رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن حسن العلاقة مع الله اساس العمل الصالح

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن حسن العلاقة مع الله اساس العمل الصالح

 


رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يؤكد أن حسن العلاقة مع الله اساس العمل الصالح

بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فريدريك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية
فى غَمرَةِ الخوض في مجالات تحديات الحياة المختلفة، وفي خِضَمِّ السعي الجادِّ لتوفير متطلباتها، وفي مزالقِ مسالكِ الدنيا الخطيرةِ ومُلهياتها الكثيرة - يُنسَى الهدفُ الرئيسُ الذي من أجله يَجِدُّ الإنسان ويكدح، فينشغِلُ بأهداف مرحليَّة صغيرة، وربما كانت تافهة لا قيمة لها.
ولقد ثبت للجميع بالتجربة العمليَّة وبما لا يَقبَلُ الشكَّ أن أصحابَ الأهداف الكبيرة في هذا الزمان في الغالب ينحرفون عما كانوا يتحدَّثون عنه بالأمس، وما كانوا يؤمنون به في الماضي القريب، ويدْعون الناس إليه، والأسبابُ لذلك كثيرةٌ، منها أسباب مُتعلِّقة بهم وبشخصياتهم، ومنها ما هو متعلِّق بمَن معهم في مسيرتِهم، ومدى تأثيرِهم عليهم، ومنها ما هو مُتعلِّقٌ بالظروف الخارجية التي تُحيطُ بهم، التي ربما كانت قاسيةً جدًّا، وأيًّا كانت الأسبابُ، فإنهم تائهون، وضائعون في المِضمار، إذا لم تُسْعفْهم معيَّةُ الله جل جلاله.
وكثيرًا ما كنا نسمَعُ كلامًا صريحًا وواضحًا كشمسٍ صيفيَّة ساطعة، أو كبدرٍ في ليلةِ سماء صافية ممَّن يُسمُّون أنفسَهم بـ"أصحاب القضية"؛ كلامًا عن ثوابتِ القضية وأهدافِها (السامية)، وضرورة التمسُّك بها، وعدم التفريط في هذه الثوابت، وأنها تُمثِّلُ خطوطًا حمراءَ لا يمكن تجاوزُها، وهذا الكلام يكون صحيحًا وواقعيًّا ولا لبس فيه في بداية المسيرة في الغالب، ولكن مع مرورِ الوقت والوقوع في مطبِّات الابتلاءات المختلفة؛ كالمال، والجاه، والمنصب الوظيفي، والمكانة الاجتماعية - تتلاشى كلُّ تلك الثوابت في لمح البصر، ويُصبِحُ أفقُ النظر إلى ما وراء الخطوط الحمراء بمسافات شاسعة، فيبادرُ أصحاب المبادئ الذين نتكلَّمُ عنهم بإيجاد التأويلات والتبريرات (الشرعية والعرفيَّة) المناسِبة لتقديمها للآخرين، مُحاولين المحافظةَ على الصورة البهيَّة التي يُصرُّون عليها، وهي في حقيقتها أصبحت وَهمًا يُعَشِّشُ في عقولهم، ويقنعون أنفسَهم بها، فهي شكليَّة وإعلامية أمام الناس فقط، وهم لا يعلمون!
والسؤال الذي يُؤرِّقُ البقيَّةَ الباقية من المتمسِّكين بالحق: لماذا يحدثُ كلُّ ذلك؟
إن السبب الرئيسَ في هذا التباين في المواقف، وانحراف البوصلة عن الهدف المتفق عليه - هو البعد عن الله جل جلاله، والأصل أن تكون العَلاقة مع الخالق جل جلاله على أحسن ما يُرام، وحين تكونُ العَلاقة مع الله جلَّ جلاله على ما يُرامُ، فإن ذلك يعني: نوالَ رضا الله جل جلاله، عندها تتحقَّقُ كلُّ الأهداف المرحليَّة المتعلِّقة بالعَلاقات الطيِّبة مع الآخرين، فعن أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن الْتَمَسَ رضا الله بسَخَطِ الناس، رضي الله عنه، وأرضى الناس عنه، ومَن التمس رضا الناس بسخطِ الله، سَخِطَ اللهُ عليه، وأَسْخَطَ عليه الناس))[1].
والبُعدُ عن الله جلَّ جلالُه أساسُه أن العبدَ لا يعي حجمَه الحقيقي، ودورَه تجاه خالقِه جل جلاله، فهو يَنسى - وربَّما يَتناسَى - قدرَ فضلِ الله جل جلاله ونعمته عليه، فيَنعكِسُ عن ذلك تقصيرٌ في العمل لله جل جلاله، وعلى أساس ذلك ومن أجل أن يتذكَّر العبد مَقامه وقيمتَه أمام الله جل جلاله، ويساعد بُوصلتَه أن تكون بالاتجاه الصحيح - عليه أن يتدبَّر قولَ أُبَيِّ بنِ كعب رضي الله عنه: "لو أن اللهَ عذَّب أهلَ سمواته وأهلَ أرضه، عذَّبهم وهو غيرُ ظالم لهم، ولو رَحِمهم كانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم"[2].
وبِناءُ عَلاقةٍ صحيحةٍ من قِبَلِنا مع الله جل جلاله يقتضي وجودَ قلبٍ سليمٍ من الأمراض، صحيحٍ من الشبهات، نقيٍّ من أمور الدنيا؛ لكي يقوم بهذا العملِ على الوجه الصحيح، يقول ابن قيِّم الجوزية رحمه الله: "وقد اختلفت عباراتُ الناس في معنى القلبِ السليم، والأمرُ الجامعُ لذلك: أنه الذي قد سَلِمَ من كلِّ شهوةٍ تُخالِفُ أمرَ الله ونهيه، ومن كل شبهةٍ تُعارِضُ خبرَه، فسَلِمَ من عبودية ما سواه، وسَلِمَ من تحكيم غير رسوله، فسَلِم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله في: خوفه، ورجائه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والذلِّ له، وإيثارِ مرضاته في كل حال، والتباعد من سخطِه بكل طريق؛ وهذا هو حقيقةُ العبودية التي لا تَصلُحُ إلا لله وحده.
فالقلبُ السليم: هو الذي سَلِم من أن يكون لغير الله فيه شركٌ بوجهٍ ما، بل قد خَلَصت عبوديتُه لله تعالى: إرادةً، ومحبةً، وتوكُّلاً، وإنابة، وإخباتًا، وخشية، ورجاء، وخلص عملُه لله)[3].
إن ما يبعثُ الألمَ في النفسِ أن الناسَ حين يعملون ينسَوْنَ حقوقَ الله جل جلاله عليهم، وتنحرفُ النيات التي كانت بالأمس تعملُ من أجل الله جل جلاله، فتصبحُ اليوم من أجل المال، أو المنصب، أو الجاه، أو أشياء أخرى، وتكون حقوقُ الله جل جلاله علينا من صلاة وغيرها آخِرَ ما يُفكَّر فيه، وإن أُدِّيَتْ فإنها تؤدَّى على عَجَل، وبلا خشوعٍ أو تدبر، وكأنها إسقاطُ فرضٍ!
هنا، ومن جرَّاء كل ذلك، يَخسَرُ الفردُ معيةَ الله جل جلاله في العمل؛ فيحصل الإخفاقُ.
وتقويمُ العَلاقة مع الله جل جلاله يأتي من وجوه عدة، منها:
• سلامة العقيدة: ومما يُؤسَفُ له بالفعل أن بعضَ الناس اليوم يتحاشَوْنَ الكلام في العقيدة وتفاصيلها، وكأنها سُبَّةٌ أو تُهمة! أو أنهم يَفعلون ذلك لإرضاءِ طرفٍ مِن هنا وآخر مِن هناك، في حين أن الأعمالَ مُتعلِّقةٌ بعقيدة الفرد في عَلاقتِه مع الله جل جلاله، وأنها لن تُقبَلَ حتى تكون عقيدتُه خالصةً وسليمةً ونقيَّةً وعلى مراد الله جل جلاله، ولستُ هنا بصددِ شرحِ العقيدة؛ فقد سبق إلى ذلك كبارُ علماء الأمة، فبيَّنوا لي ولأمثالي تبيانًا لا خلاف فيه، ولا شائبة عليه.
لكني أريدُ أن أُبيِّنَ بعضَ حقائقِ العقيدةِ العمليَّةِ على طريقة (إيمان العجائز)، الذين يؤمنون بأن كلَّ شيء يَحصُلُ في هذا الكون يأتي من اللهِ جل جلاله، وبعلمه وتقديره وحكمته، يؤمنون بذلك قولاً باللسان، وإيمانًا بالجَنان، وممارسةً بالأركان (الجوارح)، وهكذا فعل عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه حين عزَل خالدَ بنَ الوليد رضي الله عنه القائدَ الهُمامَ، والبطل الضِّرغامَ، الذي لا يُشقُّ له غبارٌ، خالد رضي الله عنه - وأكرِمْ به من قائدٍ! - لم يدخل معركةً إلا وانتصر فيها، وقد جازَفَ أميرُ المؤمنين عمر رضي الله عنه بفِعلته بحسابات الأخذ بالأسباب، وبالمعايير الدنيوية المادية، ولكنه فعل ذلك ترسيخًا لمفهوم عَقَديٍّ آمَنَ به، وأحبَّ أن يُوصلَه لمَن معه، فقد قال عمر رضي الله عنه قولتَه العَقَديَّة الشهيرة: "إني لم أعزل خالدًا عن سخطةٍ ولا خيانة، ولكنَّ الناس فُتنوا به؛ فأحبَبْتُ أن يعلموا أن الله هو الصانعُ"[4]، فلقد تعلَّق الناس بخالدِ بن الوليد رضي الله عنه حتى شعروا أن النصرَ بسببه، فالنصرُ من الله وحدَه جل جلاله، وهذه رسالةٌ في العقيدة أوصلَها عمر رضي الله عنه للناس.
هذا نموذج عمليٌّ لعقيدة سليمة، تفضي إلى عَلاقة صحيحةٍ وسليمة مع الله جل جلاله، وهي مِصداقٌ لقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((مَن أعطى لله تعالى، ومنَع لله تعالى، وأحبَّ لله تعالى، وأبغضَ لله تعالى، وأنكَحَ لله تعالى - فقد استكمَلَ إيمانَه))[5].
فها نحن نمرُّ على هذه الأحاديثِ وأمثالها من غير أن تُحرِّك في أنفسنا شيئًا يكون دافعًا حقيقيًّا لعمل نُصلِحُ فيه العَلاقة مع الله جل جلاله فنُحرَم الخير.
فهل نحن ممن يعطي لله جل جلاله؟ وهل نحن ممن يحبُّ في الله جل جلاله؟
الذي ينبغي أن يكون عليه الفردُ في العَلاقة مع الله جل جلاله هو لسان حال الشاعر حين يقول:
فليتَك تحلو والحياةُ مَرِيرةٌ
وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ
وبيني وبين العالَمين خرابُ
إذا نِلْتُ منك الود فالكلُّ هِيِّنٌ
وكلُّ الذي فوقَ التراب ترابُ
هذا هو لبُّ العقيدة؛ أن يكون العملُ كلُّ العمل لله وفي الله جل جلاله، والأمانيُّ كل الأماني أن يدومَ الودُّ من الله جل جلاله، وأن القيومَ في شؤون الدنيا والآخرة هو الله جل جلاله، وما دونه ترابٌ.
فهل يكون عاقلاً مَن يَستبدِلُ ببديع السموات والأرض وقيومِهما ومالكِ المُلك ترابًا؟
يقول أحد الحكماء: (ما صَعِدَ إلى السماء مثلُ الإخلاص، ولا نزَلَ مثلُ القَبول، ولا ينزل القبولُ من السماء إلا بإخلاص العمل؛ لأن ذلك مهرُ القبول، وبالإخلاص يتنزَّلُ في الدنيا قبول، وفي الآخرة فلاح).
• الإحسان في العبادة: وهذه الخَصلةُ وصَفَها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وصفًا دقيقًا، وهو الذي أُوتِيَ جوامعَ الكَلِم، فعندما سأله جبريلُ عليه السلام عن الإحسان، قال رسولُ الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))[6].
هذه هي العبادة المطلوبة من العبدِ تجاه الله جل جلاله، وبها فحسب يكسبُ رضا وحب الله جل جلاله، أن تعبد الله جل جلاله وكأنك ناظرٌ إلى الله جل جلاله من خلال عَظمتِه في الإعجاز الذي جعله في خلقه، ومن خلال رحمته التي تتغشَّاك وأنت في حال العبادة وفي حال غيرها، ومن خلالِ مغفرته التي تُوقن بما لا يدعُ مجالاً للشكِّ بنوالها من جرَّاء رضاه جل جلاله عنك، ومن خلال كرمِه، وقد أسبَغَ عليك نِعَمَه ظاهرةً وباطنة، فتعبد الله جل جلاله وكأنك مُستشْعِرٌ لهذه النظرة، مُوقِنٌ بها.
لقد استطاع السلفُ الصالح أن يعي هذا الفهمَ الدقيق، ويحرصَ على بلوغه من أجل الهدف الأسمَى؛ وهو الفوز بمعيَّةِ الله جل جلاله ورضاه، فهذا محمدُ بن سوار رحمه الله يُعلِّمُ ابنَ أخته سهلَ بنَ عبدالله التستري رحمه الله، وهو ابن ثلاثِ سنين، أن يقول في قلبه كل ليلة: (الله معي، الله ناظري، الله شاهدي)، ويكرِّر ذلك حتى ينام، ويفعلُها سهل التستري، ويَكبرُ وينتظم مع أقرانه ليتعلَّم، ويشتكي الطلاب وأهلوهم من أن الشيخ يَهتَمُّ بسهلٍ دونَهم، ويأتي يوم الاختبار، ويطلب من التلاميذ ومعهم سهلٌ أن يأتيَ كلٌّ منهم بطير وسكين، ثم يَطلُبُ شيخُهم من كلٍّ منهم أن يذهب فيذبَحَ طيرَه بمكان لا يراه فيه أحدٌ، وبسرعة حضَرَ التلاميذ، وكلٌّ يَحمِلُ طيرَه يقطر دمًا، وغاب سهل التستري حتى خشوا عليه، ثم عاد مطأطِئَ الرأس، يحملُ طيرَه الذي لم يُذبَحْ بيدٍ، وسكينَه بيدٍ أخرى، وحين سأله أستاذُه أمام الناس، أجابه بأنه قد طُلِب منه أن يَذبَحَ طيرَه بمكان لا يراه فيه أحد، وإنه إن كان قد وجد مكانًا بعيدًا عن أعين الناس، فإن الله جل جلاله ناظرٌ إليه، حتى نشأ سهل التستري على مراقبة الله جل جلاله، فكان من كبار العبَّاد الزهاد المحدِّثين.
بهذا المستوى من معية الله جل جلاله واستشعارها نُحسِّن عبادتَنا لله جل جلاله.
• الفهمُ الدقيق لفقه الابتلاء: وهنا فَخٌّ يَقَعُ فيه الكثيرُ من الناس، يَقَعُ فيه الصِّغارُ والكِبارُ، وحتى القادةُ والعلماءُ والفقهاء، فحين يَظنُّ الفردُ أن الابتلاءَ يَقَعُ في جوانب الضيق والشدة، والمرض والعَوَز، وظلمِ السلطان بكل أنواعه، فحسْبُ، فإن مَن يَظنُّ ذلك يَقَعُ في وَهمٍ كبير، وتشوبُ رؤيتَه شوائبُ تؤدي إلى نتائجَ وخيمةٍ، فالابتلاءُ يكون في الضراء والسراء على حدٍّ سواء، بل ربما كان في السراءِ أشدَّ وأكثر تأثيرًا، ونتائجه السلبية أعظمَ وأخطر؛ لأنه غيرُ منظور بشكلٍ صريح؛ فهو في خط التماس مع المباحات، ويُوافِقُ طلبَ النفس وهواها في الراحة والدَّعة؛ فلا يشعر به، ودليلُ ذلك قولُ الصحابي الكريم الثَّريِّ عبدالرحمن بنِ عوف رضي الله عنه، ونسوق كلامَه كدليل؛ لأنه صاحب ثراء وأموال طائلة، فعن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال: "ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبَرْنا، ثم ابتُلينا بالسراء بعدَه فلم نَصبِرْ"[7]، ويقول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: ((لأنا في فتنةِ السرَّاءِ أخوفُ عليكم مني في فتنة الضراء، إنكم ابتُليتم بفتنة الضراء فصبَرْتُم، وإن الدنيا خَضرة حُلوةٌ))[8].
فكم رأينا مَن ابتلي بالشدةِ والضراء والعسرِ، وذاق ما ذاق من جرَّائها، لكنه خاض غِمارَها بنجاح، ورأينا مَن اقتحم غمارَ الجهادِ حاملاً رُوحَه على كفِّه، ضاربًا مغريات الدنيا عرضَ الحائط، غير آبهٍ بذرية، ولا بمال، ولا جاه، إلا أنه وبعد أن استراح، ونكت غبار مقارعة الأعداء، جاءته مغرياتُ الدنيا، وابتُلِي في السرَّاء، فصار المالُ حثيثًا بين يديه، أو استلم إمارةَ الناس؛ عندها نَسِي ما قدَّم بالأمس، وانجرف معها كأن لم يكن ذلك الفائز في امتحان الضراء، يقول رسول الله محمدٌ صلى الله عليه وسلم: ((فأبشروا وأمِّلوا ما يَسرُّكم، فوالله لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطت على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلكَكم كما أهلكتْهم))[9]، وعن أبي العلاءِ بن الشِّخِّير قال: حدثني أحدُ بني سليم - ولا أحسبُه إلا قد رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله ليبتلي العبدَ بما أعطاه، فمَن رضي بما قُسِم له وُسِّعَ عليه، ومَن لم يرضَ لم يُبارَكْ له"[10].
وعلى العموم فإن الابتلاءَ (وأخص منه ابتلاء السراء) هو الصخرةُ التي تتحطَّم عندها التسميات الكبيرة، والعناوين التي بُهِر بها الكثيرُ من الناس سواء كانت أفرادًا أم جماعات أم مؤسسات.
• التقوى: وتأتي أهميَّةُ التقوى في أنها تُعبِّرُ عن مدى حبِّنا لله جل جلاله، وخوفنا منه، وبالنتيجة فإن التقوى هي المُعبِّرُ الحقيقيُّ عن مدى إيمانِنا بالله جل جلاله، يقول تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].
لقد وصف الله جل جلاله التقوى باللِّباس الذي يَسترُ العورةَ، فلا بد أن تكونَ تقْوانا ملازمةً لنا كثيابنا؛ لأننا إن لبسنا لباسَ التقوى فإننا نسترُ كلَّ العيوب والذنوب، والعَثَرات والغَدَرات، التي نَعملُها، ويَغضبُ من اقتحامها اللهُ جل جلاله، أو نُغضِبَ بها عبادَ الله جل جلاله؛ وبذلك نكسب ودَّهم، يقول تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُون ﴾ [الأعراف: 26].
والتقوى النافعةُ محلُّها القلبُ السليم من الأمراض، ولا أَقصِدُ الأمراضَ العضوية، بل هي أمراضُ القلوب المذمومة، الأمراضُ الروحيَّة؛ كالحسد، والبغض، والحقدِ، والكِبْرِ، والرياء، والكراهيةِ، والتعلُّقِ بالشهوات، والتي هي أشدُّ بكثير من الأمراض العضوية، فرُبَّ مريضٍ بمرض القلبِ؛ كضيق الصمام، أو ترهُّلِه، ولكن قلبه خاشع لله جل جلاله مؤمن به، يحبُّ الناس، يفيض خيرًا ونقاء، وربَّ صحيحِ القلب من الأمراض العضوية، ولكنه كالبيتِ الخَرِب الذي تُعشِّش فيه وتأوي إليه الدوابُّ والآفاتُ المختلفة، يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله: "اعلم أن العبد إنما يقطعُ منازلَ السيرِ إلى الله بقلبِه وهمَّتِه، لا ببدنِه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32]، وقال: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((التقوى هاهنا - وأشار إلى صدره))، فالكيِّس يقطعُ من المسافة بصحة العزيمة، وعلو الهمة، وتجريد القصد، وصحة النية، مع العمل القليل - أضعافَ أضعافَ ما يقطعُه الفارغُ من ذلك مع التعبِ الكثير، والسفر الشاقِّ؛ فإن العزيمةَ والمحبَّة، تُذهِبُ المشقةَ، وتطيب السيرَ، والتقدُّمُ والسَّبْقُ إلى الله سبحانه إنما هو بالهِممِ، وصدق الرغبةِ والعزيمة، فيتقدَّمُ صاحبُ الهمة مع سكونه صاحِبَ العمل الكثير بمراحل؛ فإنْ ساواه في همته تقدَّم عليه بعمله، وهذا موضعٌ يحتاج إلى تفصيلٍ يُوافِق فيه الإسلام والإحسان"[11].
يقول أبو العتاهية:
إذا المرءُ لم يَلبَسْ ثيابًا من التقى ♦♦♦ تقلَّبَ عريانًا وإن كان كاسيَا
ونيلُ التقوى ثم العملُ بموجبها لن يأتي بالأماني، ولكن بالعملِ الجادِّ في مجاهدة النفس وهواها، وترك مغرياتِ الدنيا، وخصوصًا وهي مُقْبلة وليست مدبرةً، ويُقدِّمُ ابن قيم الجوزية رحمه الله فائدةً عظيمة للمعتبِرِينَ والباحثين في هذا الباب، فهو يقول: "قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، علَّق سبحانه الهدايةَ بالجهاد، فأكملُ الناس هدايةً أعظمهم جهادًا، وأفرضُ الجهاد جهادُ النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا، فمَن جاهد هذه الأربعةَ في الله، هَدَاهُ الله سُبُلَ رضاه المُوصلةَ إلى جنته، ومَن ترك الجهاد فاته من الهُدى بحسب ما عطل من الجهاد، قال الجُنَيْدُ: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتوبة، لنهدينَّهم سبلَ الإخلاص، ولا يتمكَّنُ من جهاد عدوِّه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا، فمن نُصِر عليها نُصِر على عدوِّه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِر عليه عدوُّه"[12].
ومن الأمور التي تُعطي دلالةً على التقوى: (العمل الصالح)؛ فهو دَأْبُ الصالحين، ودعوة الأنبياءِ والمرسلين، فباستمرارِ العمل الصالح تَنشَطُ التقوى في القلب، ثم يستحصِلُ أحدُ المقاصد، وهو كسبُ (وُدِّ الآخرين) الذي ستؤشر من خلاله البُوصلة إلى الاتجاه الصحيح، يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96].
• التوبة: وهي الرجوعُ من الذنب، وتابَ إلى الله يتوب توبًا، وتوبة، ومتابًا: أناب ورجع عن المعصية إلى الطاعة، وتأتي أهميَّةُ التوبة بالاعتراف بالذنب والتقصير؛ فيُوقِنُ الفردُ بعدم كماله؛ فهو بحاجة إلى أن يراجِعَ نفسَه، ويَجِدَ أخطاءها، ثم يعود عنها، ويتوب إلى الله جل جلاله.
ولأهمية التوبة وعظمة قدرها عند الله وفَرحِه جل جلاله بها؛ ذكَرَها رسولُ الله محمد صلى الله عليه وسلم بحديث، فيه مجموعةٌ من الأمور المهمة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَلهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبدِه حين يتوبُ إليه، من أحدِكم كان على رَاحلتِه بأرض فلاةٍ، فانفلَتَتْ منه، وعليها طعامُه وشرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شجرةً، فاضطجع في ظلِّها، قد أَيِسَ من راحلتِه، فبينَا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك! أخطأ من شدة الفرح))[13].
إن سياق الحديث بهذه الطريقة القصصيَّة الجميلة له دلالاتُه على أهمية أن تكونَ لكلِّ عبدٍ توبةٌ؛ لسبب مهم جدًّا هو أن الله جل جلاله يحبُّ أن يتوب إليه عبدُه حبًّا شديدًا.
أليس من أولِ الأولويات الهامَّة أن نتوب من أجل أن يَفرَحَ الله جلَّ جلاله بتوبتنا؟
فمتى كانت آخرُ توبة لنا؟
نحن جميعًا بحاجة إلى الخلوة مع أنفسنا، ومراجعةِ مُجرَيات حياتنا، وتشخيصِ أخطائنا وتقصيرنا وجنوحنا عن الطريق الصحيح بدقة وأمانة، ثم نُقرِّرُ التوبة، ثم نتوب.
وفي الختام متى ما استطاع أفرادُ الأمة أن يتوصَّلوا إلى عَلاقة بربهم كتلك التي استطاع الوصول إليها العابدُ البصري (المجهول) الذي لا يُعرَفُ حتى اسمه، فيَروي ابنُ الجوزيِّ في "صفة الصفوة" قصةً جميلة عن رجل: (أن رجلاً خرج في البصرة، فرأى إنسانًا أسودَ مجذومًا قد تقطَّعت كلُّ جارحة له بالجذام، وعَمِي وأُقعِدَ، وإذا صبيان يرمونه بالحجارة حتى أدمَوْا وجهَه، فرأيتُه يُحرِّك شفتَيْه، فدنَوْتُ منه لأسمَعَ ما يقول، فإذا هو يقول: يا سيدي، إنك لتعلَمُ أنك لو قرَضْتَ لحمي بالمقاريضِ، ونشرت عظامي بالمناشير، ما ازدَدْتُ لك إلا حبًّا، فاصنع بي ما شئت)[14]، فإن بوصلةَ الأمة ستكون على ما يرام.
ومن حُسْنِ العَلاقة مع الله جل جلاله أننا نتذكَّرُ دائمًا، ولا ننسى ولو هُنَيْهة أن الله جل جلاله تعالى معنا، وإننا إن عملنا عملاً صالحًا أو سيِّئًا فنسيناه وكان من أخبار الماضي بالنسبة لنا، فإن الله جل جلاله لم ولن ينساه، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6].
________________________________________
[1] صحيح ابن حبان، كتاب البر والإحسان، ذكر رضا الله جل وعلا عمَّن التمس رضاه بسخط الناس.
[2] سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في القدر.
[3] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان؛ ابن قيِّم الجوزية، ص: 7.
[4] البداية والنهاية؛ ابن كثير الدمشقي، ج10، ص: 47.
[5] مسند أحمد بن حنبل، مسند المكيِّين، حديث معاذ بن أنس الجهني.
[6] صحيح البخاري - كتاب الإيمان - باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان.
[7] سنن الترمذي الجامع الصحيح، الذبائح، أبواب صفة القيامة، والرقائق، والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[8] المطالب العالية؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني، كتاب الرقائق، باب الحذر من فتنة الغنى وكثرة المال.
[9] صحيح البخاري، كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب.
[10] شعب الإيمان للبيهقي؛ الثالث عشر من شعب الإيمان.
[11] الفوائد؛ ابن قيم الجوزية، ص: 142.
[12] الفوائد؛ ابن قيم الجوزية، ص: 59.
[13] صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها.
[14] صفة الصفوة، ابن الجوزي، ج 4، ص: 18- 19.

اكتب تعليق

أحدث أقدم