف ياء الإضافة، نحو قوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ﴾ [القمر: 21].
9- حرف المد، نحو: الظنونا، والرسولا، والسبيلا، ومنه إبقاؤه مع الجزم، نحو قوله تعالى: ﴿ لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى ﴾ [طـه: من الآية 77]، وقوله أيضا: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى ﴾ [الأعلى: 6]
10- صرف ما لا ينصرف، نحو قوله تعالى: ﴿ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴾ [الإنسان: 15]، وقوله أيضا: ﴿ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴾ [الإنسان: 16].
11- إيثار تذكير الجنس، نحو قوله تعالى: ﴿ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ﴾ [القمر: 20].
12- إيثار تأنيثه،، نحو قوله تعالى: ﴿ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾ [الحاقة: من الآية 7].
13- إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر، نحو قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3] ولم يقل الذين كذبوا.
14- إيثار أغرب اللفظتين، نحو قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [النجم: 22] ولم يقل جائرة، وقوله: ﴿ كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 4]، ولم يقل جهنم أو النار.
15- حذف المفعول، نحو قوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ﴾ [الليل: 5].
16- الاستغناء بالإفراد عن التثنية، نحو قوله تعالى: ﴿ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طـه: من الآية 117]
17- الاستغناء بالإفراد عن الجمع، نحو قوله تعالى: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: من الآية 74]، وقوله: ﴿ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: من الآية 74]، ولم يقل أئمة.
18- حذف الفاعل ونيابة المفعول عنه، نحو قوله تعالى: ﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ﴾ [الليل: 19].
19- العدول عن صيغة المضي إلى صيغة الاستقبال، نحو قوله تعالى: ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: من الآية 87]. الأصل قتلتم. ولعله عدل عنه استحضارا لجريمة القتل البشعة التي يقومون بها.
20- تغيير بنية الكلمة، نحو قوله تعالى: [وَطُورِ سِينِينَ] [التين: 2]. والأصل: طور سيناء.
وينبغي أن نؤكد هنا أن هذه الحالات التي يرتكب فيها مخالفة الأصول مراعاة للفاصلة، لا يكون ذلك مطلقا على حساب المعنى، بل إن المعنى لا يتم إلا بوضع الفاصلة كما هي في الذكر الحكيم، فالفواصل تبع للمعاني وليس العكس، فإذا كانت الفاصلة تخدم المعنى مع أدائها الجمال الصوتي عند الوقوف عليها، فهذا يكون بحق من صور الإعجاز التي انفرد بها القرآن عن شعر الشعراء وسجع الكهان، فكم في قوافيهم من تكلف وحشو!! فضلا على أن تلك القوافي يتبعها المعنى ولا تتبعه بالضرورة، مما يجعله متباينة في مبناها ومغزاها عن فواصل القرآن التي جمعت إلى حسن الصوت حسن المعنى، فصار القرآن بحرا من الحسن لا ينتهي.
علاقة الوقف بالفواصل:
الوقف هو [قطع النطق عند آخر الكلمة] [19]، والوقف وثيق الصلة بالفواصل، قال الجعبري: [لمعرفة الفواصل طريقان: توقيفي وقياسي، أما التوقيفي: فما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه دائما تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائما تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة، أو لتعريف الوقف التام أو الاستراحة، والوصل أن يكون غير فاصلة، أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها، وأما القياسي فهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص المناسب، ولا محذور في ذلك لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما غايته أنه محل فصل ووصل، والوقوف على كل كلمة كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز، فاحتاج القياس إلى طريق تعريفه، فنقول: فاصلة الآية كقرينة السجعة في النثر وقافية البيت في الشعر، وما يذكر من عيوب القافية من اختلاف الحركة والإشباع، والتوجيه، فليس بعيب في الفاصلة، وجاز الانتقال في الفاصلة والقرينة وقافية الأرجوزة من نوع إلى آخر بخلاف قافية القصيدة، ومن ثم نرى ترجعون مع عليم، والميعاد مع الثواب، والطارق مع الثاقب، والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة في الآية والسجعة المساواة][20]، وقد يكون الوقف بهاء السكت، وهو: [كل متحرك يجوز أن تقف عليه بالسكون، كما علمت، ويجوز أن يوقف على بعض المتحركات أيضا بهاء ساكنة تسمى هاء السكت] [21].
رابعا: تقسيمات الفواصل:
للفواصل عند البلاغيين تقسيمات عدة، قال السيوطي: [وقسم البديعيون السجع، ومثله الفواصل، إلى أقسام: مطرف، ومتواز، ومتوازن، ومرصع، ومتماثل.
• فالمطرف أن تختلف الفاصلتان في الوزن، وتتفقا في حروف السجع، نحو قوله تعالى: ﴿ مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 13-14].
• والمتوازي: أن يتفقا وزنا وتقفية، ولم يكن ما في الأولى مقابلا لما في الثانية في الوزن والتقفية، نحو قوله تعالى: ﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ﴾ [الغاشية: 13-14].
• والمتوازن: أن يتفقا في الوزن دون التقفية، نحو قوله تعالى: ﴿ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ [الغاشية: 15-16].
• والمرصع: أن يتفقا وزنا وتقفية، ويكون ما في الأولى مقابلا لما في الثانية كذلك، نحو قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ [الغاشية: 25-26]، وقوله أيضا: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: 13-14].
• والمتماثل: أن يتساويا في الوزن دون التقفية، ويكون أفراد الأولى مقابلة لما في الثانية، فهو بالنسبة إلى المرصع كالمتوازن بالنسبة إلى المتوازي، نحو قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ * وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الصافات: 117-118]، فالكتاب والصراط متوازنان، وكذا المستبين والمستقيم، واختلفا في الحرف الأخير] [22].
وتتبع الفواصل وترتيبها ضمن هذه الأقسام يدل على مدى عناية أهل العلم بالمؤثرات الصوتية في سياق الكلام، وهي مؤثرات لها من دلالات المعنى مثل ما لها من قوة الجرس والإيحاء، وهذا كله من دلائل إعجاز كتاب الله الذي تتفجر أنهار العلم وينابيع الحكمة من بين حروفه وكلماته، ومعانيه وآياته.
خامسا: لزوم ما لا يلزم:
وهو: [أن يجيء قبل حرف الروي وما في معناه من الفاصلة ما ليس بلازم في مذهب السجع] [23]، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201-202]، فقد جاء قبل حرف الروي حرفا الواو والراء في كل من: مبصرون، ويقصرون، وقد يلتزم بحرف واحد كالهاء في قوله أيضا: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ﴾ [الضحى: 9-10]، والتزام أكثر من حرف ليس مطلوبا، ولكنه دليل قدرة أدبية، وهو أكثر إمتاعا للسمع بسبب انسجام الأصوات المشتركة، ولعل هذا ما دفع أبا العلاء المعري لكتابة ديوانه اللزوميات.
سادسا: الإعلال:
وهو [حذف حرف العلة أو قلبه أو تسكينه] [24]، والإعلال في الأصل من مباحث اللغة والصرف، وقد استخدمه القرآن وفق قواعد اللغة، فأدى بذلك إلى أصوات سهلة ندية محببة للسمع، فمثلا من مباحث الإعلال بالقلب أن تقلب الواو ياء في ثمانية مواضع، أولها: [أن تسكن بعد كسرة، كميعاد وميزان، وأصلها مِوْعادٌ، ومِوْزانٌ، لأنهما من الوعد والوزن] [25]، والإعلال يدل على رشاقة العربية وسهولة نطقها وحيويتها وملاءمتها لواقع الحياة، فقد تخلصت العربية بواسطته من صعوبة النطق بالألفاظ الكزة الغليظة، وقد وظف القرآن هذه الظاهرة في أسلوبه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: من الآية 9]، وقال أيضا: ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ [الرحمن: 7]، وتتبع ظاهرة الإعلال في القرآن الكريم تحتاج إلى دراسة مستقلة.
سابعا: الإبدال:
وهو: [إزالة حرف، ووضع آخر مكانه] [26] فمثلا: [تبدل الواو والياء همزة، إذا تطرفتا بعد ألف زائدة، كدعاء وبناء، والأصل: دُعاوٌ وبُنايٌ، لأنهما من دعا يدعو، وبنى يبني، وتشاركهما في ذلك الألف، فإنها إذا تطرفت بعد ألف زائدة تبدل همزة] [27]، وقد جرى القرآن على العرف العربي في قواعد اللغة ومنها الإبدال، قال تعالى: ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: من الآية 38]، فتخلص من كل ما فيه ثقل على السمع واللسان.
يبقى أن نشير إلى ما ذكره السيوطي في هذا الصدد حيث قال: [وجعل منه ابن فارس: [فَانْفَلَقَ] أي: فانفرق، ولذا قال: ﴿ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: من الآية 63] فالراء واللام يتعاقبان] [28]، وإبدال الحروف باب واسع من اللغة، وفيه استثارة وتنبيه للعقل والتفكير عن طريق المادة الصوتية.
ثامنا: الإدغام:
وهو [إدخال حرف في حرف آخر من جنسه، بحيث يصيران حرفا واحدا مشددا، مثل: مدَّ يمدُّ مدًّا، وأصلها: مدَدَ، يمدُدُ، مدْدا، وحكم الحرفين في الإدغام أن يكون أولهما ساكنا، والثاني متحركا، بلا فاصل بينهما] [29]. وقد سار القرآن وفق قواعد اللغة، ووظف الإدغام في بنائه اللغوي، فأدى بواسطته إيقاعا محكما، وكلاما سهلا على اللسان والأسماع، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ﴾ [مريم: من الآية 75]
والخلاصة هي أن القرآن الكريم اعتمد على مجموعة من العوامل الصوتية، منها ما هو من خصائص اللفظ العربي، ومنها ما ابتدعه القرآن ونعني به نظام الفواصل الذي لم يكن معروفا لدى العرب قبل نزول القرآن، مما جعله ذا إيقاع خاص، يأخذ بالأسماع التي تتشنف لسماعه مثل ما يأخذ بالقلوب والألباب.
________________________________________
[1] فكرة إعجاز القرآن منذ البعثة النبوية حتى عصرنا الحاضر مع نقد وتعليق، نعيم الحمصي، ص [350]، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1400هـ/ 1980م.
[2] معترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي، صححه أحمد شمس الدين [1/184].
[3] التلخيص في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح: عبدالرحمن البرقوقي، ص [388].
[4] الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي، [2/535].
[5] المصدر السابق، [2/537].
[6] انظر: المصدر السابق، [2/538].
[7] انظر: المصدر السابق، [2/540].
[8] انظر: الأصوات اللغوية، للدكتور إبراهيم أنيس، ص [113]، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة السادسة، 1981م.
[9] انظر: المرجع السابق ص [131]، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة السادسة، 1981م.
[10] انظر: المرجع السابق، ص [131-132].
[11] انظر: المرجع السابق، ص [133].
[12] انظر: المرجع السابق، ص [141].
[13] انظر: الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، [2/541].
[14] المصدر السابق، [2/542].
[15] التلخيص في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح: عبد الرحمن البرقوقي، ص [392-393].
[16] معترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي، صححه أحمد شمس الدين [1/25].
[17] المصدر السابق، [1/26].
[18] شروح التلخيص [شرح السبكي] [4/473]، دار السرور، بيروت، [مصورة عن طبعة مصطفى البابي الحلبي].
[19] جامع الدروس العربية، للغلاييني، [2/126]، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الثالثة والثلاثون، 1417هـ/ 1997م.
[20] الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي، [2/124].
[21] جامع الدروس العربية، للغلاييني، [2/131].
[22] معترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي، صححه أحمد شمس الدين [1/39-40].
[23] الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزويني، شرح الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، [2/553].
[24] جامع الدروس العربية، للغلاييني، [2/104]، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الثالثة والثلاثون، 1417هـ/ 1997م.
[25] المرجع السابق[2/107].
[26] المرجع السابق، [2/120].
[27] نفسه.
[28] معترك الأقران في إعجاز القرآن، للسيوطي، صححه أحمد شمس الدين [1/297].
[29] جامع الدروس العربية، للغلاييني، [2/97].

اكتب تعليق

أحدث أقدم