رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن ميزان الخطاب القومي

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن ميزان الخطاب القومي



رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن ميزان الخطاب القومي

بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فرديرك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
مما لاشك فيه أن صفحاتُ التاريخ الحديثِ أثبتت أنَّ الخطابَ القومي أقوى وأغمضُ من أيِّ خطابٍ سياسيٍّ آخرَ، وجوهرُ قوَّته في غموضهِ الذي يستغلُّه أعداءُ القومية، فيَعتَبِرون القوميَّة جهالةً، وتدميرًا، وعدوانًا، وتخلفًا، ورجعية، وهم على حقٍّ إذا انفلتت المشاعر القومية، وتحوَّلت إلى ظلمٍ، أمَّا إذا كانت القومية تَعنِي حبَّ الأمة والوطن والشعب، والتحمُّس لمصالحهم، فجميعُ البشرِ قوميُّون بالفطرة.
أما الأنانية القومية، والإضرارُ بالآخرين والانتقاصُ من حقوقهم، واحتقارُهم بنظرة دونية، فهي التي تُسهِمُ في خلقِ الطُّغَاة، وقد انتقلَ الخِطَاب القومي - بعدَ حروب "نابليون" - من الحيز النظري على الورق، إلى الحيز العملي على الأرض، فخَطَب المستشار النمساوي "مترنيخ" في مؤتمر "فيينا" (1815)؛ لاقتسامِ تَرِكَة "نابليون":
"إنَّ كلمة إيطاليا ما هي إلا مصطلح يُعَبِّر عن مكان جغرافي فقط"؛ محاولاً اختزال القومية الإيطالية، فأَحْيَا الخطاب القومي الإيطالي، ومَنَحت سياسةُ التتريك وتشدُّد الخطاب القومي التركي قوةً وحياةً للخطاب القومي العربي، والعصا السحريةُ "لأتاتورك" وخلفائه، الذين ظلُّوا يَنظُرُون إلى كَرْدِسْتَان باعتبارهم أتراكَ الجبلِ، وافتتحت الإذاعة المصرية عام 1958 قسمًا يبثُّ ساعةً واحدةً باللغة الكردية من القاهرة، فذهبَ السفير التركي إلى الرئيس جمال عبدالناصر؛ ليَنْقُل احتجاج بلاده، فردَّ عليه: "لكنك قبل أيام فقط أخبرتني: لا وجود للكردِ في تركيا، يوجد أتراكٌ يَعِيشون في الجبال، نسمِّيهم أتراكَ الجبل".
وقبل ذلك كانت نظرةُ المجتمع الدولي لحقوق الشعب الكُرْدِي كنظرةِ أوربا - في القرنِ التاسعَ عشرَ - لحركات النِّضَال من أجل الوحدةِ الإيطالية، على أنَّها تمرُّد على الإمبراطورية النمساوية، وعائلة "هابسبورغ" الحاكمة؛ وذلك لأنَّها كانت مشتَّتَة في إمارات وولايات متناحرة، أَنْهَكَها الفقر وسوءُ إدارة حُكَّامها الفَرَنسيين أو النمساويين، وكان العالَم يَعتَقِد جازمًا أنَّ الأمة الإيطالية لا وجود لها؛ لأنَّها كانت في سُبَاتٍ عَمِيق، لم تستيقظ إلا على قَرْعِ طُبُول "نابليون"، فأَسْهَمَ الغزو النابليوني على إيقاظ الروح القومية؛ ولهذا هلَّلَ "هيغل" لاكتساح "نابليون"، رغمَ أنَّ جنوده كادوا يَحْرِقُون مخطوطةَ كتابهِ الأوَّل "فينومينولوجيا الروح"؛ لأنَّه رأى بداية الوحدة الألمانية التي بشَّر بها، وكذلك أجَّجَت الحربُ العالمية الأولى الخطابَ القومي الانفصالي، فانقسمت أوربا ذات الـ"26 دولة" إلى "42 دولة"، بعد انفصال بلغاريا ورومانيا عن إمبراطورية النمسا، واستقلَّت الدول التابعة للإمبراطورية العثمانية، ولم يَسْتَوعِب "هتلر" درسَ الحرب العالمية الأولى، وسببَ إعلانِ الولايات المتحدة الحربَ في (6/4/1917) ضد ألمانيا، التي كانت تُحرِّض المكسيك على ضمِّ ثلاث ولايات أمريكية ضمنَ خطابٍ قوميٍّ عُدْوَانيٍّ، بعدما اقتربت من النصرِ، ونَجَحت في تجويعِ جزيرة بريطانيا بحصار حرب الغوَّاصات، وأَسْهَمت الثورة العربية الكبرى بنتائج عكسية؛ بدلاً من استقلال الدول العربية، وقعت تحت احتلال فَرَنسي بريطاني، وخَسِرت فلسطين، لكن بعضَ رؤساء الدول العربية لم يَفهَمُوا الدرس أيضًا، وبَقُوا مُصِرِّين على خطابهم القومي الجامدِ، حتى نهاية القرن العشرين، وأَعْلَنوا وحداتٍ قوميةً، وخاضوا حروبًا عَبَثيةً مُضحِكة "كعبدالناصر" في حربِ اليمن، و"صدام حسين" في غزوهِ الكويتَ، وفي الوثيقةِ "رقم 39" يُورِد هيكل رسالةَ "جمال عبدالناصر" إلى "عبدالحكيم عامر" بتاريخ (5 كانون الثاني 1960):
"وأنا الآن خائفٌ على نفسي مِنْ أنْ أكفر بالقوميةِ والعروبةِ والوحدةِ؛ لأنَّ هؤلاء الناس قَرَفُوني، كلُّ واحد يشتمُ في الثاني، ويسبه في كل شيء".
وكانت بولندا قد قُسِّمَتْ ثلاثَ مرَّات في الأعوام (1772، 1793، 1795)، وبعد هزيمةِ نابليون، اتَّفقت الدول المنتصرة: (النمسا، بروسيا، روسيا) - في مؤتمر فيينا (1815) - على تقسيم بولندا فيما بينهم، وهكذا فجأةً أضحى البولنديون شعبًا بلا دولة إلى أنْ قامت مملكة بولندا مجددًا عام 1916، لكن في الأول من أيلول 1939، ذُهِلَ العالَم، وامْتَلأ رعبًا شَلَّ تفكيرَه، وهو يرى سقوط العاصمة "وارشو" تحت قسوة ضربات الفِرَق النَّازِيَّة، في غضون ثلاثة أسابيع، شعبٌ يبلغ تَعْدَادهُ "33" مليون نسمة، لم يقاوم عملية سَحْق وَاسِعَة ومدمِّرة، كخردلةٍ تُسْحَقُ بحجرٍ صلب، أربعة آلاف طائرة نازية حديثة، تنقضُّ على ألف طائرة قديمة الطراز، 58 فرقة نازية مشاة آلي، تهاجم 35 فرقة معظمها من سلاح الفرسان، معظمهم يعتمدون الخيول والسيوف، في مساء اليوم العاشر للهجوم انهارَ خط الدفاع البولندي (نارو)، وصارَ أثرًا بعد عين، تبخَّر فخر الدفاعات البولندية، الذي اشترك في بنائه خبراءُ ومهندسون أوربيون.
الجيشان النازي والأحمر اقتسما بولندا، استسلم الجيش البولندي في الشرق للسوفيت، وفي الغرب للألمان أمرَ "ستالين" بإعدام عشرين ألف ضابط بولندي؛ رغبةً منه في إبادة النخبة البولندية؛ ليمحوَ قوميَّة الشعب البولندي، بعد عامين عانى الشعب الروسي ويلات الحرب.
في 13 نيسان 1943 أعلن "غوبلز" وزير دعاية "هتلر" اكتشاف الألمان مقبرة جماعية لعشرين ألف ضابط بولندي أُعدِموا برصاصة في الرأس في غابة كاتين قرب سمولينسك في عمق الأراضي الروسية، استقبل ستالين الجنرال سيكورسكي /Sikorskiـ (1881- 1943)، رئيس وزراء بولندا في المنفى؛ ليشرح وجهةَ نظره، نفى ستالين علمه، وأكَّد عدم وجود هذه الحالات، وادَّعى أنَّ هذه لعبة نازية للإيقاع بين الحلفاء، لكن "سيكورسكي"، لم يَقتَنِع، ففي تاريخ قتلهم، لم تكُنْ ألمانيا قد وَصَلت تلك الأراضي.
في 16 نيسان طلبَ "سيكورسكي" من الصليب الأحمر الدولي إجراء تحقيقٍ، ردَّ "ستالين" بعنف مُتَّهمًا الحكومة البولندية بالخيانة والتعاون مع "هتلر"، وقطعت العَلاقات الدبلوماسية بينهما في 16 نيسان 1943، كشفَ ستالين علنًا أطماعه بالأراضي البولندية حتى خطِّ "كرزون"، وما كانت حكومة المنفَى لتوافقَ على خسارةِ ثلثي أراضي بولندا.
في الرابع من تموز 1943 سقطت طائرة الجنرال "سيكورسكي" في حادثٍ غامض قُبَالة جبل طارق، حين كان عائدًا من تفتيش القوات البولندية، قُتِلَ مع ابنتهِ ورئيس أركانهِ وسبعة آخرين من حاشيته، بعد نصف قرن.
في عام 1992 سلَّم "بوريس يلتسين" الرئيس الروسي وثيقةً تاريخيةً إلى رئيس الحكومة البولندية "ليخ فاليسا" بتوقيع ستالين يأمر فيها بإعدام الضباط البولنديين.
وفي 20 آذار 2003 ذُهِلَ العالَم وامتلأ رعبًا، وهو يراقِب سقوط بغداد، في حرب الأسابيع الثلاثة، شعبٌ يبلغُ تَعدادُهُ ثلاثين مليون نسمة، ينهارُ أمام ضرباتٍ قاسيةٍ ومُدمِّرة وواسعة لثلاثمائة ألف جندي: منهم (250) ألف جندي من الولايات المتحدة الأمريكية، و(45) ألف جندي من المملكة المتحدة البريطانية، و(3500) من كوريا الجنوبية، وألفا جندي من أستراليا، ومائتا جندي من الدانمارك، و(184) جندي من بولندا.
تبخَّر جيش القدس ذو السبعين فرقةً، وسبعة ملايين اسم وهمي، تبخَّرت تبجُّحات القادة العسكريين وتهديداتهم غيرُ الواقعيةِ أمام قائدهم رمز الضرورة، جيشٌ نَخَره السوس والفساد والجوع والفاقة، والتزوير ومن دون غطاء جوي، أحدثُ دبَّابة عراقية "تي 72" الروسية، مصنوعة عام 1975، "تي 62" الروسية سنةُ صُنعِها 1963، "تي 55" صنعت في الخمسينيَّات، ولم يعد هناك جيشٌ يستخدمها، خمسةُ فَيَالِق من الجيش العراقي بمعنويات منهارَة قبل بَدْء المعركة؛ بسبب الفساد الإداري الكبير، وفَيْلَقا حرسٍ جمهوريٍّ دمَّرهما القصف الجوي وكثرة الجواسيس، هكذا كان مآل الخطاب القومي الفارغ، والشعارات الرنَّانة الزائفة، ويُشاعُ أنَّ تشريدَ ضباط الجيش العراقي بعد 2003 جعلَ بعضَهم مُرْتَزقة يُدَافِعُون عن "صالح" في اليمن، أو يدرِّبون بعضَ الجيوش العربية لقمع شعوبهم، أما الذين بَقُوا في الداخل، فيُعَانِي معظمُهم الفقر والحاجة، خاصَّةً أنَّ معظمهم لا يُتْقِنُ عملاً آخر غير الجندية.
وفي 13/5/1924، قال "رامساي ماكدونالد" - رئيس وزراء بريطانيا طبقًا لما جاء في صحيفة التايمز -: "إنَّه يُؤمِن بالقومية إيمانًا لا يتَزَعْزَع، ويَحترم الظروفَ والسمات القومية، وسوف يكون من سوء طالع العالَم أنْ يُقضَى على كل تلك الفوارق بين البشر التي خلقتها التجارب العديدة للأجناس والمذاهب والأجواء المختلفة، والشعور القومي هو احترام الذات، وأكثر الناس احترامًا لأنفسهم هم أكثرُهم احترامًا للغير"[1].
لكنَّ هذا القول يتنافى مع أفعال الإمبراطورية التي لا تَغِيب عنها الشمس؛ بحجَّة أنَّ الشعوب الْمُحتَلَّة لا تستطيع إدارة شؤونها، حجَّة فنَّدَها السير "جون رسل" (1892- 1878) رئيس وزراء بريطانيا - الذي هزمَ المحافظين عام 1846، وترأَّس الحكومة، وكان يَمِيل لحركة (إيطاليا للإيطاليين) - بقولهِ: "الوجه الآخر للسائل: هل تَصلُح هذه الأمة أو تلك لنَيْل حريَّتها؟ هو: هل يصلح السائل أنْ يكون طاغيةً مستبدًّا؟".
واستنادًا إلى قول غاندي: "ليس الهدفُ أن تَصِير أفضلَ من الآخرين، ولكن الهدفَ أن تَصِير أفضل مما كنتَ عليه"، و"إن احتَرمتَنِي سأحترمُك، وإن لم تَحتَرمنِي سأحترمُك؛ فأنا أمثِّلُ نفسي، وأنت تمثِّلُ نفسك".
وكما في قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ﴾ [الإسراء: 84].
وقد لُخِّصَ المبدأُ الأخلاقي كميزانٍ للمشاعر القومية في قوله - تعالى -: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2].
________________________________________
[1] فردريك هرتز- القومية في التاريخ والسياسة- ترجمة عبدالكريم أحمد- المشروع القومي للترجمة- 2009- القاهرة- ص7.

اكتب تعليق

أحدث أقدم