رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن التفاعل بين علم أصول الفقه وعلم النحو

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن التفاعل بين علم أصول الفقه وعلم النحو

 


رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن التفاعل بين علم أصول الفقه وعلم النحو

بقلم \ المفكر العربى الدكتورخالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
الرئيس التنفيذي لجامعة فرديرك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
شهِدت العلوم في مرحلة من المراحل المتقدمة نزوعًا إلى التحدُّد الواضح المعالم، بعد أن كانت مجملةً لا يكاد يظهر بعضها عن بعض؛ حيث ظهرت على الساحة العلمية تخصصات، وبرزت إلى الوجود معها مصنفات، فكان أن شهِدنا منها في علم النحو كتاب سيبويه (ت 180هـ) الذي أكمل به كثيرًا من أُسس علم النحو، وهو عمدة النحاة ومأخذهم في تصانيفهم، كما شهِدت المرحلة ظهور أول كتاب في أصول الفقه وهو "الرسالة"؛ للإمام الشافعي (ت179هـ) الذي ألَّفه على أُسس متينة، اعتمد فيها على الأسلوب اللغوي الواضح، مع حُسن الترتيب والتنظيم، والفصاحة في التعبير، ولا غرابة في ذلك، فقد انكب - رحمه الله - ما يقرب من العشرين سنةً على دراسة علم العربية في معاقلها الأولى.
وحيث إن علم أصول الفقه إنما هو علم أدلة الفقه، وأدلة الفقه إنما هي الكتاب والسنة، وهذان المصدران عربيان، فإذا لم يكن الناظر والمستنبط فيهما عالمًا باللغة وأحوالها، محيطًا بأسرارها وقوانينها - تعذَّر عليه النظر السليم فيها، ومن ثم تعذَّر استنباط الأحكام الشرعية منها، ولذلك صار النحو شرطًا في رتبة الاجتهاد [1].
وبسبب موقع النحو وتصدُّره الرتبة السنية في العلوم، صنِّف ضمن الثلاثة التي تكوِّن علم الأصول، ويستمد منها مادته؛ قال الآمدي (ت 631 هـ): "وأما ما منه استمداده - أي: علم أصول الفقه - فعلم الكلام، وعلم العربية، والأحكام الشرعية" [2].
كما عرض أهل الأصول ومنهم الآمدي إلى الاسم والفعل وأقسامهما، والحروف وأنواعها، والمعاني التي تؤديها، ونحو ذلك من المباحث النحوية التي لا غنى للأصولي عنها [3].
لكن غاية المطاف أن التطرُّق لهذه الموضوعات والبحث الذي شملها في جانبه الأصولي، نلحَظ أن ذلك لم يتعد جانب النظر والاستدلال البعيد عن الممارسة الفقهية التطبيقية التي تعرفها كتب اللغة والنحو؛ حيث تتحول بسرعة إلى عمل فقهي جاد، تسهم في حل المسائل الفقهية المستعصية وَفقًا لمقتضيات النحو وقواعده المؤسسة عليه، ويتم كل ذلك بالاعتماد على التخريج الفقهي الذي يمارسه الفقهاء في اجتهاداتهم المستمرة.
وكذلك أدرك النحاة خصوصية العلاقة بين النحو والفقه، وتأثير أحدهما في الآخر؛ لذا نستطيع أن نتبين ملامح هذا التأثير في الدرس النحوي من خلال مقولة ابن الأنباري (ت 577 هـ) في مقدمة كتابه: (الإنصاف في مسائل الخلاف)؛ إذ يقول: "وبعد، فإن جماعةً من الفقهاء المتأدبين، والأدباء المتفقهين المشتغلين عليّ بعلم العربية.. سألوني أن أُلخص لهم كتابًا لطيفًا، يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويي البصرة والكوفة، على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة (ت 150 هـ)؛ ليكون أول كتاب صنف في علم العربية على هذا الترتيب..."[4].
وهذا السيوطي (ت 911 هـ) يقول في خطبة (الاقتراح في أصول النحو): "هذا كتاب غريب الوضع... في علم لم أُسبق إلى ترتيبه، ولم أُتقدَّم إلى تهذيبه، وهو أصول النحو الذي هو بالنسبة إلى النحو كأصول الفقه بالنسبة إلى الفقه"[5].
إن العلاقة بين أصول الفقه وأصول النحو تكاد تتشابه وتتداخل؛ نظرًا للوحدة الاصطلاحية التي يدور حولها هذان العلمان، فإذا كان علم الأصول موضوعه "علم أدلة الفقه"، وإذا كان الفقهاء قد قسموا الحكم الشرعي إلى واجب وحرام، ومندوب ومكروه، ومباح ووضعي[6]، فكذلك ذهب النحويون في تقسيمهم للحكم النحوي، فهو عندهم واجب، وممنوع، وحسن، وقبيح، وخلاف الأولى، وجائز على السواء [7].
وإذا كانت أدلة الفقه الرئيسة التي عليها مدار الدليل هي النقل "الكتاب والسنة والإجماع "، وكذا القياس، فإن أدلة النحو الأساسية تنحصر هي بدورها في النقل والإجماع والقياس، وعند بعضهم استصحاب الحال [8].
وقد وقع الاختلاف بين النحاة في إثبات الاستحسان أو عدم إثباته، الأمر نفسه ناقَشه أهل الأصول، فمنهم مَن اعتبره، وهم الأكثر، واختار بعضهم إبطاله[9].
ويتركز التشابه بين علم أصول الفقه وعلم النحو بصورة خاصة في مبحث القياس كما مر، فضلًا عن التشابه في مصطلحات تقسيم الحكمين الشرعي والنحوي، وأدلة الفقه والنحو الرئيسة، وتجدر الإشارة إلى أن صلة النحو بالفقه وأصوله صلة ذات شِقين [10]، شِق تظهر فيه مقولات النحاة في أصول النحو محمولةً على أصول الفقه، ولعل ابن جني (ت 392 ه) أول من أشار إلى الصلة القوية بين أصول الفقه وأصول الكلام، وبين أصول النحو في كتابه "الخصائص" في: نوع علل العربية، وجواز القياس، وتعارض السماع والقياس، والاستحسان، وتخصيص العلل، ومن ذلك قوله: "اعلم أن علل النحويين - وأعني بذلك حُذَّاقهم المتقنين، لا ألفافهم المستضعفين - أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين"[11].
وقد عبَّر عن ذلك الأستاذ سعيد الأفغاني (ت 1997م )، مبينًا أثر مناهج العلوم الدينية على مناهج النحو، فقال: "إن علماء العربية احتذوا طريق المحدثين؛ من حيث العناية بالسند، ورجالاته، وتجريحهم، وتعديلهم، وطرق تحمُّل اللغة، وكانت لهم نصوصهم اللغوية، كما كان لأولئك نصوصهم الدينية، ثم حذوا حَذْو المتكلمين في تطعيم نحوهم بالفلسفة والتعليم، ثم حاكوا الفقهاء أخيرًا في وضعهم للنحو أصولًا تشبه أصول الفقه، وتكلَّموا في الاجتهاد كما تكلم الفقهاء، وكان لهم طرازهم في بناء القواعد على السماع، والقياس، والإجماع، وذلك أثر واضح من آثار العلوم الدينية في علوم اللغة "[12].
________________________________________
[1] يُنظر: الكوكب الدري؛ للإسنوي (ص 42) مقدمة المحقق.
[2] ينظر: الإحكام في أصول الأحكام؛ للآمدي؛ تحقيق: الشيخ عبدالرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1402هـ (1/ 12).
[3] الإحكام؛ للآمدي (1/ 16-70).
[4] الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين؛ لأبي البركات الأنباري، دار الفكر، دمشق.
[5] الاقتراح في علم أصول النحو؛ لجلال الدين السيوطي؛ تحقيق: د. محمود سليمان ياقوت، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1426هــ/ 2006م.
[6] ينظر: الحكم الشرعي عند الأصوليين؛ لحسين حامد حسان، دار النهضة العربية، القاهرة، 1972م (ص65).
[7] ينظر: الاقتراح في علم أصول النحو؛ للسيوطي (ص 10-11).
[8] ينظر: لمع الأدلة في أصول النحو؛ لابن الأنباري؛ تحقيق: سعيد الأفغاني، ط الجامعة السورية، 1956م، (ص 80)، والاقتراح؛ للسيوطي (ص 4، 83).
[9] لـم ينكر الشافعي العمل بالاستحسان الشرعي؛ كما هو المشهور عنه، بخلاف من نسب إليه ذلك، وأما ابن حزم (ت 456هـ)، فقد اشتَهر عنه إبطال القياس والرأي، والاستحسان التقليد والتعليل، أما الاستحسان عند النحاة، فقد اعتبر ابن جني أن علته ضعيفة غير مستحكمة، إلا أن فيه ضربًا من الاتساع والتصرف؛ ينظر: الرسالة؛ لمحمد بن إدريس الشافعي، دراسة وتحقيق: أحمد شاكر، مكتبه الحلبي، مصر، الأولى، 1358هـ/ 1940م (ص 503-517)، والخصائص؛ لابن جني؛ تحقيق: محمد علي النجار، عالم الكتب، بيروت (1/ 133-137)، والاقتراح؛ للسيوطي (ص76)، والكوكب الدري، مقدمة المحقق(ص50).
[10] الكوكب الدري؛ للإسنوي، مقدمة المحقق (ص146 ).
[11] الخصائص؛ لابن جني (1/ 48)، وينظر: (1/ 49-96)، و(1/ 115-200).
[12] في أصول النحو؛ لسعيد الأفغاني، ط الجامعة السورية، دمشق، 1964م (ص 104).

اكتب تعليق

أحدث أقدم