رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الصادق الأمين

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الصادق الأمين



رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن الصادق الأمين

بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فرديرك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
مما لا شك فيه أن تراب الجاهلية لم يكن مستسلمًا لمخدر الضياع كل الاستسلام، راضيًا كل الرضا عن هذا الهمود المنحرف الذي يسود الحياة في الجزيرة العربية، التي تمثِّل "أخلاق الفطرة" أبرز ملامحها، مع كثير من صور الانحراف بالفطرة، وصولاً بها إلى مستوى البداوة والأخلاق الطبيعية الخشِنة.
ولم يكن لدى الفرس أو الروم دينٌ صحيح شامل، عالمي قوي مؤثر، لقد كان الدين بالنسبة إليهما جزءًا من ملامح الشخصية الحضارية، وعنصرًا واحدًا من عناصر القومية، ولم يكن في ظلِّ انحدارهما وانحرافهما حضارة كاملة تحدِّد هي التعامل مع الأشياء، وتُضفي على القِيَم لونها الخاص.
وهكذا كان اليهود يتعصبون لدينهم تعصبًا قوميًّا محدودًا قاصرًا، وكانت القبائل العربية تنظر إلى الدين نظرتها إلى عنصر من عناصر التراث، يقولون في مجال رفْضهم لمناقشة أبعاد العقيدة الجديدة: ﴿ بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 74]، ويهدِّدون مَن يسلم قائلين له: "تركت دين آبائك، لنُسَفِّهنَّ حلمك.. إلخ"، فهو - أي: الدين - في تصوُّرهم ليس أكثر من قيمة من قِيَم التراث الذي ورِثوه عن الآباء والأجداد، وهو غير مؤثر في الحياة الاجتماعية والفكرية لهم إلا في هذه الحدود.
وتؤكد لنا قصص الحنفاء والباحثين عن دينٍ حق، تلك التي برزت في غير واقعة من وقائع جاهلية الجزيرة العربية الأولى، تؤكد لنا هذه القصص - في مضمونها الأخير - حالة عدم الرضا، الذي كان يَقبَع خلف تراب الجزيرة الذي كان يبدو هادئًا.
كما تصوِّر لنا هذه القَصص مدى القلق والتيه النفسي والفكري، الذي كان يُهيمن على العقلاء في أرجاء الجزيرة؛ إن ابن هشام يحدثنا عن ابن إسحاق في ذكر عيد من أعياد قريش، وما كان من أمر بعض الحائرين، فيقول:
"واجتمعت قريش يومًا في عيدٍ لهم عند صنمٍ من أصنامهم، كانوا يعظمونه، ويَخِرُّون له، ويعكفون عنده، ويديرون به، وكان ذلك عيدًا لهم في كل سنة يومًا، فخلَص منهم أربعة نفر نجيًّا، ثم قال بعضهم لبعض:
تصادقوا، وليَكتُم بعضكم على بعض!
قالوا: أجَل، وهم: ورقة بن نوفل، وعبيدالله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل.
فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء! لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم! ما حجرٌ نظيف به لا يسمع ولا يُبصر، ولا يضر ولا ينفع! يا قوم، التمسوا لأنفسكم دينًا، فإنكم والله ما أنتم على شيء!
فتفرَّقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية (دين إبراهيم)".
ويواصل ابن إسحاق تتبُّعه للمسيرة الفكرية لهؤلاء، وما وصلوا إليه في رحلة بحثهم عن الحقيقة:
"فأما ورقة بن نوفل، فاستحكَم في النصرانية"، وكان من أمره في بداية الإسلام - مع رسول الله (عليه الصلاة والسلام) - ما يعتبره البعض دخولاً في الإسلام.
"وأما عبيدالله بن جحش، فقد استبدَّت به موجة الضياع، فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلَم، ثم هاجر إلى الحبشة، فلمَّا قدِمها تنصَّر حتى هلَك نصرانيًّا".
"وأما عثمان بن الحويرث، فقدِم على قيصر، فتنصَّر وحسُنت منزلته عنده".
"وأما زيد بن عمرو بن نفيل، فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزَل الأوثان، والميتة، والدم، والذبائح التي تُذبح على الأوثان، ونهى عن قتل المَوْءُودة، وقال: أعبد ربَّ إبراهيم: وبادى قومه بعيب ما هم عليه، ثم مات قبل أن يظهر الإسلام.
وفي وسط هذا الضياع والترقب من كثيرٍ من النابهين، وفي بطحاء مكة؛ حيث البقعة الوسط من العالم، وحيث المركز والقلب منه، نشأ محمد - عليه الصلاة والسلام - أفضل ما تكون النشأة والمولد؛ استجابة من الله لحاجة إنسانية مُلِحة تنقذ قطار البشرية الآيل للخروج عن قضبانه الإنسانية.
لقد نشأ (محمد) أُميًّا، وعاش أُميًّا بين قوم أُميين، مجردين من أي رصيد ثقافي، أو أية خلفية حضارية مؤثرة، والقرآن يوضح هذه الحقيقة بجلاء؛ ﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الجمعة: 2].
وأُميته وظهوره بين قوم مغرقين في الأُمية، حِكمتان من حِكَم الله - سبحانه - حتى تكون معجزة النبوة والشريعة الإسلامية واضحة في الأذهان، لا لبْسَ بينها وبين الدعوات البشرية المختلفة.
ذلك أن الرِّيبة كان في الإمكان أن تدخل صدور الناس، إذا ما رأوا النبي - عليه الصلاة والسلام - متعلِّمًا مطلعًا على الكتب القديمة، وتاريخ الأمم البائدة، وحضارات الدول المجاورة، كذلك يخشى من دخول هذه الريبة إذا ما ظهرت الدعوة الإسلامية بين أُمة لها شأن في الحضارة والمدنية، والفلسفة والتاريخ؛ كدولة الفرس، أو اليونان، أو الرومان، إذ رُبَّ مرتاب مُبطل، يزعم أن الدعوة حصاد سلسلة من التجارب الحضارية والأفكار الفلسفية التي تطوَّرت وانتهت إلى مثل هذه الحضارة الفذَّة، وهذا التشريع الكامل.
وكما اختاره الله - سبحانه - من مكة قلب العالم، وكما اختاره أُميًّا من أمة مُغرقة في الأُمية، كذلك اختاره - سبحانه - من خلاصة سلسلة نسَبيَّة لا لبْسَ فيها، ولا غموض حولها، ولا طعْنَ في صفائها وطهارتها، فهو - عليه السلام - كما تحدث عن نفسه في الحديث الذي رواه مسلم بسنده عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
((إن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى هاشمًا من قريش، واصطفاني من بني هاشم)).
وهو من جهة أبية محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، ويُدعى شيبة الحمد بن هاشم بن عبدمناف.
أما من جهة أُمه، فأمه آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة.
لقد ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعالم كله يتخبَّط في دياجير الظلام، ينتظر المنقذ، وكانت كل الإرهاصات تومئ بوضوح إلى أن نبيًّا سيظهر قد حان مولده.
وعندما بلغ محمد - عليه السلام - سنَّ الأربعين، بدأ جبريل ينزل عليه بالقرآن الكريم.
والقرآن - بحد ذاته - هو الدليل الأكبر على صدق نبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - والقرآن مع أنه يحمل دليل ألوهيَّته وربانيَّته معه، فإنه يحمل معه دليل نبوَّة الموحى إليه به.
والقرآن نزل منجَّمًا (مُقَسَّطًا) عبر ثلاثة وعشرين عامًا، وهو بهذا التنجيم الذي يعالج الحياة في دورة من دوراتها تبلغ ثلاثة وعشرين عامًا، كافية لتحقيق القدوة والأسوة لموكب التاريخ البشري كله في سائر أطواره وتقلُّباته.
وهذا التنجيم بتلك الفائدة التي حقَّقها للتاريخ البشري، يمثِّل إعجازًا في حد ذاته، "فلو أن القرآن كان قد نزل جملة واحدة، لتحوَّل سريعًا إلى كلمة مقدسة خامدة، وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية، لا مصدرًا يبعث الحياة في حضارة وليدة، فالحركة التاريخية والاجتماعية والروحية، لا سرَّ لها إلا في هذا التنجيم".
ومع هذا التنجيم عبر هذا المدى الزمني المتطاول، تتجلى المعجزة أيضًا في تلك الوحدة التشريعية والتاريخية والفنية التي يمتاز بها القرآن الكريم، بحيث يبدو وكأنه نسَقٌ واحد يرتفع فوق تموُّجات الزمن، بل كأنَّ عهده بالوجود أمس (كما قال أحد المستشرقين)!
هذا القرآن كما ذكرنا هو أبرز وأقوى أدلة صدق الوحي، وصدق نبوة محمد - عليه السلام.
ومن أدلة صدقه - عليه السلام، وأدلة صدقه كثيرة - تاريخه كله، تاريخه بين أعدائه وأصحابه، فهو الصادق الأمين، وعلى الرغم من افتراءات أعدائه الكثيرة، فإن أحدًا منهم لم يَطعُن في صِدقه، بل كان الصدق علَمًا عليه.
وبعد أن تلقَّى الرسولُ الوحي، دعا أصحابه المقربين إلى الإسلام - في مرحلة الدعوة السرية إلى الإسلام - وكان أكثر مَن استجابوا له، إنما استجابوا بسبب ثِقتهم في صدقه وخُلقه!
وزوجات الإنسان هنَّ أقرب الناس إليه، وأكثرهنَّ معرفة به، وما وجد أحد كان موقرًا محبوبًا من زوجاته مثل محمد - عليه السلام - ولو كان ثمة ثغرة في دعوته، لأمكَن لزوجاته كشْفها؛ سواء على مستوى النظر، أم السلوك.
وخادمه الخاص أنس الذي كان آخر الصحابة موتًا، والذي مات سنة (84هـ)؛ أي: إنه عاش بعد الرسول أكثر من سبعين سنة، فهل غير أنس هذا رأيه في الرسول طوال هذه الفترة؟ أم أنه كان يبكي إذا ذكر اسم الرسول أمامه؟، ولـه فيه شهادات لم توجد إطلاقًا من خادم لمخدومه!
ونبوَّته - عليه السلام - تَثبُت وتتألَّق من زاوية أخرى إذا ما استعرضنا تركيبة حياته - عليه السلام.
فقد ألِف الناس - على امتداد التاريخ وتقلُّب المجتمعات والمقاييس - أن يروا كثيرًا من الناس يكافحون في صدر حياتهم؛ كي يصلوا إلى مركز مرموق، أو مستوى راقٍ من الحياة الاقتصادية والاجتماعية، أو السياسية، أو الفكرية، فإذا ما صلوا إلى ما أرادوا، تبدَّلت حياتهم، حتى وإن حافظوا على بعض سجاياهم الخُلقية، فالمجتمع لا ينكر عليهم ذلك، بل يعتبره حقًّا طبيعيًّا، وثمنًا عاديًّا لرحلة الكفاح.
فالقائد السياسي أو العالم الكبير، أو مدير الجامعة، من الطبيعي - في العُرف الاجتماعي - أن يسكن بيتًا، أو يلبس لباسًا، أو يركب سيارة، أو يأكل طعامًا، كلها من نوع مختلف تمامًا عن حياته الأولى، والمجتمع لا ينكر هذا السلوك إذا كان مصدره مشروعًا، بل إنه يعتبره ثمرة من ثمار الكفاح، وحقًّا من حقوق الانتصار في معركة الطموح! لكن التاريخ لم يشهد عظيمًا من العظماء - في غير مستوى النبوة الكريمة - تَنسجم حياته وتتوازن في مستوى واحد، وكأنها نهر هادئ لا تُعكِّر مسيرته أعاصيرُ الثراء ولا عواصفُ الفقر، ولا امتحانات الاضطهاد والقلق، ولا امتحانات الظَّفر والانتصار، فليس هناك تغيُّر في المستوى الفردي أو الاجتماعي، بل هناك رضًا تام "بالمستوى الأقل" من الحياة الاقتصادية، وحبٌّ عارم للحياة مسكينًا، والموت مسكينًا.
• والفراش نفسه المكوَّن من حصير يؤثِّر في جَنبه، هو نفسه الذي كان ينام عليه قبل الهجرة والفتح وبعدهما.
• والطعام نفسه الذي كان يأكله - كمًّا وكيفًا - هو نفسه الذي كان يأكله قبل الهجرة والفتح وبعدهما.
• واللباس نفسه هو اللباس نفسه.
فعلامَ إذًا كان يقطع - عليه الصلاة والسلام - رحلة الحياة الحافلة بالصور المعروفة من الجهاد المتواصل؟!
إنه لم يكن يقطعها من أجل غاية دنيوية أو ذاتية، اقتصادية أو اجتماعية، ولا لأيَّة غاية من غايات هذه الدنيا، وإنما كان يقطعها لغاية واحدة، هي تبليغ الرسالة، وأداة الأمانة؛ استجابةً لنداء الوحي؛ لكي يصل يومًا ما إلى مخاطبة جموع الحجيج (في حَجة الوداع) قائلاً:
• ألا هل بلَّغت؟ فيقول الجميع: نعم، فيقول: ((اللهمَّ فاشْهَد))!
ولا يَلبث محمد - الذي أشهَد الناس على أداء الأمانة - أن يذهب إلى ربِّه، دون أن يأخذ من هذه الدنيا لنفسه أيَّ حظٍّ، فكأنه إنما جاء للأمانة، وللأمانة وحدها، ذلك الصادق الأمين.
(عليه الصلاة والسلام).

اكتب تعليق

أحدث أقدم