بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فرديرك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
مما لاشك فيه أن الإسلام جاء بمنهج إقامة مجتمع ذي قوة ولحمة، وطوّقه بآصرة مودة مرحمية تكافلية؛ ترعى الحق، وتصون الحرمة، وتجبر الكسر، وترفد الضعيف، كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [التوبة: 71]، وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: « ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى » رواه البخاري. هذا، وإن أجلى صور تلك الآصرة رعي حق الضعيف الذي لا حول له ولا طول في تحصيل حقه وكف الأذى عنه؛ فللضعيف في الإسلام وزن وقيمة، يقوى بها ذلك الضعيف، ويقوى بها من يقوم بأمره. وذاك ما استفتح به الخليفة الراشد أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – منهج سياسته رعيّته مطلع خلافته إذ خطب فيهم قائلاً: "إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه" رواه ابن سعد. وما ذاك إلا لعلمه أن طهارة المجتمع من السوء لا تقوم إلا بذلك النَّصَف، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا يقدس أمة لا يعطون الضعيف منهم حقه" رواه الطبراني وصححه الألباني. هذا وإن من الضعفة الذين شدد الإسلام أمرهم يتيماً مات أبوه ولما يبلغ الحلم، فذاق مرارة فقده، ولوعة فراقه؛ فكان اليتم قرين البكاء، بل ومضرب المثل فيه، كما قالت العرب في مثلها السائر: "لا تعلِّم اليتيم البكاء" و "أبكى من يتيم"!
اليتم شجن سكن قلب ذاك الصغير؛ فكبر همه، وتفاقم حزنه؛ حتى ترحل من قلبه سلوة الطفولة إلا أن يجد راحماً! ترجم لواعج اليتم يتيم ناجى أمه قائلاً:
قال الصغير ودمعه مدرار
أماه أشعر أنني أنهار
الماء أشربه ليبرد غلتي
فكأنما تبريده إسعار
رجلاي خانتني فليس تُقِلُّني
فبقيت مأسوراً ولا أسوار
ها هم رفاقي في الطريق تواثبوا
في خفة فكأنهم أطيار
وحدي بقيت أنا أجرّع غصة
في غصة وبعينيَ استعبار
أماه أين أبي فما حلّت بنا
إذ كان يعمر بيتَنا أضرار
أماه أين أبي وأين حنانه
قد كان نهراً دونه أنهار
لا زلت أذكر كم حبوتُ لحجره
فتلقّفنَّ يداه والأبصار
لا زلت أذكر كيف أضحى راكباً
لي صدرُه وبوجهه استبشار
كم دغدغت خدي يداه وملؤها
حب وعطف غامر فوار
وكأن في رأسي نعومةَ كفه
لم تمحها الأيام والإعصار
أماه قولي أين سار فإنني
ماضٍ إليه فقد جفتني الدار
فتلجلجت أم الصبي وأجهشت
تبكي وتنشج هاجها التذكار
ضمّته للصدر الضعيف وقلبها
في لوعة ودمعها أنهار
اصبر تعلل بالرحيل فما لنا
في الأرض توطين ولا استقرار
لله نشكو ما نعاني إنه
بر رحيم فضله مدرار
!
إن شئتم أن تذرفوا الدمع ساخناً فاذكروا ساعة الاحتضار ودنو الأجل، وتذكروا حال الصبية الصغار والذرية الضعاف الذين يتركهم هذا المحتضر وراءه؛ يخشى عليهم ظروف الحياة، وبلاء الدهر، يتمنى لهم ولياً مرشداً يرعاهم كرعايته، ويربيهم كتربيته، يعوضهم بره وعطفه كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9]. بهذا الشعور المرهف ينطلق المؤمن في تعامله مع اليتيم، كما قال قتادة: " كن لليتيم كالأب الرحيم"، وقال عمرو بن قيس: " كانوا يكرهون أن يعطي الرجل صبيه شيئاً، فيخرجه، فيراه المسكين، فيبكي على أهله، ويراه اليتيم، فيبكي على أهله". خرج ابن صغير لعمر بن عبدالعزيز يلعب مع الغلمان فشجّه صبي منهم، فاحتملوا الصبي الذي شج ابنه وجاءوا به إلى عمر، فسمع الجلبة فخرج إليهم، فإذا امرأة تقول: إنه ابني وإنه يتيم! فقال لها عمر: هوّني عليك، ثم قال لها عمر: أله عطاء في الديوان؟ قالت: لا! قال: فاكتبوه في الذرية. فقالت زوجته فاطمة: أتفعل هذا به وقد شج ابنك؟! فعل الله به وفعل! المرة الأخرى يشج ابنك ثانية! فقال: ويحك! إنه يتيم وقد أفزعتموه. يعامله مستشعراً امتثال أمر الله بالإحسان إلى اليتامى، كما قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى ﴾ [النساء: 36]. ويستصحب في ذلك الإحسان رجاء حسن العاقبة، كما بشَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - كافل اليتيم بقوله: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما شيئاً (رواه البخاري)؛ فلنعم الجار! ولنعم الدار! ويحضه على بذل مزيد الإحسان علمه أنه سبب لنيل الكتاب باليمين، كما قال الله – تعالى -: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴾ [البلد: 12 - 18]. هذا ثواب الآخرة، فما ثواب الدنيا؟
الإحسان لليتيم ذو ثواب معجل في الدنيا مع ما يدخر في الآخرة وإن كان مسحة على رأس؛ فذلك الإحسان سبب للين القلب ونداوة العين، شكا رجل لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – قسوة قلبه، فقال له: "امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين" (رواه أحمد وحسنه الألباني). وضمان النصر والرزق قرين الإحسان لليتيم، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟!" (رواه البخاري). وذلك الإحسان مطهرة للمال، ويغدو به نعمة على صاحبه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل" (رواه البخاري).
وكما ورد ثواب الإحسان فقد جاء شؤم الحرمان إن دُعَّ اليتيم؛ إذ قد نهى الله عنه بقوله: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾[الضحى: 9]. وجعل ذلك علامة جلية على تواري الإيمان، فقال: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴾ [الماعون: 1، 2]. وألحق النبي - صلى الله عليه وسلم - الحرج والإثم بمن قصّر في رعاية حق اليتيم، فقال: «إِنِّي أُحَرِّجُ عَلَيْكُمْ حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ الْيَتِيمِ وَالْمَرْأَةِ» (رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي). ويزداد ذلك الحرج غلظة وشدة إن كان جناية على مال اليتيم؛ فربما أغرى ضعفُ اليتيم ذا القلب القاسي على الاعتداء على ماله، وما علم هذا الظالم أنه ارتكب مهلكة أوجبت لبطنه النار والسعير، يقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: "اجتنبوا السبع الموبقات" (أي: المهلكات)، وذكر منها: "وأكل مال اليتيم" (رواه البخاري ومسلم)، ويقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
وبسماع الفضائل تظهر الفضائل؛ فتسمو همة المرء لمرافقة النبي - صلى الله عليه وسلم – في الجنة بكفالة يتيم، فما حقيقة هذه الكفالة؟ وما طريق الوصول إليها؟ تتحقق كفالة اليتيم بالقيام على شأنه الديني أو الدنيوي، سواء كان الكافل مباشراً أو متبرعاً بالمال لمن يباشر رعاية اليتيم، يستوي في ذلك إن كان اليتيم في بلد الكافل أو خارجه، علم الكافل ذلك اليتيم أو لم يعلمه ؛ فالله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وكلما عظمت حاجة اليتيم ازداد ثواب كفالته، سيما أولئك الأيتام الذين قتل العداة آباءهم في بلاد الإسلام الجريحة ولم يبق لهم ولي يرعاهم!
وثمة أيتام لكنّ آباءهم أحياء، قد تخلو عن واجبهم، وأهملوا تربية فلذات الأكباد
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من همّ الحياة وخلّفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أمّاً تخلت أو أباً مشغولا
أيها اليتيم!
اعلم أن الله - سبحانه - قد ارتضى لك ما ارتضى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. ولتعلم أن اليتم مظنة نبوغ ومسؤولية وعصامية. فكم من يتيم خلّد التاريخ مآثره؟! من لدن محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى حاضر العصر: عبدالله بن جعفر بن أبي طالب، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وعبدالعزيز بن باز - أيتام غدوا أنجماً في سماء المجد؛ فكن واحداً من أولئك الركب الميمون؛ فما أحراك بذلك! وما أجدرك به!
إرسال تعليق