مقال بعنوان:
“خرفان بانورج”
بقلم ا.د إبراهيم مرجونة
استاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
إن أخطر معضلة تعاني منها المجتمعات هي عملية تغييب العقل بعملية ممنهجة وموجهة. يقول الكاتب السوداني أحمد سالم شيخ العلهي: «فبتغييب العقل يغيب الإدراك والوعي ويصبح الإنسان مسخًا ومتلقيًا ومتمرسًا بعصبية وغلو لما تم تلقينه، فاقدًا للغة الحوار والنقاش والتحليل المنطقي. وبهذا المنهج الخطير، منهج تغييب العقل والسيطرة عليه، يصبح الناس كالقطيع فاقد الإرادة والحكمة».
وفى إطار الحديث عن أهمية الوعي في مواجهة الجشع المادي وموجات الاحتكار التى يمارسها بعض التجار ولا سيما في الأزمات،
وهناك قصة فرنسية تحكي عن ثقافة القطعان التى صارت بعد ذلك مضرب المثل فى كثير من المواقف السياسية التى تتحدث عن القطعان وغياب الوعي.. ولما نشبه المغيبين دائماً بالخرفان، فتحكي القصة عن رجل يُدعي “بانورج ” كان في رحلة بحريّة على متن سفينة. وكان على نفس السفينة تاجر الأغنام “دندونو” ومعه قطيع من الخرفان المنقولة بغرض بيعها.. كان “دندونو” تاجراً جشعاً يمثل أسوأ ما في هذا العصر وهو غياب الإنسانية.. وحدث أن وقع شجار على سطح المركب بين “بانورج” والتاجر “دندونو” صمم على أثره “بانورج” أن ينتقم من التاجر الجشع ، فقرّر شراء خروف من التاجر بسعر عال.
ووسط سعادة “دوندونو” بالصفقة الرابحة، وفي مشهد غريب يمسك “بانورج” بالخروف من قرنيه ويجره بقوة إلى طرف السفينة ثم يلقي به إلى البحر، فما كان من أحد الخرفان إلاّ أنْ تبع خطى الخروف الغريق ليلقى مصيره المحتوم ، ليلحقه الثاني فالثالث والرابع وسط ذهول التاجر وصدمته، ثم اصطفت الخرفان الباقية في “طابور مهيب” لتمارس دورها في القفز.
جن جنون تاجر الأغنام “دندونو” وهو يحاول منع القطيع من القفز بالماء ، لكنّ محاولاته كلها باءت بالفشل ،فقد كان “إيمان”الخرفان بما يفعلونه على قدر من الرسوخ أكبر من أن يُقاوم، وبدافع قوي من الجشع اندفع “دندونو” للإمساك بآخر الخرفان الأحياء آملا في إنقاذه من مصيره المحتوم ، إلّا أن الخروف “المؤمن” لم يستطع التخلي عن ثقافة القطيع التي جُبل عليها، وكان مصراً على الانسياق وراء الخرفان، فسقط كلاهما في الماء ليموتا معًا غرقاً.
ومن هذه القصة صار تعبير “خرفان بانورج”
(moutons de Panurge) مصطلحاً شائعاً في اللغة الفرنسية ويعني انسياق الجماعة بلا وعي أو إرادة وراء آراء أو أفعال الآخرين.. وانتقل بعد ذلك المصطلح إلى كافة المجتمعات الإنسانية ليؤكد على أنه ليس أخطر على مجتمع ما من تنامي روح القطيع لديه.
ومن أسباب غياب الوعي ونشر التفاهة الهروب من الواقع،ففي ظل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، يلجأ البعض إلى المحتوى الترفيهي كوسيلة للهروب من الواقع الصعب، ما يُفسح المجال أمام انتشار التفاهة.
وغياب القدوة الفكرية
مع تراجع دور المثقفين والمفكرين في قيادة المجتمع، أصبح المشاهير وأصحاب المحتوى التافه في صدارة المشهد، مما يعمّق الأزمة.
ومن الآثار المترتبة على غياب الوعي
• تدهور القيم الثقافية: انتشار التفاهة يؤدي إلى تشويه المفاهيم الثقافية وتحويلها إلى مواد استهلاكية بدلًا من أن تكون مصدر إلهام.
• ضعف الهوية المجتمعية: غياب الوعي يعوق المجتمعات عن فهم قضاياها الجوهرية والعمل على حلها.
• الاستسلام للتبعية: تصبح المجتمعات التي تنشغل بالتفاهات غير قادرة على مواجهة التحديات العالمية أو المطالبة بحقوقها.
ولإعادة الوعي المفقود علينا
. تعزيز التعليم النقدي
يجب أن يركز التعليم على غرس مهارات التفكير النقدي والبحث العلمي، مما يمكن الأفراد من تحليل المحتوى وتمييز ما ينفعهم.
. تشجيع المحتوى الهادف
دعم المبادرات التي تنتج محتوى ثقافيًا وعلميًا عالي الجودة يمكن أن يساعد في تغيير تفضيلات الجمهور.
. إحياء دور المثقفين
على المثقفين العودة إلى الساحة الإعلامية والتفاعل مع الجمهور لتقديم بديل فكري جاد ومؤثر.
. تنظيم منصات التواصل
يمكن الحد من انتشار المحتوى التافه عبر سياسات تُشجع على عرض محتوى متوازن وهادف.
وأخيراً : فإن غياب الوعي وانتشار التفاهة يشكلان تحديًا كبيرًا يتطلب تضافر الجهود بين الأفراد والمؤسسات. بناء مجتمعات واعية وقادرة على التمييز بين القيم الحقيقية والزائفة هو مسؤولية جماعية تبدأ من الأسرة والتعليم وتمتد إلى الإعلام والسياسات العامة.
إرسال تعليق