رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه العلمانية

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن فقه العلمانية



بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
مما لاشك فيه أن العلمانية من الجانب العقدي:
تعني التنكُّرَ للدين، وعدمَ الإيمان به، وترك العمل بأحكامه، وحدوده، وهذا كفر صريح، وشرك قبيح.
والعلمانية في الجانب التشريعي تعني:
فصلَ الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن الحياة كلها، وهذا يعني الحكم بغير ما أنزل الله.
والعلمانية في الجانب الأخلاقي تعني:
الانفلات والفوضى في إشاعة الفاحشة والرذيلة والشذوذ، والاستهانة بالدين والفضيلة، وسنن الهدى، وهذا ضلال مبين وفساد في الأرض.
ومن العلمانيين من يرى أن السنن والآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية إنما هي تقاليد موروثة. وهذا تصور جاهلي منحرف[1].
يقول ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [المائدة: 49]؛ أي: فاحكم يا محمد بين الناس: عربِهم، وعجِمهم، أميِّهم وكتابيهم، بما أنزل الله إليك هذا الكتاب العظيم، وبما قرَّره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء، ولم ينسخه في شرعك"[2].
وإليك تفصيل القضية:
العلمانية شرك في التوحيد في جانبي الربوبية والألوهية:
فالخلق والأمر من أخص خصائص الربوبية، وأجمع صفاتها؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54].
والأمر في لغة الشارع يأتي بمعنيين:
الأول: الأمر الكوني، وهو الذي به يدبر شؤون المخلوقات، وبه يقول للشيء كن فيكون، ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82].
الثاني: الأمر الشرعي، وهو الذي به يُفصل الحلال والحرام، الأمر والنهي وسائر الشرائع، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
وإذا كانت البشرية لم تعرف في تاريخها مَن نازع الله في عموم الخلق أو الأمر بمفهومه الكوني - فقد حفل تاريخها بمن نازع الله في جانب الأمر الشرعي، وادَّعى مشاركته فيه؛ فقد حكى لنا القرآن الكريم عمن قال: ﴿ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [الأنعام: 93].
ورأينا في واقعنا المعاصر دعاة العلمانية وهم يقولون: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة! بل مَن اجترأ على ربه وقال: إن القوانين الوضعية خير من الشريعة الإسلامية؛ لأن الأولى تمثل الحضارة والمدنية، والثانية تمثل البداوة والرجعية!
ولا يتحقق توحيد الربوبية إلا بإفراد الله بالخلق والأمر بقسميه: الكوني والشرعي، وإفراده بالأمر الشرعي يقتضي الإقرار له وحده بالسيادة العليا والتشريع المطلق؛ فلا حلال إلا ما أحَلَّه، ولا حرام إلا ما حرَّمه، ولا دين إلا ما شرعه، ومن سوَّغ للناس اتباع شريعة غير شريعته منكرًا لها فهو كافر مشرك.
العلمانية ثورة على النبوة:
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "وأما الرضا بنبيِّه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقَّى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكامه ظاهره باطنه، لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه"[3].
قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
قال الجصاص رحمه الله: "وفي هذه الآية دلالة على أن من ردَّ شيئًا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله، فهو خارج من الإسلام، سواءٌ رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول، والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حُكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة، وقتلهم، وسَبْيِ ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلِّم للنبي قضاءَه وحكمه، فليس من أهل الإيمان"[4].
فأين هذا من تركِ التَّحاكم إلى شريعته ابتداءً واتهامها بالبداوة والرجعية، أو الجمود وعدم الصلاحية للتطبيق؟
العلمانية استحلال للحكم بغير ما أنزل الله:
فقد اتفقت الأمة على أن استحلال المحرمات القطعية كفر بالإجماع، لم ينازع في ذلك - فيما نعلم- أحد؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والإنسان متى حلَّل الحرام المجمع عليه، أو حرَّم الحلال المجمع عليه، أو بدلَّ الشرع المجمع عليه، كان كافرًا ومرتدًّا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]؛ أي: هو المستحِلُّ للحكم بغير ما أنزل الله"[5].
فللاستحلال صورتان:
الأولى: عدم اعتقاد الحرمة، ومردُّه حينئذ إلى خلل في الإيمان بالربوبية والرسالة، يؤدي إلى كفر التكذيب.
الثانية: اعتقاد الحرمة، والامتناع عن التزام هذا التحريم، ومردُّه في هذه الحالة إما: إلى خلل في التصديق بصفة من صفات الشارع؛ كالحكمة والقدرة، وإما: لمجرد التمرد واتباع هوى النفس.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاًّ لها، فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحلَّ محارمَه، وكذلك لو استحلَّها من غير فعل، والاستحلال: اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحدًا محضًا غير مبني على مقدمة، وتارة يعلمُ أن الله حرَّمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرَّمه الله، ثم يمتنع عن التزام التحريم ويعاند المحرِّم، فهذا أشد كفرًا ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذَّبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته، فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرُّدًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفر هذا؛ لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويُبغِضه ويسخَطُه؛ لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقرُّ بذلك ولا ألتزمه، وأُبغِض هذا الحق وأنفِرُ عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام"[6].
العلمانية حكم الجاهلية وعبودية للهوى:
لقد جعل الله طريقين للحكم لا ثالث لهما: حكم الله أو حكم الجاهلية؛ قال تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50].
يقول ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: "ينكر الله تعالى على مَن خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجاهلات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم "الياسق"، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائعَ شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخَذَها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنِيه شرعًا متبعًا يقدمونها على الحُكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتالُه حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يُحكِّم سواه في قليل ولا كثير).
والعلمانية بما تقوم عليه من رفض الشريعة، تعبيد البشر إلى غير ما أنزل الله، فهي ترجع بهم إلى الجاهلية، وتُدخلهم في عبادة الهوى من دون الله.
العلمانية كفرٌ بَوَاح:
العلمانية هي قيام الحياة على غير الدين، أو فصل الدين عن الدولة، وهذا يعني بداهةً: الحكمَ بغير ما أنزل الله، وتحكيمَ غير شريعته سبحانه، وقبول الحكم والتشريع من غير الله...
لذلك، فالعلمانية هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وتعطيلٌ لكل ما في الشريعة، وإذا تبين هذا فإننا نقول بما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيلَ القانون اللعين منزلةَ ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والردِّ إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضةً ومعاندةً لقول الله عز وجل: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59]...، فإنه لا يجتمع التَّحاكُمُ إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر...
إن ما جد في حياة المسلمين من تنحية شريعة الله، واستبدالها بالقوانين الوضعية البشرية القاصرة، بل رمي شريعة الله بالرجعية والتخلف وعدم مواكبة التقدم الحضاري والعصر المتطور - إن هذا في حقيقته رِدَّةٌ جديدة على حياة المسلمين"[7].
وهذا هو ما قاله الشيخ عبدالعزيز بن باز في مَعرِضِ رده على القوميين؛ حيث قال: "الوجه الرابع من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال: إن الدعوة إليها والتكتُّلَ حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن؛ لأن القوميين غير المسلمين لن يرضَوْا تحكيم القرآن، فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكامًا وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك - كما سلف، وهذا هو الفساد العظيم، والكفر المستبين، والرِّدَّة السافرة"[8].
________________________________________
[1] انظر: الموجز في الأديان ص 111.
[2] تفسير ابن كثير (2 / 72).
[3] ابن القيم، مدارج السالكين 2 / 172.
[4] الجصاص، أحكام القرآن للجصاص: 3 / 181.
[5] ابن تيمية: مجموع فتاوى ابن تيمية: 3 / 367.
[6] ابن تيمية: الصارم المسلول لابن تيمية: 521 - 522.
[7] رسالة "تحكيم القوانين" للشيخ محمد بن إبراهيم بن عبداللطيف آل الشيخ.
[8] رسالة (نقد القومية العربية) للشيخ عبدالعزيز بن باز.

اكتب تعليق

أحدث أقدم