رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه الصدق

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه الصدق



بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بإسبانيا،
الرئيس التنفيذي للأكاديمية الملكية للأمم المتحدة
مما لاشك فيه أن الإسلامُ رغب في الصدقِ وحثَّ عليهِ في مجالاتِ الحياةِ كلِّهَا واهتَمَّ بهِ اهتمامًا كبيرًا، ولأهميةِ الصدقِ والعنايةِ بهِ في شئونِ الحياةِ كلِّهَا تضافرتْ نصوصُ القرآنِ والسنةِ في الحثِّ عليهِ والتحلِّي بهِ، فقد وردَ لفظُ (الصدقِ) في القرآنِ الكريمِ في ثلاثةٍ وخمسينَ ومائةِ (153) موضعًا، والأنبياءُ عليهُم السلامُ كلُّهُم موصوفونَ بالصدقِ، قالَ تعالَى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]. وقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 56]. وَوُصِفَ يوسفُ عليهِ السلامُ بالصدقِ حينمَا جاءَهُ الرجلُ يستفتيهِ فقالَ: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} [يوسف: 46]. وأمرَ اللهُ رسولَهُ ﷺ أنْ يسألَهُ أنْ يجعلَ مدخلَهُ ومخرجَهُ على الصدقِ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، وقد كان ﷺ مشهورًا بالصدقِ قبلَ البعثةِ وبعدَهَا، فكان يلقبُ قبلَ البعثةِ بالصادقِ الأمينِ، وبعدَ البعثةِ المباركةِ كان تصديقُ الوحيِ له مدعاةٌ لأنْ يطلقَ عليهِ أصحابُهُ «الصّادق المصدوق».
ولأهميةِ الصدقِ والحثِّ عليهِ أمرَ اللهُ المؤمنين أنْ يكونُوا دومًا في زمرةِ الصادقين، فقالَ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.[التوبة: 119] . فالصدقُ طمأنينةٌ للقلبِ، وفي ذلك يقولُ ﷺ:” دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ “.( النسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح).
فالصدقُ طمأنينةٌ، أي: يطمئنُ إليهِ القلبُ ويسكنُ، والكذبُ ريبةٌ، أي: يَقْلَقُ القلبُ ويضطربُ.
وفي مقابلِ ترغيبِ الإسلامِ في الصدقِ، فقد رهَّبَ الإسلامُ مِن الكذبِ وشنّعَ القرآنُ على كلِّ مَن كذبَ وخلفَ وعدَهُ وخانَ، بل عدَّهُ الرسولُ ﷺ مِن خصالِ المنافقين، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.”(متفق عليه).
بل إنَّ الكذبَ يُنافِي الإيمانَ؛ لأنَّ الكذبَ والإيمانَ لا يجتمعانِ في قلبِ رجلٍ واحدٍ، فَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ، أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ قَالَ: «نعم» . فَقيل: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . فَقِيلَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ قَالَ: «لَا» . ثم تلا قولَهُ تعالَى: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ }. (النحل: 105).(مالك والبيهقي في الشعب).
إنَّ صلاحَ اللسانِ صلاحٌ لأعضاءِ الجسدِ كلِّهَا، وفسادَهُ فسادٌ لأعضاءِ الجسدِ كلِّهَا، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرفُوعًا قَالَ: ”إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا”[ الترمذي بسند حسن ]. وقد ضمنَ الرسولُ ﷺ الجنةَ لِمَن حفظَ لسانَهُ مِن خبيثِ الكلامِ، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ؛ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ ” (البخاري). وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ؛ وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ؛ وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ؛ وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ؛ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ؛ وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ “. (أحمد والبيهقي والحاكم وصححه).
وهكذا رغّبَ الإسلامُ في الصدقِ، ورهَّبَ مِن الكذبِ كما جاءَ في القرآنِ والسنةِ.
الصدقُ في القولِ
وهو أشهرُ أنواعِ الصدقِ وأظهرُهَا، ومعناه: صدقُ اللسانِ في الإخبارِ، أي مطابقةُ الخبرِ للواقعِ، فحقٌّ على كلِّ عبدٍ أنْ يحفظَ ألفاظَهُ، فلا يتكلمُ إلَّا بالصدقِ، وقد عدَّ النبيُّ ﷺ الصمتَ – إذا كان الكلامُ يجلبُ شرًّا – شعبةً مِن شعبِ الإيمانِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللهُ عنهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»(متفق عليه) . يقولُ الإمامُ النوويُّ في رياضِ الصالحين:” اعلمْ أنَّه ينبغِي لكلِّ مكلفٍ أنْ يحفظَ لسانَهُ عن جميعِ الكلامِ إلّا كلامًا ظهرتْ فيهِ المصلحةُ، ومتى استوىَ الكلامُ وتركه في المصلحةِ، فالسنةُ الإمساكُ عنهُ؛ لأنَّه قد ينجرُّ الكلامُ المباحُ إلى حرامٍ أو مكروهٍ، وذلك كثيرٌ في العادةِ، والسلامةُ لا يعدلُهَا شيءٌ.”
فعلينَا أنْ نغرسَ فضيلةَ الصدقِ في نفوسِ الأطفالِ، حتى يشبُّوا عليهَا، ويألفُوهَا في أقوالِهِم وأحوالِهِم كلِّهَا.
فعن عبدِ اللهِ بنِ عامرٍ قال: دعتنِي أُمّي يومًا، ورسولُ اللهِ ﷺ قاعدٌ في بيتِنَا فقالتْ: تعالَ أُعطيكَ. فقالَ لها ﷺ: ” وما أردتْ أنْ تعطيهِ؟ ” قالتْ: أردتُ أنْ أعطيِه تمرًا. فقالَ لهَا: ” أمَا إنّكِ لو لم تعطهِ كتبتْ عليكِ كذبةٌ”.( أحمد وأبو داود والبيهقي بسند حسن).
قال الشيخُ عبدُ القادرِ الجيلانِي -رحمَهُ اللهُ-: بَنَيْتُ أمرِي على الصدقِ، وذلك أنِّي خرجتُ مِن مكةَ إلى بغداد أطلبُ العلمَ، فأعطتنِي أُمِّي أربعينَ دينارًا، وعاهدتنِي على الصدقِ، ولمَّا وصلنَا أرضَ (هَمْدَان) خرجَ علينَا عربٌ، فأخذُوا القافلةَ، فمرَّ واحدٌ منهُم، وقال: ما معك؟ قلتُ: أربعونَ دينارًا. فظنَّ أنّي أهزأُ بهِ، فتركنِي، فرآنِي رجلٌ آخرٌ، فقالَ ما معك؟ فأخبرتُهُ، فأخذنِي إلى أميرهِم، فسألنِي فأخبرتُهُ، فقالَ: ما حملَكَ على الصدقِ؟ قلت: عاهدَتْنِي أُمِّي على الصدقِ، فأخافُ أنْ أخونَ عهدَهَا. فصاحَ باكيًا، وقال: أنتَ تخافُ أنْ تخونَ عهدَ أُمِّكَ، وأنَا لا أخافُ أنْ أخونَ عهدَ اللهِ!! ثُمّ أمرَ بردِّ ما أخذوهُ مِن القافلةِ، وقال: أنا تائبٌ للهِ على يديك. فقال مَنْ معَهُ: أنتَ كبيرُنَا في قطعِ الطريقِ، وأنتَ اليومَ كبيرُنَا في التوبةِ، فتابُوا جميعًا ببركةِ الصدقِ وسببهِ” ( نزهة المجالس للصفوري ).
قارنْ بينَ ذلك وبينَ ما يحدثُ في واقعِنَا المعاصرِ: إذا طرقَ أحدٌ البابَ أو اتصلَ أحدٌ على التليفونِ يقولُ الوالدُ لولدهِ: قُل لهُ أبِي ليسَ موجُودًا ! إنَّنَا بهذا الشكلِ نُربِّي أولادَنَا على الكذبِ ونطبقُهُ أمامَهُم عمليًّا، ولا شكَّ أنَّ هذه قدوةٌ سيئةٌ!! فلابُدّ أنْ نضربَ لهم القصصَ والأمثلةَ العمليةَ التي تغرسُ في نفوسِهِم الصدقَ حتى يكونَ سجيةً وطباعًا في تعاملِهِم مع اللهِ ومع الناسِ، وقبلَ كلِّ ذلك مع أنفسِهِم!!
الصدق في القول والعمل
وهو مطابقةُ العملِ للقولِ، بحيثُ فعلّهُ يطابقُ قولَهُ، وبالمثالِ يتضحُ المقالُ: فالمسلمُ الذي تعلَّمَ العلمَ الشرعيَّ لابُدَّ أنْ يطبقَهُ عمليًّا، كأنْ يكونَ المسلمُ عالمًا بحرمةِ الغيبةِ وينهَى عنها، فهذا لا بُدَّ أنْ يصدقَ قولُهُ عملَهُ وينتهِي هو عن الغيبةِ قبل أن ينهَى عنها، فإنْ لم ينتهِ لا يكونُ صادقًا في عملهِ. قالَ تعالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} . (البقرة: 44). فكلُّ مَن يخالفُ فعلُهُ قولَهُ فهو غيرُ صادقٍ في فعلهِ.
ومِن أمثلةِ ذلك – أيضًا- ما حكاهُ اللهُ لنَا مِن عدمِ صدقِ إخوةِ يوسفَ عليه السلامُ في القولِ والعملِ، إذ كذبُوا قولًا أنَّه أكلَهُ الذئبُ، وكذبُوا فعلًا بالدمِ الكاذبِ، فجمعُوا بينَ كذبِ القولِ وكذبِ العملِ، قالَ تعالى: { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } . ( يوسف: 16 – 18}. فبكاؤهُم عملٌ كاذبٌ، قصدُوا بهِ التعبيرَ لأبيهِم عن حزنهِم على يوسفَ الذي أكلَهُ الذئبُ بزعمِهِم، وهم الجانُون عليهِ إذ ألقُوهُ في الجبِّ، وقصتهُم التي أخبرُوا عنها قصةٌ مفتراةٌ مِن عندِ أنفسِهِم، والذئبُ بريءٌ مِن دمِ أخيهِم، فأقوالُهُم فيها أقوالٌ كاذبةٌ، وتلطيخُهُم قميصَ يوسفَ بدمٍ شاةٍ ذبحوهَا ليوهمُوا بهِ صحةَ ما زعمُوه مِن أكلِ الذئبِ لهُ عملٌ كاذبٌ، والدمُ ليسَ دمَ يوسفَ بل هو دمٌ كذبٌ، وهكذا لفّقُوا عدةَ أكاذيبَ قوليةٍ وفعليةٍ ليسترُوا بها ما جنوهُ على أخيهِم.
وأنَّ قوامَ المجتمعِ في التعاملِ بصدقٍ في القولِ والعملِ، فكيف يكونُ لمجتمعٍ ما كيانٌ متماسكٌ وأفرادُهُ لا يتعاملونَ فيمَا بينهُم بالصدقِ؟! وكيف يكونُ لهذا المجتمعِ حضارةٌ وأفرادُهُ يكذبونَ ويروجونَ للكذبِ؟! كيف يوثقُ بنقلِ المعارفِ والعلومِ إذا لم يكنْ الصدقُ أحدَ الأسسِ الحضاريةِ التي يقومُ عليها بناءُ المجتمعِ الإنسانِي؟! كيف يوثقُ بنقلِ الأخبارِ والتواريخِ إذا لم يكنْ الصدقُ أحدَ الأسسِ الحضاريةِ التي يقومُ عليهَا بناءُ المجتمعِ؟! كيف يوثقُ بالوعودِ والعهودِ ما لم يكنْ الصدقُ أحدَ أسسِ التعاملِ بينَ الناسِ؟!
فعليكُم بصدقِ القولِ والعملِ فإنَّهُ طريقٌ إلى الجنةِ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا”.( متفق عليه واللفظ لمسلم).
قال النوويُّ: ” قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا فِيهِ حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ وَهُوَ قَصْدُهُ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ، وَعَلَى التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّسَاهُلِ فِيهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَسَاهَلَ فِيهِ كَثُرَ مِنْهُ فَعُرِفَ بِهِ وَكَتَبَهُ اللَّهُ لِمُبَالَغَتِهِ صِدِّيقًا إِنِ اعْتَادَهُ أَوْ كَذَّابًا إِنِ اعْتَادَهُ.
وَمَعْنَى يُكْتَبُ هُنَا يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ الصِّدِّيقِينَ وَثَوَابِهِمْ؛ أَوْ صِفَةِ الْكَذَّابِينَ وَعِقَابِهِمْ؛ وَالْمُرَادُ إِظْهَارُ ذَلِكَ لِلْمَخْلُوقِينَ إِمَّا بِأَنْ يَكْتُبَهُ فِي ذَلِكَ لِيَشْتَهِرَ بِحَظِّهِ مِنَ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَلَأِ الْأَعْلَى؛ وَإِمَّا بِأَنْ يُلْقِيَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَأَلْسِنَتِهِمْ كما يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ وَالْبَغْضَاءُ؛ وَإِلَّا فَقَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى وكِتَابُهُ السَّابِقُ بِكلِّ ذَلِكَ” .
ألَا فلنعدْ إلى ما كان عليهِ سلفُنَا الصالحُ مِن صدقٍ في القولِ والعملِ؛ لنكونَ قدوةً ودعوةً للآخرين إلى الدخولِ في هذا الدينِ الحنيفِ، إنْ فعلنَا ذلك فزنَا في الدنيا بالسعادةِ والثقةِ فيمَا بينَنَا، وفي الآخرةِ بالجنةِ والثوابِ العظيمِ.
ولا يفوتُنَا في هذا المقامِ أنْ نذكرَ بفضلِ هذا الشهرِ الفضيلِ شهرِ شعبان، فنحن نعلمّ جميعًا أنَّ الرسولَ ﷺ كان يجتهدُ في شعبانَ ويخصُّهُ بأعمالٍ دونَ غيرهِ مِن الشهورِ، ومِن أهمِّ هذه الأعمالِ اختصاصُ شهرِ شعبانَ بالصيامِ، مِمَّا أثارَ انتباهَ الصحابةِ إلى ذلك، فعن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنْ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: ” ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ “(أحمد والنسائي بسند حسن) .
فكان ﷺ يصومُ مِن شعبانَ ما لا يصومُ مِن غيرهِ مِن الشهورِ؛ لرفعِ أعمالِ السنةِ كلِّهَا فيهِ.
فالنبيُّ ﷺ مع أنَّ اللهَ غفرَ لهُ ما تقدّمَ مِن ذنبهِ وما تأخر – يحرصُ وقتَ رفعِ العملِ أنْ يكونَ في أحسنِ حالٍ مع اللهِ، إذ تأتِي الملائكةُ فتجدهُ صائمًا قائمًا، ونحن وقد أكلتنَا الذنوب نغفلُ عن هذا الشهرِ الفضيلِ، وإذا كان الواحدُ منَّا يستحِى أنْ يراهُ ولىُّ أمرهِ أو رئيسُهُ أو مديرُهُ وهو على معصيةٍ أو في وضعٍ غيرِ لائقٍ، فمِن بابَ أولَى أنْ يكونَ في أتقَى وأنقَى وأصفَى حالٍ مع اللهِ، ولا سيَّمَا حينَ رفعِ التقريرِ السرِّي السنوي إليهِ سبحانَهُ وتعالَى.
نسألُ اللهَ أنْ يجعلنَا مِن الصادقين في أقوالِنَا وأفعالِنَا، وأنُ يباركَ لنا في رجبَ وشعبانَ وأنْ يبلغَنَا رمضانَ، وأنْ يحفظَ مصرَنَا مِن كلِّ مكروهٍ وسوءٍ ،،،

اكتب تعليق

أحدث أقدم