بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
جاء في اللسان: "القِيمة: واحدة القِيَم، وأَصله الواو؛ لأَنه يقوم مقام الشيء".
والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم، تقول: تَقاوَمُوه فيما بينهم، وإذا انقادَ الشيء واستمرَّت طريقته، فقد استقام لوجه"[1].
ولا يكاد هذا المعنى يَبتعِد عن فَهْم الإنجليز والفرنسيين للقيمة، (value) في الإنجليزية التي تُدلُّ على الاعتدالِ والاستواء وبلوغ الغاية[2].
وحينما نتجاوَز المعيار اللُّغوي ونَدلِف إلى باحات الاصطلاح، نجد اللفظَ قد استجاب لرغبات المتخصصين، فجعلوه واحدًا من مصطلحاتهم، فعلماء اللغة يتحدَّثون عن قيم نحوية تُحدِّد للكلمات معاني في الجملة، وأن قيمة الكلمة تَكمُن في كيفيَّة استخدامها أو في استخدامها بشكل سليم، بينما يتحدَّث علماء الرياضيات عن القيمة باعتبارها الدال على العدد والكميَّة، ثم نجد الفنانين يَجمَعون في حديثهم عن القيم بين الكم والكيف، فللألوان عندهم قيمة، وللأشكال قيمة، وهناك علاقات تشابكيَّة تجعل اللوحة ذات قيمة جمالية، ويَخلُص علماء الاقتصاد إلى أن القيمة هي المكافئ للشيء الذي يُمكِن استبداله به، ولا تتمثَّل القيمة إلا بعد حضور الرغبة، وفي هذا يقول الاقتصادي الكبير (شارل جيد) في كتابه "محاضرات في الاقتصاد السياسي": "إن القيمة هي عمليَّة إضاءة الأشياء بشعاع الرغبة الذي نُسقِطه عليها"[3].
وهناك عدَّة تعريفات للقيم عند علماء الاجتماعِ وغيرهم؛ فقد عرَّفها بعضهم على أنها "مجموعة من الأحكام المعياريَّة المتَّصِلة بمضامين واقعيَّة يتشرَّبها الفرد من خلال انفعاله وتفاعُله مع المواقف والخبرات المختلفة"[4]، ويُعرِّفها روبن في الموسوعة الدوليَّة للعلوم الاجتماعية بأنها "إدراك للمرغوب فيه وسلوك تأثيري مختار"[5].
أما القيم السياسية، فتُعرَّف بأنها مثاليات سياسية تُغلِّف الإطار الفكري للإنسان ككائن سياسي يسعى للسلطة، ويتعامَل مع غيره من الناس على قَدَم المساواة[6].
وقد أخذت القيمة مكانة مرموقة في تاريخ الحضارات البشريَّة، فعنيت بها الأجيال، وتَقارَب الوعي البشري في تحديد مفهومها المتمثِّل في العدل والمساواة والعِفَّة والصبر والشجاعة والتواضع والحق والصدق والمحبة بين جميع البشر على اختلاف مشاربهم وأعراقهم وعقائدهم ولغاتهم، فـ"ثقافة الفراعنة" تُركِّز على الإيمان بالبعث والحياة الأخرى، بحيث نلاحِظ أن مختلف جوانب حياة الفرد في حياته الأولى تتأثَّر بفكرة استمرار وجوده، وقد حفَّز هذا الاعتقاد المصريين الأوائل على الاحتفاظ بأجساد موتاهم، والنهوض بصناعة التحنيط التي ارتبطت بمفهوم الخلود"[7].
وفي الحضارة الفارسيَّة المجوسيَّة هناك اعتقاد "بوجود إلهين اثنين، أو مبدأين للوجود: أحدهما النور، والآخر الظُّلمة"[8]، ومن خلال هذا التصور المبدئي لهذه الفلسفة الأيديولوجية الفارسية تتوسَّع مفاهيم القيم بين الخير والشر.
وإذا ما انتقلنا إلى الفلسفة الهندية، فإننا نجد أن مفهوم القيمة فيها "يرتبط بفكرة التمييز بين وجود (الإله) براهما Brahman))، وهو وجود مُطلَق وعام، ولا نهائي لا يجوز عليه التغيُّر، و(الأتمان) (atman)، الذي هو الضمير في كلِّ فرد، وعندما يَنجَح (الأتمان) أو الفرد في تحقيق ذاته وتوكيدها بحيث تتطابَق مع المُطلَق أو براهما، فإنه عندئذٍ يتخلَّص من كل الشرور التي تُصاحِب وجود الظواهر الجريئة"[9].
وفي الحضارة الصينيَّة يتَّضِح مفهوم القيمة من خلال جدليَّة العلاقة بين عالم الطبيعة وعالم الرُّوح كمتضادين مُتنازِعين، حيث يُشكِّل الإنسان - فيها - مركز الكون، وهو مُدرِك للمسؤولية، لكنه يقف في المقابل ندًّا لقوى الكون السماوية والأرضية، ومن هنا نجد أن مفهوم القيمة عند الصينيين يرتبط بالواقع، حيث يخضع كلُّ عملٍ في الحياة لمفهوم العدالة؛ أي: واجب الفرد تُجاه أسرته أو المجتمع الذي يعيش فيه [10].
وقد تجسَّدت القيم الأخلاقيَّة والسياسية في الفلسفة (الكونفوشيوسية) في نظرته إلى الإنسان النبيل الذي يضع رفاهية البشريَّة نُصْب عينيه، فقد سأل أحد المريدين (كونفوشيوس) عن الإنسان النبيل أو الأعظم، فأجاب: "قلبه خلْو من الخوف، فهو عندما يَستعرِض أعماله لا يجد سببًا من الخشية من الناس، أو مبرِّرًا لعذْلهم إياه، أو تبكيت ضميره، وللمِنهاج النبيل "الماجد" ثلاث زوايا: لا يُحِس بالقلق لكرَم أخلاقه، وهو لحكمته بريء من الحَيرة والتشوش، ولشجاعته لا يخشى أحدًا"[11].
أما في الغرب، فقد بدأت تراكماتُ الفِكر الأوربي الحديث تأخذ نَمطَها المغاير مع نهايات القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، وبدأت تتشكَّل معالم نمطٍ جديدٍ من الفكر البشري، يُبنى على أسس اقتصاديَّة رأسماليَّة، وصِراع تناقُضي في جوانب مُتعدِّدة اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، وسجَّل التاريخ منذ ذلك العهد انفصامًا بليغًا بين مرحلتين، سمى الأوربيون ما بعد الأولى عصر التنوير أو عصر النهضة، وهو عصر ثوري بامتياز، حيث حملت هذه الثورات الاقتصادية والصناعية والاجتماعية منظومة القيم الحديثة، لتنتقل بها إلى عالَم التشكيل السياسي الجديد، خصوصًا في مجال الديمقراطية التي أصبحت صِبغة أوروبا السياسية منذ ذلك التاريخ؛ ففي هولندا مَطلَع القرن السابع عشر، وفي بريطانيا 1641 - 1688، ثم الثورة الفرنسية الكبرى 1789 - 1815، والثورة الألمانية في منتصف القرن التاسع عشر.
وقد كان للغزو الاستعماري الحديث والاحتكاك المباشر بيننا وبين الغرب أثره البارز في تصدير ذلك الفِكر الأوروبي إلينا، وبروز النزعات العلمانيَّة المنادية بفصل الدين عن الدولة، واختيار النمط الأوروبي في التفكير ونظام الحياة، بل إن انقلابًا حقيقيًّا مَسَّ هذه الأمة مع بدايات القرن المُنصرِم حين تَمَّ هدْم الخلافة الإسلاميَّة سنة 1924م، وما سبقها من تفتيت عملي لوَحدة الأمة كما في اتفاقيات سايكس بيكو وسان ريمو، وما رافَقَ ذلك من انتداب واسعٍ، وتقسيم كعكة الأمة بين الحلفاء.
ومنذ ذلك التاريخ والأمة تُصارِع للحفاظ على هُويَّتها أمام هذا التيار الجارف الذي أحدث انقلابًا حقيقيًّا في منظومة القيم الإسلامية التي سادت المنطقة عبر قرون.
وحينما نبدأ الحديث عن مُنطلَقات ذلك التصور القيمي الغربي الوافد الغريب، فإن الذاكرة ستلتقي مع أولئك الذين كان لهم أثر بارز في تشكيل هذه القيم المعاصرة.
ولعلَّ من أبرز هؤلاء المفكِّرين الأوائل الذين وضعوا اللَّبِنات الأولى لهذه المرحلة في الجانبين السياسي والفكري:
• نيقولا ميكافيللي (1469 م - 1527 م):
يُعَد واحدًا من أكبر فلاسفة الغرب البرجوازيين الذين دلَفوا إلى عالم السياسة من خلال فلسفة فكرية قِوامها الأنانية، فهو صاحب المقولة المشهورة: "إن الناس ينسون موت آبائهم أسرع من نسيانهم فقْد ممتلكاتهم"[12]، ومن ناحية ثانية، فقد كان ميكافيللي يرى: "أن القوة هي أساس الحق في سياق حديثه عن ضرورة قيام الدولة الزمنيَّة المضادة (البديلة) لدولة الكنيسة، ويؤكِّد على أن ازدهار الدولة القويَّة المُتحرِّرة من الأخلاق، هو القانون الأسمى للسياسة، وأن جميع السبل المؤدِّية لهذا الهدف طبيعيَّة ومشروعة بما فيها السبل اللاأخلاقية: (كالرِّشوة والاغتيال ودَسّ السُّم والخيانة والغَدْر)، والحاكم عنده يجب أن يتمتَّع بخِصال الأسد والثعلب، وسياساته هي سياسة "السوط والكعكة"، هذه هي النزعة الميكافيللية التي تُبرِّر كلَّ شيء للوصول إلى الهدف السياسي، وهي تُوضِّح معنى الفرديَّة والإقرار بالاهتمامات الشخصيَّة التي أشرنا إليها أعلاه"[13].
• فرنسيس بيكون (1561م - 1626 م):
وهو فيلسوف إنجليزي "أول مَن حاول إقامة منهج علمي جديد يرتكِز إلى الفَهْم المادي للطبيعة وظواهرها"؛ وهو مؤسِّس المادية الجديدة والعِلم التجريبي وواضع أسس الاستقراء العلمي؛ فالغرض من التعلم عنده زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عن طريق التعليم الذي يَكشِف العِلل الخفيَّة للأشياء.
• رينيه ديكارت (1596 م - 1650 م):
وهو فيلسوف فرنسي وعالم رياضيات وفيزيائي وعالم فسيولوجيا، بعد أن أدَّى فترة تجنيده العسكرية، استقرَّ في هولندا الدولة الرأسماليَّة الأولى في عصره، حيث كرَّس نفسه للبحث العلمي والفلسفي؛ وبسبب آرائه اضطهَده اللاهوتيون الهولنديون؛ مما اضطرَّه إلى الانتقال إلى السويد عام 1649 حيث مات بعد ذلك بعام.
وترتبِط فلسفة "ديكارت" بنظريته في الرياضيات وعِلم نشأة الكون "الكوسموجونيا" والفيزياء، وهو أحد مؤسِّسي الهندسة التحليليَّة.
• جون لوك (1632م - 1704م):
من كِبار فلاسفة المادية الإنجليزية، وقد برهَن على صحَّة المذهب الحِسي المادي الذي يُرجِع جميع ظروف المعرفة إلى الإدراك الحِسي للعالم الخارجي.
رفض وجود أيَّة أفكار نظريَّة في الذهن؛ فالتجرِبة بالنسبة له هي المصدر الوحيد لكافَّة الأفكار! وحول فلسفته يقول ماركس: "لقد أقام لوك فلسفةَ العقل الإنساني السليم؛ أي إنه أشار بطريقة غير مباشرة إلى أنه لا وجود لفلسفة إلا فلسفة البصيرة المُستنِدة إلى الحواس السليمة".
ومن آرائه الاجتماعية والسياسية قوله: "بأن مهمة الدولة هي صيانة الحريَّة والمِلكية الفردية، وعلى الدولة أن تَسُن القوانين لحماية المواطن ومعاقبة الخارجين عن القانون"، وقال أيضًا: "إن الحالة الطبيعية للبشر تتأكَّد عند سيطرة الحريَّة والمساواة كمفاهيم أساسية تَحكم المجتمع"، وتتوزَّع السلطة عنده إلى سلطة تشريعية وسلطة تنفيذيَّة وسلطة اتحادية، كما طالَب بالفصل التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد دعمت آراؤه التوجهات الليبرالية في بريطانيا آنذاك.
• جان جاك روسو (1712 - 1778):
إن أهميَّته ليست في أفكاره الفلسفيَّة النظرية، بل في تلك الأفكار الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والتربوية التي طرَحها، وكان أكثر وضوحًا من كل المنورين الفرنسيين في عهده، وهو من الذين نادوا بالمصالح البرجوازية ضد الإقطاع، فقد ناضَل روسو ليس فقط ضد السلطة الإقطاعية، بل كان مستوعبًا لتناقضات المجتمع الفرنسي أكثر من غيره؛ فقد وقف مع وِجْهة نظرِ البرجوازية الصغيرة "الراديكالية" والفلاحين والحرفيين، وكان موقفه أكثر ديمقراطيَّة من مُعاصريه.
ففي كتابه "العقد الاجتماعي" يُحاوِل روسو البرهنة على أن الوسيلة الوحيدة لتصحيح التفاوت الاجتماعي هي في ضمان الحريَّة والمساواة المُطلَقة أمام القانون، وهذه الفكرة لاقت ترحيبًا فيما بعد عند رجال الثورة الفرنسية - لا سيما اليعاقبة - طرَح روسو في العقد الاجتماعي نظام الجمهورية البرجوازي الذي أكَّد فيه أن الحياة السياسية يجب أن تقوم على سيادة الشعب المطلقة، ورفَض تقسيم السلطة إلى تشريعية وتنفيذية، واقترح بدلاً منها الاستفتاء الشعبي العام في جميع الأمور السياسية الهامة، أسهم "روسو" في الإعداد الفكري للثورة البرجوازية الفرنسيَّة بشكل فعَّال، وكان مُتقدِّمًا في أفكاره، فهو يرى أن أصل الشرور والتفاوت بين البشر يعود إلى الملكيَّة الخاصة باعتبارها سبب العداء والأنانية بين البشر.
________________________________________
[1] ابن منظور، لسان العرب، (ص: 3783)، ج (5)، دار المعارف، د. ت.
[2] صلاح الدين بسيوني رسلان، القيم في الإسلام بين الذاتيَّة والموضوعيَّة، (ص: 8)، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1990.
[3] انظر: بول سيزاري، القيمة؛ ترجمة: الدكتور عادل العوا، (ص: 6)، منشورات هويدات، بيروت، 1983.
[4] ضياء زاهر، القيم في العمليَّة التربوية، القاهرة، مؤسسة الخليج، 1984، (ص:10- 12، ص: 22).
[5] Robin W, The Concipt of Values, David-L, Sills (EDS), ENTERNATIONAL ENCYCLOPEDIA of the social sciences. new York.the macmillen campany and free pressk .1968.volum16.pp.283-286 نقلاً عن القيم السياسية في الإسلام د. إسماعيل عبدالفتاح، الدار الثقافية للنشر، ط1 1421هـ / 2001م (ص: 13).
[6] القيم السياسيَّة في الإسلام (ص: 34).
[7] القيم في الإسلام بين الذاتية والموضوعية، (ص: 14).
[8] نفسه، (ص: 14).
[9] نفسه، (ص: 17).
[10] انظر: فؤاد محمد شبل، حكمة الصين، (ص: 44)، دار المعارف، مصر.
[11] القيم الإسلامية بين الذاتية والموضوعية (ص: 23).
[12] انظر: غازي الصوراني، الفلسفة الأوروبية الحديثة (1) عصر النهضة وتَطوُّر الفلسفة الأوروبية والتنوير حتى نهاية القرن الثامن عشر، الحوار المتمدن.
[13] نفسه.
إرسال تعليق