الاستاذ الدكتور إبراهيم محمد مرجونة يكتب..... دون كيشوت...مهمة مقدسة

الاستاذ الدكتور إبراهيم محمد مرجونة يكتب..... دون كيشوت...مهمة مقدسة

 


مقال : دون كيشوت...مهمة مقدسة

بقلم ا.د/إبراهيم محمد مرجونة

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية

أوروبا و بدايات القرن السابع عشر ، وأينما يمّمت وجهك في القارة الأوروبية ستجد أصداء تلك الاكتشافات المعرفية الهائلة التي أغرت وأغوت العقل الأوروبي، وجعلته معتداً بذاته واثقاً من قدراته التي بدت في تلك اللحظة التاريخية أنها قدرات لا متناهية.

في فرنسا كان الفيلسوف الشهير رينيه ديكارت يصوغ التصور الجديد للإنسان، التصور المتجسد في مقولة (الكوجيطو/الذات العقلانية) التي تقتحم الكون وتكتشف أسراره، وكان ديكارت يكتب "أنا أفكر إذن أنا موجود"، التي ستصبح في غضون فترة وجيزة علامة على صياغة إنسانية جديدة تقوم على اعتبار أن الوعي والعقل هو أساس الوجود.

أما في إنجلترا فقد كان الفيلسوف الآخر جون لوك يعمل على كتابة مؤلفيْه "مقالة في الفهم الإنساني" والآخر "عن العقل البشري"، اللذيْن خصصهما للرد على أطروحة الفيلسوف الفرنسي ديكارت، بالتأكيد لم يكن الجدال بينهما حول قدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة، فهذا النقاش قد بات محسوماً اليوم ، إنما كان الجدال يجري حول أي المنهجيات التي ينبغي توسلها للوصول إلى الحقيقة، هل هو المنهج (التجريبي/الاستقرائي) كما يذهب لوك، أم أنه المنهج (العقلي/الاستنباطي) والذي يتبناه ديكارت.

وفي هذا المناخ الفكري الذي ساد في عصر التنوير الأوروبي كان الروائي الإسباني الشهير ميخائيل دي سرفانتس يفكر في صياغة شخصيته التي بدأت ملامحها تتكشف الآن، هذه الشخصية التي ستجسد في اندفاعاتها العاطفية وتخييلاتها وتوهماتها غير العقلانية وهوسها بأدب الفروسية وأخلاقه البائدة، وستجسد القطيعة المعرفية مع التصورات الغيبية القديمة للعالم التي أنجزها التنوير الأوروبي؛ حيث كانت تلك الشخصية لا تزال تتمثل العالم بصورته السحرية غير العقلانية.

إنها شخصية "دون كيشوت" التي سيولد بولادتها فن الرواية الحديثة، والتي ستصبح بعد ذلك علامة فارقة في تاريخ تطور السرد الروائي من جهة، وعلامة على النقلة المعرفية التي حدثت في تلك الحقبة والقطيعة بين الزمن التقليدي بكل منجزاته الثقافية والفكرية والأدبية، والولوج إلى الزمن الحديث، "زمن العقل والحسابات الكمية التي لا ترتهن إلى استيهامات الخيال وخلجات الوجدان

تدور أحداث رواية دون كيشوت حول رجل طويل القامة وهزيل البنية ناهز الخمسين عاماً، إنه ألونسو كيخانو الذي سيطلق على نفسه لاحقاً اسم “دون كيشوت”، والذي يعيش في واحدة من قرى إسبانيا إبان القرن السادس عشر أي في بدايات عصر النهضة.

قضى ألونسو أيامه من الصبح إلى الليل ومن الليل إلى الصبح” في قراءة أدب الفروسية، حتى إنه كان يبيع قطعاً من أرضه ليشتري بها كتباً عن الفروسية، وقد انتهى به هذا الهوس الشديد بالفروسية إلى فقدانه لصوابه وخلطه بين أوهامه والواقع.

فقد بلغ الهوس بألونسو إلى الحد الذي يقرر فيه استعادة أمجاد الفرسان الجوالين ويقوم بمحاكاة سيرهم في نشر العدل ومساعدة المستضعفين والدفاع عنهم، يقول ألونسو “لقد وُلدت في هذا العصر الحديدي لكي أبعث العصرَ الذهبي”، ولذا فقد أعد عدته للقيام بهذه المهمة العظيمة فقام أولاً باستخراج سلاح قديم متهالك خلّفه له أجداده الغابرين فأصلح فيه ما استطاع، ثم لبس درعاً وخوذة وحمل معه سيفاً ورمحاً وامتطى صهوة جواد أعجف هزيل.

في واقع الحال فقد كان في هذا الجواد المسكين المتهالك من الأسقام والأوجاع أكثر مما كان فيه من الأعضاء السليمة، كان كل ما تبقى منه هو الجلد والعظام وحسب، ورغم ذلك ارتأى صاحبنا أن جواده هذا لم يكن له مثيل في العالم حتى إنه “لم يكن ليبادله بجواد الإسكندر” وعلى مدى أربعة أيام لاحقة، ظل يفكر في اختيار اسم فخم كي يطلقه على جواده؛ إذ من غير اللائق لفارس عظيم مثله أن لا يكون لجواده اسم يُـتَعارف عليه بين الناس، وقد اهتدى آخر الأمر إلى إطلاق اسم “روثينانته” عليه وتعنى الحصان الأول.

بهذه الهيئة التي تشبه فرسان الزمن الغابر انطلق دون كيشوت في رحلته

وامتطى فرسه وبدأ التجوال في القرى والأرياف بحثاً عن المغامرات، ولأنّ التنانين والعمالقة غير موجودين إلّا في رأسه، فإنّه بدأ يتخيل طواحين الهواء هم الأعداء والوحوش العملاقة. ويصل به الهوس لمحاكاة دور الفرسان واتباع نهجهم، الذين يحاربوا المخلوقات العملاقة، ويخرجون لينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الفقراء والمساكين.

توهم دون كيشوت  بأن طواحين الهواء شياطين تنشر الشر في العالم، فقرر أن يحاربها ،اتخذ دون كيشوت رجلا تابعا له يُدعي “سانشو بانزا”، وهو فلاح بسيط، ليرافقه أثناء رحلاته، لكن كيشوت كان يعلم بأن ما يفعله هذا بلا جدوى، بل وأن ما يحارب من أجله إنما هي أوهام.

وحين رأى الناس جنون دون كيشوت رغبوا في علاجه، ورسموا لذلك مخططات لجعله يعود إلى سريره، وفي نهاية القصة فإنّ دون كيشوت يعلم أنّه كان غبيّ لا فائدة مما يفعل، ولكن الأوان كان قد فات، حيث أُصيب بحمّى شديدة مات على إثرها وهو على سريره وجاءت نهايته ، وخلاصة القول أنه أحمق ظن نفسه في مهمة مقدسة ، صارع وادعى واختلق أوهام وخرافات لتحقيق أهدافه وحاول بكل ما أوتى من قوة اقناع  الجميع ان حروب طواحين الهواء  حروب مقدسة.

فلا تفني حياتك وانت معصوم العينيين في طاحونة معارك وهمية، لاهياً عن دورك الحقيقي، تتطاحن في هذه المعارك وأنت تعتقد أنك في حرب مقدسة ، اياك ان يضل سعيك  في الحياة الدنيا وتحسب أنك تحسن صنعا .

بل يصل بك الحال وتعتقد انك تتقرب إلى الإله بأفعالك وخوض غمار هذه المعارك الوهمية  لتحقق النصر المكذوب ...وتعلو رايتك ويتحدث عن بطولاتك وتضحياتك القاصي والداني.

نصيحة لا تنشغلوا بالمعارك الوهميّة ومحاربة طواحين الهواء.. فإنها مَصيدةٌ مَضيعة!!

لذا تمثِّل أوقات صنع القرار لحظاتٍ حاسمة في حياة الفرد، قد تَقوده إلى النَّجاح حسب ما يصدق حدسه بالمستقبل، وتُصيب استنتاجاته طريقها، أو تفتح عليه أبوابًا من السُّقوط في دوامات الفشل.

 فعلينا جميعاً تحديد الأهداف والأولويات حتى لا نصبح مثل الحمقى ونعتقد أننا في حروب مقدسة وتكون حقيقة الأمر أننا نطارد طواحين الهواء.

وزي ما قال العم صلاح جاهين:

لا تجبر الإنسان ولا تخيّره

يكفيه ما فيه من عقل بيحيّره

اللي النهارده بيطلبه ويشتهيه

هو اللي بكره ح يشتهي يغيّره...وعجبي

اكتب تعليق

أحدث أقدم