رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن محاسبة النفس

رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن محاسبة النفس

 


رئيس اتحاد الوطن العربي الدولي يتحدث عن محاسبة النفس
بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
الرئيس التنفيذي لجامعة فريدريك تايلور بالولايات المتحدة الأمريكية
الرئيس التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية بأسبانيا
الرئيس التنفيذي لجامعة سيتي بكمبوديا
مستشار مركز التعاون الأوروبي العربي بألمانيا الإتحادية العربي الدولي
مما لاشك فيه أن الله عز وجل خلَق الإنسان بحكمتِه غيرَ معصوم؛ تتنازعه قوى الخير وقوى الشر، وتتجاذبه دوافع التقوى ومُغريات الشهوات، وهو يتذكَّر رقابة الله عليه مرةً، لكنَّ الغفلة تسيطر عليه مرة أخرى، يُقبِل على الله تارة ويُدبر عنه تارة أخرى، فهو متقلِّب الفؤاد بين جند الله وجند الشيطان!
ومِن رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف أنْ فتح له بابَ التوبة، وأرشَده إلى طريق المحاسبة، وبيَّن له أهمية محاسبته لنفسه قبل أن يقف أمام الله تعالى فيحاسبه على أعماله، وحركاتِه وسكناته.
إن المسلم الحقَّ يعطي نفسه حقَّها من صقل الروح بالعبادة، فيُقبِل على عبادته بنفسٍ هادئة، فيُصلِّي في هدأةِ نفس، وصفاء فكر، وعقل واعٍ لما يتلو ويدعو في صلاته، ثم يخلو إلى نفسه فيسبِّح ربه، ويتلو آياتٍ من كتابه، ويتأمل معاني ما يجري على لسانه.
وبين حين وآخر يستعرضُ حاله وتصرفاتِه وأعماله، محاسبًا نفسه إن ندَّتْ عنها مخالفة، أو بدا منها في حق الله تقصيرٌ، وبذلك تؤتي العبادةُ ثمرتَها المرجوَّة؛ من تزكية النفس، وتصفية الوجدان من أدران المعصية والمخالفة، وهذه حال كلِّ مسلم تقيٍّ، فهو قد يخطئ وقد يقصر، ولكنه سرعان ما ينخلع من زلَّته، ويستغفر الله من خطئه، ويستبرئ من تقصيره، ويتوب من ذنبه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]، ولهذا كان رسولُ الله صلى اله عليه وسلم يقولُ لأصحابه: ((جدِّدوا إيمانكم))، قيل: يا رسول الله ، وكيف نجدد إيماننا؟ قال: ((أكثِروا من قول: لا إله إلا الله)) [1].
وعلى هذا؛ فمِن كمال تقوى الله أن يستعين دومًا على تقويةِ روحه وتزكية نفسه بدوام العبادة، والمحاسبة، ومراقبة الله، وخشيته، وبذلك يبقى مستقيمًا لا يجورُ ولا ينحرف ولا يظلم[2].
ومحاسبة النفس من الأمور التي ينبغي أن يحرِصَ عليها العبد المؤمن؛ لئلا تنطلق بهواها كيفما شاءت، فإن حاسَب نفسه اكتشف وجهَ القصور الذي قصَّره تجاه خالقِه والناس، فيتوقف عن مواصلة هذا التقصير، ثم يتخلص منه عن طريق التوبة، وطاعة الله تعالى، وإعطاء الناس حقوقَهم، والمحاسبة كذلك تكشف للمسلم حصَّته من الطاعة التي قام بها، فيشكر الله ويحمده بأن وفَّقه إليها، فيعاودها ثانية وثالثة ورابعة[3].
فضل المحاسبة:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18]، جاء عند ابن كثير قوله: "أي: حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وانظروا ماذا ادَّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم"[4].
كما قال تعالى: ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 2]، قال الإمام الشوكاني: "قال مجاهد: هي التي تلوم على ما فات، وتندم، فتلوم نفسها على الشر: لِمَ عملته؟ وعلى الخير: لِمَ لَمْ تستكثر منه؟"[5].
وبهذا يتبين لنا فضلُ المحاسبة وأهميتها، ويؤكده قولُ عمر بن الخطاب: "حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنُوها قبل أن توزَنوا، وتزيَّنوا - أي: بالعمل الصالح والتقوى - للعرض الأكبر"[6].
وعن ميمون بن مِهران قال: "لا يكون العبد من المتَّقين حتى يحاسب نفسَه أشدَّ من محاسبة شريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل"[7].
وعن الحسن البصري: المؤمن قوَّام على نفسِه يحاسبها لله، وإنما خفَّ الحساب على قومٍ حاسَبوا أنفسهم في الدنيا، وشقَّ الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة[8].
وعن مالك بن دينار: رحِم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ثم ذمها ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله فكان لها قائدًا[9].
اهتمام السلف بالمحاسبة:
عُرف عن الصحابة والسلف أنهم كانوا مع استقامتِهم ووقوفهم عند حدود الله يتَّهمون أنفسهم ويشعرون دومًا بالتقصير.
فهذا أبو بكر الصدِّيق يدخلُ عليه عمر يومًا، وهو يجذب لسانه فيقول له: مه غفر الله لك! فيردُّ عليه أبو بكر قائلًا: إن هذا أوردني المواردُ!
وهذا أبو الدرداء يصيبه المرض ويدخل عليه أصحابه ليعودوه ويقولوا له: أي شيء تشتكي؟ فيقول: ذنوبي، فيقولون: فما تشتهي؟ فيقول: الجنة[10].
وهذه أسماء بنت أبي بكر الصديق كانت تصدع، فتضع يدها على رأسها، وتقول: بذنبي، وما يغفر الله أكثر[11].
وهذا عمر بن الخطاب وكانت رأسه في حجر ولده عبدالله في مرض الموت، فيقول لابنه: "ضعه لا أمَّ لك، ويلي وويل أم عمر إن لم يغفر لي ربي"[12].
وقد قيل للأحنف: إنك كبير والصوم يُضعفك، فقال: إني أعدُّه لسفر طويل، وكان رحمه الله يضع إصبعه على المصباح ثم يقول: حس، ما حملك على أن صنعت كذا يوم كذا[13].
وقد رُوِي عن محمد بن أبي حاتم ورَّاق البخاري: رأيتُ البخاري استلقى ونحن في تصنيف كتاب التفسير، وكان أتعب نفسه في ذلك اليوم في التخريج، فقلت له: إني سمعتُك تقول: ما أتيت شيئًا بغير علم، فما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: "أتعبت نفسي اليوم، وهذا ثغر، خشيتُ أن يحدث حدثٌ من أمر العدو؛ فأحببت أن أستريح وآخذ أهبةً، فإن فاجأنا العدو كان بنا حَراك"[14].
وفي هذا دلالةٌ عظيمة على محاسبة البخاري لنفسه على كل حركة من حركاته، وأن تكون وَفق العلم الشرعيِّ، وبنية خالصة، حتى الاستلقاء لم يفعله إلا بنية له فيها أجر عظيم.
أنواع المحاسبة:
المحاسبة نوعان:
أ- قبل العمل: فإذا تحرَّكت النفس لعمل من الأعمال، فعلى العبد هنا أن يقف مع نفسه عدة وقفات:
1- ينظر: هل هذا العمل مقدورٌ عليه أو غير مقدور عليه؟ فإن كان غير مقدور عليه لم يقربه، وإن كان مقدورًا عليه، وقف وقفة أخرى:
2- ينظر أفعلُه خيرٌ مِن تركه، أم تركُه خير له من فعله؟ فإن كان الثاني لم يُقدِم عليه، وإن كان الأول وقف وقفة أخرى:
3- ينظر هل الباعث عليه إرادةُ وجهِ الله، أو إرادة الجاه والثناء من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يُقدِم، وإن كان الأول وقف وقفة أخيرة:
4- ينظر أهو معانٌ عليه وله أعوان يساعدونه أم لا؟ فإن لم يكن له أعوان أمسك عنه، وإن وجد له معينًا عليه فليُقدِم عليه.
والعبد بإذن الله إن حاسب نفسه قبل العمل ووقف مع نفسه هذه الوقفات مجتمعةً، فهو منصور ناجح بإذن الله.
ب- بعد العمل: وهو ثلاثة أنواع:
1- محاسبتُها على طاعة قصَّرت فيها من حق الله.
2- محاسبتها على كل عمل كان تركُه خيرًا له من فعله.
3- محاسبتها على أمر مباح: لمَ فعله؟ وهل أراد به وجه الله والدار الآخرة أم الدنيا؟
وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولًا على الفرائض ثم المناهي، ثم يحاسبها على الغفلة، ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشته رِجلاه، أو بطشته يداه، أو سمعته أذناه، فالعبد مسؤولٌ ومحاسَب على كل شيء حتى عن سمعه وبصره وقلبه؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36].
ولمحاسبة النفس أنواع أخرى من اعتبار آخر؛ منها المحاسبة المتقطعة، وهي التي تأتي بين فترات متباعدة، ومنها ما يعقب الخطأ الجسيمَ، ومنها المحاسبة الآنيةُ، وهي أفضلها؛ إذ يحاسب المرء نفسه على كل خطأ تقوم به، وهي النفس اللوَّامة التي أقسم الله بها.
وهذه المحاسبة لا يمكن أن تبدأ دونما الانتباهِ واليقظة لتحرُّكات هذه النفس واتهامها قبل اتهام الآخرين والبحث عن عيوبهم، وهذا هو المدخل لمحاسبة النفس الذي تنبَّه إليه الزاهد العابد أبو سليمان الداراني عندما قال له أحد أصحابه: "إن فلانًا وفلانًا لا يقعان على قلبي"، فقال: "ولا على قلبي، ولكن لعلنا أُتينا من قلبي وقلبك، فليس فينا خيرٌ، وليس نحب الصالحين"[15].
إن هذه الوقفة الشجاعة من الداراني لا بد أن يتعلَّمها دعاةُ اليوم؛ حتى يستطيعوا محاسبة أنفسهم عندما يخوضون في الحديث عن فلان أو فلان ويغتابونهم، بحجة مخالفتهم في الرأي أو الحجة أو في الجماعة، وإن لم يتبع الدعاة منهج الداراني في المحاسبة، فإنهم سيقعون في وهم الكمال الذي لا يلجئهم للالتفات إلى نواقصِهم؛ فتتراكم العيوب، ويحيدون عن الطريق دون شعور[16].
فوائد محاسبة النفس:
1- الاطلاع على عيوب النفس؛ فمَن لم يطَّلع على عيوب نفسه، لم يُمكِنه إزالتها، قال أبو حفص: "مَن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالِفْها في جميع الأحوال، ولم يجرَّها إلى مكروهها في سائر أوقاته، كان مغرورًا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها، فقد أهلكها"[17].
2- أن يعرف العبد بذلك حقَّ الله تعالى؛ فمَن لم يعرف حق الله عليه، فإن عبادته لا تكاد تُجدي عليه وهي قليلة النفع، فمِن أنفع ما للقلب النظرُ في حق الله على عباده؛ فإن ذلك يورثه مقتَ نفسه، ويخلِّصه من العُجب، ويفتح له باب الخضوع والذل، والانكسار بين يدي ربه، وإن النجاة لا تحصل إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فمَن نظر في هذا الحق الذي لربِّه عليه، علِم عِلْم اليقين أنه غير مؤدٍّ له كما ينبغي، وأنه لا يسَعُه إلا العفوُ والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلَك[18].
منهج محاسبة النفس:
إن العبد المسلم التقيَّ يخصِّص لنفسه وقتًا في آخر النهار يحاسِبُ فيه نفسه على جميع حركاته وسكناته، فيحاسبها بدايةً على الفرائض، فإن أدَّاها على وجهها، شكر الله تعالى، وإن فوَّتها من أصلها، طالَبَ نفسه بالقضاء، وإن أدَّاها ناقصة، كلَّفها الجبرانَ بالنوافل، وإن ارتكب معصية، اشتغل بعقوبتها وتعذيبها ومعاتبتها ليستوفي منها ما يتدارك به ما فرط، كما عليه أن يحاسب نفسه على خواطره وأفكاره، وقيامه وقعوده، وأكله وشربه ونومه، وهل نوى بذلك كلِّه وجهَ الله أم الدنيا؟ وليحاسب النفس على جميع العمر يومًا يومًا، وساعةً وساعةً، في جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة[19].
وبعد هذه المحاسبة تأتي التوبة؛ لأن المسلمَ إذا حاسَب نفسه، عرَف ما عليه من الحق فخرج منه، والأصل أن التوبة تكون بين محاسبتين: محاسبة قبلها تقتضي وجوبها، ومحاسبة بعدها تقتضي حفظها.
وقد دلَّ على المحاسبة قوله تعالى: ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ﴾ [الحشر: 18]، فأمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدَّم لغد، وذلك يتضمن محاسبةَ نفسه على ذلك، والنظر هل يصلح ما قدَّمه أن يلقى الله به أو لا يصلح؟
والمقصود من هذا النظر ما يوجبه وما يقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعادِ، وتقديم ما يُنجيه من عذاب الله، ويُبيِّض وجهه عند الله، وعليه في محاسبته لنفسه أن يقايس بين نعمته عز وجل وجناية العبد، فحينئذٍ يظهر له التفاوتُ، ويعلم أنه ليس إلا عفوُه ورحمته تعالى أو الهلاك والعطب، وبهذه المقايسة يعلم العبد أن الرب ربٌّ والعبد عبدٌ، وتتبيَّن له حقيقة النفس وصفاتها، وعظمة وجلال الربوبية، وتفرُّده تعالى بالكمال والإفضال، ويعلم أنه لولا فضل الله ورحمته بتزكيته لنفس العبد، ما زكت أبدًا، ولولا إرشاده وتوفيقه لما كان لها وصول إلى الخير، وهنا تقول حقًّا: ((أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي))، ثم يقايس بين الحسنات والسيئات فيعلم أيهما أكثر وأرجح قدرًا وصفة.
وبعد:
فإن العبد المسلِم التقيَّ المشفق من عذاب الله - يحاسب نفسه دومًا، ويتوب إلى الله توبة نصوحًا، فإنه بتلك المحاسبة ينجو من عذاب الله وغضبه، ويفوز برحمته وغفرانه، وبتلك التوبة يظفر بحب الله وجنته، ويمسحُ بها أدران معاصيه وذنوبه.
فالبدارَ البدارَ أيها العبد إلى المحاسبة والتوبة، تغسل بهما دنس إثمك، وتمحو بهما ران غفلاتك.
________________________________________
[1] المستدرك على الصحيحين - ح 7731.
[2] شخصية المرأة المسلمة؛ لمحمد علي الهاشمي - ص131.
[3] رحلة مع أحبائي الشباب؛ لنجيب العامر - 2/23.
[4] تفسير ابن كثير - 4/437.
[5] فتح القدير؛ للشوكاني - 5/471.
[6] التذكرة؛ للقرطبي - 1/289.
[7] إحياء علوم الدين؛ للغزالي - 4/404.
[8] إغاثة اللهفان؛ لابن القيم - 1/79.
[9] فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب؛ لمحمد نصر - 4/23.
[10] المجالسة وجواهر العلم؛ للدينوري - 1/344.
[11] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ للأصفهاني - 2/55.
[12] مصنف ابن أبي شيبة - 10/163.
[13] إغاثة اللهفان؛ لابن القيم - 1/79.
[14] فتح الباري؛ لابن حجر - 1/ 480.
[15] صفة الصفوة؛ لابن الجوزي - 2/386.
[16] منهج التابعين في تربية النفوس؛ لعبدالحميد البلالي - ص59.
[17] إغاثة اللهفان؛ لابن القيم - 1/86.
[18] البحر الرائق في الزهد والرقائق؛ لأحمد فريد - ص 140.
[19] إحياء علوم الدين؛ للغزالي - 63.

اكتب تعليق

أحدث أقدم