الاستاذ الدكتورإبراهيم محمد مرجونة ..... يكتب أوقات عصيبة Hard Times

الاستاذ الدكتورإبراهيم محمد مرجونة ..... يكتب أوقات عصيبة Hard Times

 


مقال:  أوقات عصيبة Hard Times

بقلم ا. د إبراهيم محمد مرجونة

أستاذ التاريخ والحضارة الاسلامية

"ما أريده هو الحقائق. لا تلقِّن هؤلاء الأولاد والبنات شيئًا غير الحقائق. ولا نحتاج في الحياة إلى أيِّ شيءٍ سوى الحقائق. لا تزرع شيئًا آخَر، واقتلِعْ كلَّ ما عداها. لا يمكنك تكوين عقول الحيوانات العاقلة إلا بالحقائق، الحقائق وحدها، ولا شيءَ غيرها ينفعهم. هذا هو المبدأ الذي أُنشِّئ عليه أطفالي، وهذا هو المبدأ الذي أربِّي بمقتضاه هؤلاء الأطفال. التزِم بالحقائق، يا سيدي!»

أوقات عصيبة رواية  للكاتب الانجليزي الكبير تشارلز ديكنز، فهى تجسد صراع  الطبقات والأيدلوجيات بين الحقيقة المادية وتحقيق الغايات بكل السبل المشروعة وغير المشروعة وبين الخيال والرومانسية وحب الحياة والسعادة ،عشنا مع هذه الرواية بتفاصيلها عندما كنا ندرسها في الثانوية العامة .

 تشارلز ديكنز كتب «أوقات صعبة» عام 1854، أي بعد سنوات قليلة من اندلاع «حرائق» الانتفاضات العمالية عام 1848. وفي زمن كانت تلك «الحرائق» تحرك مخيلات زملائه الكتّاب والمفكرين وتجعلهم شديدي التفاؤل بالمستقبل الزاهر. هو كان أكثر صواباً منهم: صوّر الواقع كما يراه، أو بالأحرى كما الحال في معظم الأحيان، كما عاشه حقاً. وقال ان ذلك كله لا يمكن أن يفضي الى أي حل. شخّص ما يحدث وقرر أن الحماسة للنزعة «الشارتية» ذات السمات الاشتراكية الانسانية، لن تفضي الى شيء أيضا. ومن هنا حملت روايته هذه، نفس السوداوية التي وسمت معظم ما كان كتب وما سيكتب لاحقاً حول البؤس والبؤساء. بل انه في «واقعيته» الكأداء مهّد الطريق لسوداويات أخرى عادت واستشرت ولا سيما في الأدب الفرنسي الاجتماعي (هوغو، زولا... الخ).

تدور أحداث رواية «أوقات صعبة» في مدينة كوكتاون، حيث تزدهر الصناعة الناشئة وتحدث في طريقها ومن خلال تأثيراتها على أحوال الناس والعمال خاصة، تبديلاً في الذهنيات يتزامن مع ذاك الذي يحدث في الأحوال الاقتصادية للناس. ومنذ البداية يصوّر لنا الكاتب تصويراً يكاد يكون فوتوغرافياً جديراً، على سبيل المثال بعمل لإميل زولا، كيف ان الصناعة المزدهرة هنا تستأثر بكل ما في المدينة: بمياهها، بسمائها، بالنساء والرجال، وبشتى الطبقات الاجتماعية بما فيها الطبقتان الصاعدتان بفضل الصناعة: البورجوازية والبروليتاريا. وإذا كان ديكنز رمز الى البروليتاريا بشخصية العامل بلاكبول ، فإنه رمز الى البورجوازية عبر شخصيتين أساسيتين، كل منهما رب عائلة ويمثل قطاعاً من البورجوازية يختلف عن الآخر: فهناك من ناحية مدير المدرسة غراد غريند، الذي كان - لفرط ما لديه من نزعة مادية - يرى أن تربية الصغار يتعين أن تساير «الوقائع» وتكون خاضعة لها. وهو، تشديداً على نزعته هذه، يربي أطفاله أنفسهم تربية شديدة المادية و»النفعية» وائدا لديهم كل قدرة على الإبداع والتخيل، وكل حساسية وكل نزعة مثالية.

وأصبح صاحب الفكر والرؤى والخيال والإبداع غير سوي ومتهم من وجهة نظر مدير المدرسة غراد غريند

وهناك شخصية موجودة في الرواية منذ بدايتها بل لا تخلو منها اي رواية بوصفه شخصية  ابن طبقة طفيلية تعتقد أنها تجسد البورجوازية، لكنها بالأحرى خادمة لها، لا جزء حقيقي منها، هناك السيد باوندرباي، رجل الأعمال والمصرفي، صديق مدير المدرسة. وهو، هنا بورجوازي  يعيش حياته وأفكاره في خط واحد لا يتطور، ذلك ان وصوليته البينة وانتهازيته الواضحة - وهما يعبران عن ترسخه الطبقي على عكس ما هو حادث بالنسبة الى غراد غريند، غير الراسخ طبقياً -، يمنعانه من أي تفاعل انساني مع الواقع المعاش. والجزء الأساس من الرواية يتتبع مسار حياة الشخصيتين «البورجوازيتين» - معاً ومنفردتين وكذلك في علاقة كل منهما مع أولاده - فإذا كان مدير المدرسة يكتشف ذات يوم أن تربيته لأولاده قد أدت الى كارثة وانه قد عاش حياته وأفكاره وهو يؤله مبدأ الربح في نزعة وضعية وربما ذرائعية أيضاً، لا علاقة لها بأية مشاعر انسانية أو أخلاقيات أو قدرة حقيقة على الوصول الى السعادة، فإن صاحب المصرف، صديقه، لا يكتشف شيئاً لأنه آلة حقيقية لمراكمة الأموال. واللافت هنا انه من بين أولاد غراد غريند وغيرهم من الأولاد، وحدهن الفتيات الأصغر ينفذن بجلدهن من ذلك الجمود المادي، ذلك انهن يقعن تحت تأثير المهرجة ، التي كان جراد جريند لا يكف عن اضطهادها منذ بداية الرواية. ولأن المهرجة فقيرة، كان من المنطقي أن تحظى بحب تشارلز ديكنز، لأن الفقراء، في رأيه «يعرفون عادة كيف يحافظون على أفئدتهم صافية نقية»، ما يجعلهم ويجعل شجاعتهم الأمل الوحيد المتبقي لخلاص هذا النوع من المجتمعات.

وتُعَد شخصية السيد «جرادجريند» مثالًا حيًّا لسكَّان هذه المدينة؛ فهو رجل لا يؤمن إلا بالمادة، ويرى أن الشعور أو الخيال درب من دروب العبَث، وأن الحقائق هي السبيل الوحيد في الحياة، ويبدأ في تربية ولدَيه «توم» و«لويزا» على هذه المبادئ. وفي مقابل عائلة «جرادجريند» المادية، توجد شخصية «سيسيليا»، ابنة رجل السيرك وتلميذة «جرادجريند»، التي تؤمِن بضرورة الخيال في الحياة، وترى أن المادةَ وحدَها تخلق عالمًا متوحِّشًا يفتقر إلى الإحساس والإنسانية، وأن من الضروري التوازُن بين الواقع والخيال. تتصاعد أحداث.

ثم نصل الى شخصية البروليتاري بلاكبول، الذي يقع ذات مرة ضحية لمؤامرة يحيكها ضده ابن سيده صاحب العمل؟!

 ومرة ثانية ضحية لسذاجة رفاقه في العمل في مصنع الحياكة؟!

 وإذا كان بلاكبول يمثل هنا شرف الطبقة العاملة ونزاهتها، فإن رفاقه لا يماثلونه استقامة، ما يكشف عن ازدواجية المعايير في نظرة ديكنز الى هذه الفئة من أبناء المجتمع: فهو، بعد كل شيء، كان يرى أن الطبقة العاملة موزعة بين سذاجتها وبين طيبتها وبين خضوعها الى الديماغوجيين الذين يقودونها.

في نهاية الرواية يكتشف السيد «جرادجريند» فسادَ نظريته، وأن مبدأ «سيسيليا» في الحياة هو الصواب ،وتظهر صورة المجتمع بكل ازدواجيته وتناقضاته وضياع الكثير بسبب الديماغوجيين ،وترسم رواية (أوقات عصيبة) صورة قاتمة لمدينة صناعية إنجليزية في العصر الفيكتوري بعيدة كل البعد عن معرفة العواطف البشرية الدافئة واستعمال الخيال أو حتى قراءة الشعر..!

ولكن في قلب هذه القتامة، وفي بيت السيد جراد جرايند الذي يعيش الواقع وبالواقع ثم للواقع تنبت زهرة صغيرة (ابنة جراد جرايند) التي ترفض مثل هذه الحياة التي ليست بحياة وتتمنى لو عاشت حياة أخرى.


اكتب تعليق

أحدث أقدم