رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن وظيفة الشعر في التراث الأدبي

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن وظيفة الشعر في التراث الأدبي



رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن وظيفة الشعر في التراث الأدبي

بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فرديرك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
مما لا شك فيه أن النقد الأدبي عند العرب امتزج بتراثهم الشعري، إذ لم يحظ فن من فنون الإبداع القولي عند العرب مثلما حظي الشعر رواية ودراية، وهذا ما يفسر انفراد الشعر دون غيره من الفنون والآداب بالذكر في القرآن الكريم؛ فالشعر هو الوسيلة التعبيرية الأولى التي ينافح الشاعر بها عن القبيلة، ويخلد مآثرها ويبث مفاخرها، يقول ابن خلدون:
"اعلم أن فن الشعر بين الكلام كان شريفاً عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم، وشاهد ثوابهم وخطئهم، أصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم، وكان رؤساء العرب منافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده، وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر، لتمييز حوله حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت إبراهيم"(1)، وكانوا يتخذون فن الشعر وسيلة للتقرب إلى الله في موسم الحج، فيلبون بأشعار معينة، وهم يطوفون حول الكعبة(2).
ولما كانت قريش تحتل الزعامة الدينية والتجارية للعرب كان من الطبيعي أن تكون هي ـ أيضاً ـ العاصمة الثقافية لهم، مستفيدة من المواسم الدينية والمحافل التجارية، "ويُنقل عن حماد الراوية قوله: إن العرب كانت تعرض شِعرها على قريش؛ فما قبلوه منها كان مقبولا، وما ردوه منها كان مردودا، فقدم عليهم عَلقمة بن عبدة، فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:
هل ما علمتَ وما استُودعتَ مكتوم؟
فقالوا: هذه سِمط الدهر، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم:
طَحَا بكَ قلبٌ في الحسان طروب *** بُعيد الشباب عصر حان مشيبُ
فقالوا: هاتان سِمطا الدهر"(3).
وربما يفسر لنا هذا لماذا كانت تعلق قصائد دون أخرى على الكعبة، وكأن ما كانت تُجيزه قريش وترتضيه يوضع على الكعبة، بينما ما لم تقبله وترده لا تمنحه هذه المكانة الرفيعة.
فلا غرو أن ينشأ في رحاب هذه الزعامة الثقافية وأحضان هذه البيئة الأدبية التي تعشق الكلمة المعبرة، والعبارة النابضة، والتي تطرب بالقافية الرشيقة، والقصيدة الرقيقة، فسماع الشعر ـ إن لم يكن قرضه ـ جبلة جبل الله - تعالى -عليها العرب، وسليقة يقدح بها زند أفكارهم، فيجري على ألسنتهم بيسر وسهولة، يدركون جمالياته، وآلياته.
"ومن هنا كان تأثر محمد بالشعر، وعنايته به، واستماعه له، شأنه في ذلك شأن أي عربي آخر، إذ لا تناقض بين رسالة الوحي وبشرية الرسول من حيث استجابته للشعر (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلى) وقد كان قبل النبوة يحضر مع والدته سوق عكاظ ليسمع الشعر، فقد روى أنه سمع الشاعر عمرو بن كلثوم وهو بعكاظ ينشد معلقته المشهورة، وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي: كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير من الكلام "(4).
ومما يؤكد حب النبي لسماع الشعر ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأحمد وغيرهم عن عمرو بن الشريد قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم – خَلفَهُ، ثم قال: (( هل معك من شعر أمية ين أبي الصَّلت شيء؟ فقلت: نعم، فقال: هيه - يعني هات - فأنشدته بيتاً فقال: هيه، فأنشدته وهو يقول هيه حتى أنشدته مئة بيت)).
في ذات الوقت يسأل عن الشعر وماهيته، يقول لعبد الله بن رواحة: (( ما الشعر؟ فيقول ابن رواحة: "شيء يختلج في صدر الرجل فيخرجه على لسانه شعرا))(5)، وفي رواية أخري يسأل عن التجربة الشعرية وكيفيتها عند الشاعر فيقول لابن رواحة: (( كيف تقول الشعر إذا أردت أن تقول؟!)) ولذلك كان أدق فهما، وأكثر إدراكا لمقاصد الشعراء، بصيرا بالمعنى، خبيرا بالمبنى، يقدر الأسلوب الفني ويعرف خطره وقوة تأثيره في النفوس، كيف لا؟! وهو القائل: (( إنِّي أُوتيتُ جوامعَ الكَلِمِ وخواتمَهُ، واختُصِرَ لي الكلام اختصارًا))(6)، والقائل ـ أيضا ـ: (( أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش))(7).
أظن أنه من نافلة القول الإشارة إلى موقف النبي من الشعر، ففي حديثه مندوحة عن كل اجتهاد أو تأويل، حيث يقول في الحديث الذي رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني: (( الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام))(😎.
بل إن الله - تعالى- يرفع من شأن الشعر والشعراء في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، حيث "أخرج الديلمي عن ابن مسعود مرفوعًا: الشعراء الذين يموتون في الإِسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعرًا تتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة، والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار"(9).
فالأحاديث المتواترة تؤكد على تقديره للشعر و تشجيعه للشعراء على إبداعه ونظمه، وما ورد في القرآن الكريم أو الأحاديث الشريفة من ذم للشعراء أو بعض أنواع الشعر فهو في سياق الدفاع عن القرآن الكريم ونفي كونه شعرًا كما يزعمون، ومن ثم نفي كون الرسول شاعرًا كما يدعون، وهذا ليس فيه ما ينال من قيمة الشعر أو يدعو إلى الانصراف عنه، وهذا ما أشار إليه أبو هلال العسكري حين قال: "واستثناء الله - عز وجل - في أمر الشعراء يدل على أن المذموم من الشعر إنما هو العدول من جهة الصواب إلى الخطأ، والمصروف من وجهة الإنصاف والعدل إلي الظلم والجور، وإذا ارتفعت هذه الصفات ارتفع الذم، ولو كان الذم لازما لكونه شعرا ما جاز أن يزول على حال من الأحوال"(10).
وعند مطالعة كتب التفسير تجد التأييد السماوي لشعراء الإسلام الذين اتخذوا من اللغة الصادقة، والكلمة الصاعقة؛ سبيلا للانتصار للإسلام ودعوته، قرآنا ورسولا، أمثال عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك - رضي الله عنهم - جميعا، فاستثناهم الله - تعالى -من الذم حين قال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء: 227)؛ بعد أن ذم شعراء الكلمة الفاحشة، والعبارة القادحة، التي اتخذت من الصد عن سبيل الله والافتئات على الدعوة الربانية دينا وديدنا، أمثال عبد الله بن الزبعري ـ قبل إسلامه ـ وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومسافع بن عبد مناف، وأبو عزة الجمحيّ، أمية بن أبي الصلت فوصفهم بالغواية والكذب، فقال عز من قائل: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) (الشعراء).
"وربما يحسن أن نذكر هنا أن موقف الإسلام من الشعراء جاء ردّ فعلٍ من الإسلام، بصرف النظر مؤقتا عن الفن الشعري في ذاته، ذلك أن الشعراء كانوا وسيلة تعبير ذائعة ووسيلة تأثير مؤكدة، وقد عارضوا في مكة الدعوة وهي ما تزال في مهدها، وانتشار شعرهم في النّيل منها يعني إغلاق الأسماع دونها وتنفير الآخرين من التعرف عليها"(11).
هنا يتبادر للذهن سؤال ما هي وظيفة الإبداع/الشعر في الإسلام؟ هل الغاية من الإبداع/ الشعر المتعة والتسلية فقط؟ أم الغاية منه رسالة تعليمية أخلاقية؟ أم لا هذا ولا ذاك؟.
أدراك النبي قيمة الشعر عند العرب وأثره في النفوس والعقول، كما أدرك خطورته باعتباره جهازاً إعلامياً واسع الانتشار والتأثير في الجزيرة العربية، تلك القيمة التي كان يدركها كل عربي ينطق الضاد آنذاك، حتى أنهم كانوا يهنئون أنفسهم عندما ينبغ فيهم شاعر يذود عن حوضهم ويذب عن عرضهم يقول ابن رشيق في العمدة: "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء يلعبن بالمظاهر كما يصنعون في الأعراس، ويباشر الرجال والولدان أنه حماية لأعراضهم، وذب عن حسابهم، وتخليد مآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تنتج"(12).
فالمهمة الحقيقية للشاعر والوظيفية الرئيسية للشعر ـ قبل المتعة والتسامر واللهو ـ هي التفاعل مع قضايا القبيلة/ المجتمع والتعبير عنها بصدق فني، وهو ما نسميه في الدراسات النقدية الحديثة بمذهب الالتزام، "ولعل خير ما يلخص حقيقة الأمر أن يقال أن الالتزام هو الجانب الإيجابي من علاقة متبادلة بين الشاعر والمجتمع، وهي ليست علاقة أخذ أو عطاء ولا علاقة انصهار أو ذوبان، وإنما هي علاقة تطابق"(13).
وتبدو قضية الالتزام جلية في دعوة النبي لشعرائه حينما دعاهم للتصدي لشعراء قريش، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ (( اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ))، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ: (( اهْجُهُمْ))، فَهَجَاهُمْ، فَلَمْ يُرْضِ، فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ حَسَّانُ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الأَدِيمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (( لاَ تَعْجَلْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا - وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نَسَبًا - حَتَّى يُلَخِّصَ لَكَ نَسَبِى))، فَأَتَاهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ لَخَّصَ لِي نَسَبَكَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعَرَةُ مِنَ الْعَجِينِ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لِحَسَّانَ: (( إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ لاَ يَزَالُ يُؤَيِّدُكَ مَا نَافَحْتَ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ))، وَقَالَتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: (( هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى))(14).
وفي قوليه : (( اهجُوا)) و (( مَا نَافَحْتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ)) دلالة صريحة وإشارة بينة لتوظيف الشعر لقضايا المجتمع وهموم الوطن، وتتضح أكثر هذه الوظيفة القومية في رواية أخرى للحديث جاء فيها أنه’’قال للأنصار ما يمنع القوم الذين قد نصروا رسول الله بسلاحهم وأنفسهم أن ينصروه بألسنتهم‘‘(15)؛ ولكن الملاحظة المهمة والتي تجدر الإشارة لها في الحديث عبارتي "فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ" و (( هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى)) فيا تُرى لماذا لم يُرضِ ابن رواحة؟ بينما شفى واشتفى حسان؟
تتجلى الإجابة في قول حسان ’’وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لأَفْرِيَنَّهُمْ بِلِسَانِي فَرْيَ الأَدِيمِ‘‘ فحسان يعرف أن الخطاب الشعري له أسس ومعايير فنية تختلف عن معايير ومقاييس الخطاب المتداول، وأن هناك ثمة بون شاسع بينهما، ولإدراك النبي للمعايير الفنية للقصيدة الشعرية وقتئذ، يطلب من حسان أن يتجه إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - ليعلم نسب قريش، وأيامهم، وما لهم وما عليهم، ’’فكان يمضى إلى أبي بكر ليقفَه على أنسابهم فكان يقول كُف عن فلانة وفلانة واذكر فلانة وفلانة فجعل يهجوهم فلما سمعت قريش شعر حسان قالوا هذا الشعر ما غاب عنه ابن قحافة‘‘(16).
وفي سؤال النبي لشاعره عبد الله بن رواحه دليل دامغ على إدراك النبي لطبيعة الشعر المغايرة لسائر فنون اللسان العربي الأخرى: كالحكمة، والخطابة، والمثل،...إلخ، وخصائصه المتمايزة عنها؛ حيث سأل - عليه أفضل الصلاة والسلام - عن التجربة الشعرية، وكيف تعتمل في نفس الشاعر، وكيف يمكن الشاعر أن يصوغها في قالب شعري وفني ـ لا قالب نظمي ـ لذا يسأل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ: (( مَا الشِّعْرُ؟ قَالَ: شَيْءٌ يَخْتَلِجُ فِي صَدْرِ الرَّجُلِ فَيُخْرِجُهُ عَلَى لِسَانِهِ شِعْرًا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا الْآنَ؟ قَالَ: فَنَظَرَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: نَعَمْ))
إِنِّي تَوَسَّمْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نَافِلَةً *** وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ
ثَبَّتَ اللَّهُ مَا أَتَاكَ مِنْ حَسَنٍ *** تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
يَا آلَ هَاشِمٍ إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَكُمْ *** عَلَى الْبَرِيَّةِ فَضْلا مَا لَهُ غِيَرُ "(17).
وإن كان في دعوة النبي إلى توظيف الشعر في خدمة قضايا الأمة الوليدة، دعوة إلى الالتزام، فإنه التزام بالمبادئ التي يؤمن بها الشاعر نفسه، والقيم النابعة من وجدانه ذاته، ذاك الشاعر المهموم والذي يرى في نفسه أنه صاحب رسالة جمالية وفكرية في آن، فيحقق المتعة الفنية والقيم الإنسانية معًا.
من هذا المنطلق لم يعارض النبي ـ من جهة أخرى ـ دور الشعر في تحقيق المتعة الفنية والتسلية الراقية والتسامي بالنفس البشرية، والإشباع الروحي باعتباره صورة من صور الوظيفة الشعرية، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: "جَالَسْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَرَّةٍ فَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ وَيَتَذَاكَرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ سَاكِتٌ فَرُبَّمَا تَبَسَّمَ مَعَهُمْ"(18).
انظر لقول جابر يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وما يحمله من دلالات وإشارات لما في هذا الشعر من جاهلية، قد تختلف مع ثقافة المجتمع الإسلامي الجديد، بيد أن فيها ما يشبع النفس من لذة فنية، "كان في مسيرِ له، فقال لابْنِ الأكْوَع: أَلاَ تنزل فتقول مِنْ هَنَاِتك؟ فنزل سلمة يرتجز ويقول:
لم يَغْذُها مُدٌّ ولا نَصِيفُ *** ولا تُمَيْرَات ولا رغِيفُ
لكن غَذَاها اللَّبَنُ الخَرِيفُ *** والمَحْض والقَارِصُ والصَّرِيف"(19).
وهذا الموقف المتوازن بين المتعة والمسئولية هو ما تدعو له المدارس النقدية الحديثة، يقول ت. س. إليوت الشاعر والناقد الأدبي الأمريكي، والحاصل على جائزة نوبل في الآداب: "أظن أن أول مهمة من مهمات الشعر هي على وجه اليقين: إثارة المتعة، ولكن للشعر دائماً هدفاً أبعد من الهدف الخاص أو المعين، وهو أن الشعر يحاول دائماً إيصال تجربة جديدة ما، أو إلقاء ضوء جديد على شيء مألوف، أو التعبير عن شيء بيدنا ولم نستطع أن نصفه في كلمات، مما من شأنه أن يغني وعينا، ويرهف حساسياتنا وليس بشعر على الإطلاق ما لا يثير في الإنسان هذين الأمرين"(20).
ــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر: لابن خلدون، تحقيق خليل شحاده، دار الفكر، بيروت، ط الثانية، 1988م ـ 1408 هـ ، 1/803
(2) انظر: الإسلام والشعر: د. سامي مكي العاني، عالم المعرفة، الكويت، ع66، أغسطس 1996، ص 12
(3) مقدمة في النقد الأدبي: الدكتور محمد حسن عبد الله، دار البحوث العلمية، الطبعة الأولى، 1975، ص261
(4) الإسلام والشعر: ص 41
(5) الدرر المنثور للسيوطي: طبعة دار الفكر، بيروت، 1993م، 6/337
(6) جامع العلوم والحكم: ابن رجب الحنبلي، دار الفكر، بيروت، ط أولى، 2001، ص 13
(7) كشف الخفاء: العجلوني، 1/200، وذكر أن صاحب اللآلي قال معناه صحيح ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفاظ
(😎 الأدب المفرد: البخاري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط الثالثة، 1989، باب الشعر حسنه كحسن الكلام ومنه قبيح، حديث رقم 865 ، ص299 ، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/730
(9) الدرر المنثور: 7/421
(10) الصناعتين: لأبي هلال العسكري، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، 1419 هـ ، ص 138
(11) مقدمة في النقد الأدبي: ص 275
(12) العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق: تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط الخامسة، 1981م، 1/65
(13) اتجاهات الشعر العربي المعاصر: إحسان عباس، عالم المعرفة، الكويت، ع مايو 1978، ص 203
(14) صحيح مسلم: تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، حديث رقم: 2490، باب فضائل حسان بن ثابت، 4/1935
(15) أسد الغابة: عز الدين بن الأثير، دار الفكر، بيروت، 1989، 1/482
(16) السابق: الصفحة نفسها.
(17) تاريخ دمشق لابن عساكر: دراسة وتحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط الأولى، 1419هـ ـ 1998م ، 28/93
(18) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، انظر كتاب الأدب، باب إنشاد الشعر، حديث رقم 2850 ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق، أحمد محمد شاكر وآخرون، 5/140
(19) الفائق في غريب الحديث للزمخشري: دار المعرفة، لبنان، ط الثانية، 4/114 (20) مقالات في النقد الأدبي: ت. س. إليوت، ترجمة لطيفة الزيات، مكتبة الأنجلو المصرية، ص 45

اكتب تعليق

أحدث أقدم