بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
ذهب بعض دارسي الفن الإِسلامي من الغربيين إلى محاولة تفسير بعض الظواهر الفنية الإِسلامية بأنها رموز لمعانٍ..
فهيئة المحراب وزخرفته - مثلًا - حيلة ترمز إلى النبوة، وذلك يعني أن المسلمين قد اتخذوا المحراب رمزًا لوجود الرسول صلى الله عليه وسلم أمامهم دائمًا يؤمهم في صلاتهم؟! وفي كل مسجد، وفي جميع العصور إلى يوم القيامة... هذا ما يراه البروفسور "بابا دوبولو" مدير مركز دراسات جماليات فنون المسلمين في جامعة السوربون[1].
ومن هذا المنطلق في الرمزية كان لا بد من أن يصل الأمر إلى الزخرفة الهندسية، التي كانت دائمًا تعد دائمًا فنًا تزيينيًا. ولكنها الآن في ضوء الفن التجريدي الحديث يحسن أن يفتش لها عن وظيفة غير تلك التي تعارف عليها المسلمون خلال أجيالهم المتعاقبة.
وقد فعل ذلك "مارسيل بريون" حيث اعتبرها أساسًا للتجريدية الحديثة[2]، ونفى بالتالي عنها صفة التزيين، لأن التجريدية الحديثة ليس من مهمتها ذلك. والتجريد. في رأيه تعبير عن الروحاني وعن الإِلهي، وهكذا أعطيت الزخرفة الإِسلامية صفة "الرمزية". يقول "بريون":
"إن الفنان في كل مرة يسعى فيها إلى التعبير عما هو روحاني أو إلهي، كان يسعى إلى التجريد، وهذا ما تم بالفعل بالنسبة للفن الإِسلامي بصورة عامة، حيث كان المتعالي يعبر عنه دائمًا بصورة غير تشبيهية، وكذلك كان الأمر بالنسبة للفن اليوناني البدائي حيث كان مبعث إقامة الأصنام التجريدية، الشعور بأن تشخيص الآلهة استخفاف لقيمتها"[3].
وهكذا تلتقي البدائية الفنية اليونانية القائمة على الوثنية، مع الفن الإِسلامي في أوج رقيه.. ليكون كلًا منهما تعبيرًا عن المتعالي في رأي "بريون"؟!
ولسنا في صدد مناقشة هذا الكلام وإنما سقناه لبيان ذلك الاتجاه الذي يريد أن يوظف الزخرفة الإِسلامية لحساب الرمزية. وقد رأينا بعض الكتاب المسلمين يسيرون في هذا الاتجاه المنحرف وقد فعل ذلك بعضهم عن حسن نية[4].
ولبيان هذه النقطة نقول:
إن القاعدة التي ينطلق منها الفن الإِسلامي، هي غير القاعدة التي ينطلق منها الفن الغربي. كما رأينا.
وإن مفهوم "التجريد" في لغة الفن الإِسلامي هو غير مفهوم التجريد في الفن الغربي، كما رأينا.
ولقد كان التجريد في الفن الغربي نهاية لتيه الفنان، أو حلقة في سلسلة التيه، حاول أن يجد فيه طريقه إلى ما هو بحاجة إليه من الأمن النفسي والبعد عن القلق.. بل والتعرف على المطلق!!
أما التجريد في الفن الإِسلامي فقد كان التزامًا من الفنان، العارف لما يريد، والقاصد له، والذي كان على وضوح تام بشأن عقيدته، التي لم يدخلها تحت معميات الأسماء..
هذه النقاط التي لم تعط نصيبها من الإِيضاح كانت سببًا في وقوع هذا الانحراف في الفهم، هذا إذا سلمنا بعامل حسن النية.
يقول "ميشل سوفور": "إن الفنان التجريدي يسعى وراء الكلي في الخاص، وإيجاد الجمال لا يختلف عن اكتشاف الكلي، هذا الكلي هو الله، والتعرف على الإِله في أي عمل فني هو الشعور بانفعال بديعي"[5].
وهكذا يبين لنا غاية الفنان التجريدي: إنه من خلال عمله الفني الخاص يسعى إلى التعرف على الكلي الذي هو الله. والإِله في العمل الفني هو شعور بانفعال جمالي!!
قد نعذر الفنان الغربي التائه في أن يجد في التجريد الوسيلة للتعرف على الكلي.. هذا التعرف الذي لن يزيده إلا إيغالًا في الظلام.. ولكنا لا نقبل أن ينتقل هذا المفهوم إلينا، لأنه غير واقعي وغير حقيقي وغير صادق.
إن الفنان المسلم الذي ابتعد عن الرسم التشبيهي انطلاقًا من التزامه بتنفيذ حكم شرعي، لم يكن ليقع في سبيل ذلك بانتهاك حكم عقيدي، فالله سبحانه وتعالى، ليس مجهولًا بالنسبة إليه حتى يتعرف عليه بواسطة فنه.. وحتى لو كان الأمر كذلك فليس الفن في هذا الميدان هو وسيلة المعرفة.
إن المنهج الإِسلامي - والكتاب والسنَّة مصدراه - قد تكفل ببيان واضح لا لبس فيه في قضية التعرف على الله تعالى، ذاتًا وصفات وأسماء، وليس في هذه القضية غموض حتى يترك للفن كي يوضحه. قد يصلح هذا - إن صلح - في غير الإِسلام.
لا بد من التأكيد، بأن الزخرفة الهندسية الإِسلامية ليست رمزًا وإنما هي عمل تزييني جمالي، ولم يفكر الفنان المسلم أبدًا في يوم من الأيام أن يحملها تلك الفلسفة، لأنه لم يعش في تلك المتاهات التي عاش فيها الفنان الغربي.
________________________________________
[1] مجلة منار الإِسلام العدد العاشر السنة الخامسة. شوال 1400هـ. بحث بعنوان المحاريب في الإِسلام.
[2] جمالية الفن العربي. د. عفيف بهنسي ص 106.
[3] المصدر السابق ص 104.
[4] من ذلك ما ورد في كتاب جمالية الفن العربي للدكتور عفيف بهنسي حيث قال: ويلتقي الرقش العربي والفن التجريدي مرة ثانية في مجال الانطلاق للتعبير عن المطلق. لقد كان المطلق عند العربي هو المثل الأعلى، هو الحق، هو الجوهر، هو الله، ولذلك سعى عن طريق الفن إلى إدراك الحق شأنه شأن الصوفي الذي كان يسعى عن طريق الاجتهاد إلى الاندماج بالله"!!. ص 104.
وقد وقع في هذا الخطأ أيضًا المرحوم الدكتور إسماعيل فاروقي وذلك في صدد تفريقه بين الفن الغربي والفن الإِسلامي حيث قال: فالفن المرئي في المغرب يقوم كاملًا على الطبيعة الإنسانية سواء تم التعبير عنها خلال الشخوص البشرية أو المناظر الطبيعية أو الأحياء، أو حتى خلال اللوحات التجريدية. أما الفن المرئي الإِسلامي فلم يكن مهتمًا بالطبيعة الإِنسانية وإنما كان اهتمامه بالطبيعة الإِلهية.
[مجلة المسلم المعاصر. العدد 25 لعام 1981 ص 107].
[5] جمالية الفن العربي. د. عفيف بهنسي ص [105].
إرسال تعليق