بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن لكل حضارة غيبها ومعتقداتها التي تمثل المبادئ والضوابط الحاكمة لحركة الفكر فيها بحثًا عن حلول لمشكلات واقعية، وقلنا: إن الحضارات تتمايز بمقدار اتساق المبادئ مع حركة الفكر شمولية ومرونة في ضوء منهاج للمعالجة.
والحضارات الإسلامية عبر تاريخها الطويل - وقبل تغلغل النمط الغربي في تعليمها وإعلامها ونُظُمها - كانت ككل الحضارات لها مبادئها التي تمثل العقيدة وتصور الإسلام للإنسان والكون، وكان لها اجتهادات - وَفْقَ منهاج متميز - فأخذت سمتها التي عرفت به، وخصائصها التي ميزتها عن غيرها، ثم كان ما كان من أمر التفريغ الثقافي، وحالة الانفصام بين الفكر والمبادئ، فإذا أريد للنهضة المعاصرة أن تنبني على فكر موحد المصادر والمنهاج، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق دون أن يعيش المسلمون وحدة المصادر ووحدة المنهاج.
وحدة المصادر:
تشترك كل الثقافات في أن الدين بمعناه العام - الذي هو فطرة الإنسان - يشكل عنصرًا محوريًّا فيها، ثم بقدر شمول هذا الدين لما يحفظ على الإنسان إنسانيته، وبقدر تغلغله إلى أغوار النفس تغلغلًا يضبط الأهواء بإرادة واعية بهذا الضبط، بقدر هذا كله تكون قوة العواصم التي تعصم صاحبها من كل عيب فادح في النظر أو التطبيق.
وهذا (الأصل الأخلاقي) - كما يسميه الأستاذ محمود شاكر - هو (العامل الحاسم الذي يمكن لثقافة الأمة بمعناها الشامل أن تبقى متماسكة مترابطة تزداد على الأيام تماسكًا وترابطًا، بقدر ما يكون في هذا (الأصل الأخلاقي) من الوضوح والشمول والتغلغل والسيطرة على نفوس أهلها جميعًا)[1].
وهذا (الأصل الأخلاقي) ليس قواعد عقلية ينفرد العقل بتقديرها ابتداءً من عند نفسه؛ لأنها تتعلق بالإنسان بالدرجة الأولى، والإنسان كائن متعدد الجوانب، معقد النواحي، شائك السلوك، يحتاج قوة أكبر من مداركه وفهمه تضع له الأصول والضوابط، (فالقواعد العقلية المجردة لا تكاد تقوم بهذا العبء كله، بل العقائد وحدها هي صاحبة هذا السلطان على هذا الإنسان)[2].
وقد اهتمَّ المسلمون بهذا الأصل الأخلاقي واعتنوا به فحُفِظت الثقافة الإسلامية متماسكة رغم ما يمر بها من إحن ومحن، بل أنتجت علومًا اهتمَّت بهذا الأصل كأدب العالم والمتعلم، والفقيه والمتفقه، وعلم الجدل، وعلم المناظرة ونحوها، مما يؤكد تمييز الثقافة الإسلامية بالوحدة والترابط إلى حد أنه نظر إليه على أنه إحدى عجائب الحضارات والثقافات البشرية[3].
وفي الإسلام نأخذ هذا الأصل وهذا الاعتقاد من مصادره (الكتاب والسنة) وحيًا من عند الله الذي خلق فسوى وقدر فهدى، ثم يقف العقل مصدرًا معترفًا به من الوحي نفسه فيما يستطيع أن يعمل به، والعلاقة بين الوحي والعقل شغلت حيزًا كبيرًا في الفكر الإسلامي، ولكن الأمر عند التدقيق يظهر أن العلاقة بينهما علاقة تكامل لا بد منها؛ فالعقل معتبر من الشرع لكنه لا يكون ندًّا له، وهو مِيزة لكنه مسؤولية كذلك؛ فالإمام القرطبي حين اعتبر العقل هو التفضيل الذي يجب أن يعتبر دون ما عداه، وهو يفسر قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [الإسراء: 70] - ذيل هذا بعبارة: (إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد بعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ فمثال الشرعِ الشمسُ، ومثال العقل العين، فإذا فتحت وكانت سليمة رأت الشمس وأدركت تفاصيل الأشياء)[4].
وإذا كان العقل وازعًا يعقل صاحبه عن الشر، ويقلب النظر، ويوازن بين الأشياء، وهو كذلك رشد وصار يميز بين الهداية والضلال، وأخذ من الماضي للحاضر، يعي ويتدبر، أقول: وإذا كان كذلك، فإنه موصول بكل حجة من حجج التكليف، وكل أمر بمعروف ونهي عن المحظور.
أفلا يعقلون؟ أفلا يتفكرون؟ أفلا يبصرون؟ أفلا يتدبرون؟ أفلا يتذكرون؟ أليس منكم رجل رشد؟
والعقل بهذه المعاني وهذه المهام مِيزةٌ تميز الإنسان عن الحيوانات كلها، ومسؤولية تقوده إلى ما خلق من أجله، وهو واسطة بين النفس التي تتصل بالغرائز، وبين الروح التي تتصل بعالم البقاء، وسر الوجود الدائم الذي علمه عند الله، وكأنَّا بالعقل أداة ذات حدَّينِ، وفي غالب أحولها إذا استقامت تحكم النوازع وتقود إلى الخير[5].
فبالعقلِ نعود إلى القرآن والسنة، نأخذ منهما أصول العقيدة، والتوحيد، وتصور الألوهية الحق الذي جاء الإسلام مركزًا على بيانه وتقريره؛ إنقاذًا للبشرية من الاضطراب الذي أصابها، سواء على يد أصحاب المذاهب العقلية كاليونان والفرس، أو على يد مَن حرفوا كتبهم التي حملت التوحيد إليهم نقيًّا مثل اليهود والنصارى[6]، وفهم عقيدة التوحيد كما جاء بها الكتاب والسنَّة فهمًا سليمًا يبعث في الأمة عزَّتها وهمتها الحضارية، وتفهم في ضوء هذا كل جوانب الاعتقاد من إيمان بالرسل والملائكة والكتب واليوم الآخر، فتكون هذه المبادئ أو هذا الغيب منطلقًا يحقق المسلم من خلاله ذاته، ويميز بالعقل المسؤول إيجابياته، كما كان ذلك في الصدر الأول وطالما اعتمد الكتاب والسنة مصدرينِ لهذا، (ولذلك كان الجيل الأول الذي اعتنق الإسلام يؤمن بالله الواحد إيمانًا راسخًا، ويحبه حبًّا عميقًا).
كان يفهم وحدانيَّته عن اقتناع لا ريب فيه، وكان يقتفي مظاهر هذه الوحدانية في أرجاء الأرض والسماء وما بينهما، فيبهره الجمال الإلهي المكسوب على كل شيء، ثم كان يطبق منطق هذا التوحيد الأعلى على علائقه بالناس، فلا يرغب ولا يرهب، ولا ينكص، ولا يجرؤ إلا بوحي من إيمانه الخالص، والأمة التي تنبعث عن عقائد متغلغلة الجذور في كيانها لا تعرف وهنًا ولا هوانًا.
وكذلك عاش أسلافنا وساروا، وشادوا حضارتهم، وأعلوا البناء، كان إيمانهم بالله يندفع مع الإيمان في عروقهم، ويختلط مع الهواء في زفيرهم وشهيقهم، وكان تصديقهم بالقدر وقودًا يجعل لزحوفهم قوة الإعصار، فما تردهم عقبة، ولا تثنيهم خسائر، ولا يؤجلهم عن غايتهم فرح أو ترح، وكان انتظارهم لليوم الآخر كانتظار الموظف يوم ترقيته إلى الدرجة التي يشتهيها أو المكان الذي يحب![7].
وبالعقل نقرأ هذا الكتاب العظيم في ضوء ما يحويه مِن سنن في الأنفس والآفاق، فإذا كنا بصدد قضايا التغيير فلا بد أن ندرك سنتها من آيات؛ مثل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ومثل: ﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [محمد: 7]، ومن السنة لا بد أن ندرك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباسٍ: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)).
أعني: لا بد أن نفهم الدور الإنساني في التغيير في ضوء العلاقة بين تنفيذ أوامر الله سبحانه والاستقرار، بل الرضا في الحياة، ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾[الأعراف: 96]، الآيات.
وإذا كنا في باب العدل والظلم وجدنا الأمر بالعدل في الحكم والقول والعمل، ووجدنا السُّنة كذلك تفيض بذلك، ثم وجدنا التحذير من الظلم وعاقبته، ومثله في باب العبادة أو المعاملة أو العلاقات ونحوها - فلا بد من الرجوع إلى المصادر والتربية على ما فيها من أطر عامة، شريطة أن يَستنبط ذلك مَن هو أهل له حتى لا نقع فيما هو موجود على الساحة نتيجة سوء الفهم أو قلة العلم أو كليهما[8].
إن تعامل العقل مع مصدري الوحي سيعدد ويوثق روافد المعرفة البشرية، فهو في جانب العقائد وما لا يستطيع الاجتهاد فيه، يلتقي الأمر الإلهي تشريعًا ملزمًا لنا، فهمنا حكمته أو لم نفهم، وفي مجال السنن يجد العقل إشارات حافزة على التطبيق واستقاء العبرة توظيفًا لها في حياتنا وواقعنا، ثم إن الوحي نفسه حرَص على تربية جوانب الإنسان جسده وعقله وروحه، فشرع لكل من هذه الجوانب.
وفي باب روافد المعرفة يلتقي العقل إلى جانب الخير بأنماط أخرى مربية للعقل والتفكير؛ فالآيات التي جاءت في الكتاب العزيز بمادة (سخر)، والسور أو الآيات التي حملت أسماء ظواهر كونية؛ مثل الرعد والقارعة ونحوها، تشير - إلى جانب دلالتها على عظمة الله سبحانه - إلى ضرورة تعلم قوانين هذه المسخَّرات كي يستفيد الإنسان منها، وفي هذه الدوائر يوجد الإنسان علومًا ومعارف هي عماد الجانب المادي من حضارة الإنسان في عصرنا.
كذلك فإن الآيات التي تدعو إلى النظر والتأمُّل واليقين، توحي بشكل واضح بالاهتمام بمادة التجربة في حياة الإنسان.
أقول: هكذا نكون وحدة المصادر، نتربى على الأطر العامة والقواعد الكلية فيها، مفرقين منهجيًّا بين الحقائق التي ليس للعقل فيها جهد إلا الاعتبار والالتزام، والأمور التي هي موضع اجتهاد وَفْقَ الضوابط الشرعية، إسهامًا واقعيًّا في حل المشكلات المعاصرة.
أقول: من خلال وحدة المصادر سيتَّضح أن الأمة ملتقية على جوانب أساسية: (الاعتقاد فيما يجب به - تصور الإسلام للكون والحياة، رسالة الإنسان فيها - طبيعة هذه الأمة - رسالتها بين العالَمين، والصراع بين الحق والباطل أزليته وأبديته - قانون الحركة في الحياة في ضوء سنن الله تعالى في الأنفس والآفاق)، هذه وغيرها ضوابط تمثل الغيب أو الاعتقاد أو المبادئ الضابطة لفكرنا في محاولة الالتحام بالواقع وحل مشكلاته.
لكن هذه الأطر العامة تكتسب دورَها في الوحدة الفكرية إذا نقلت إلى العقول والقلوب وَفْقَ منهاج علمي أصيل، ومن هنا تبدو أهمية وحدة المنهاج أداة للفهم، وطريقًا للاستنباط، وصلة بين محتوى النصوص وقواعد التطبيق في حياتنا.
وحدة المناهج:
من المسلَّمات في الفكر الإسلامي القيمة التي أعطاها الإسلام للعقل، والعلم الإسلامي في شتى صوره دليل على صحة هذه المسلمة، (التوافق بين صريح المعقول وصحيح المنقول أمر مقرر في ثقافتنا التقليدية على اختلاف مدارسها، وكما يقول العقاد: التفكير فريضة إسلامية)[9].
وضوابط هذه الفريضة هي ما نسميه بالمنهاج، ونعني به المبادئ التي يلتزم بها كل من يجتهد في استنباط الأحكام أو الحلول من النصوص، ومع ضرورة الالتزام هذه يسمح ويقبل الرأي الآخر، وفي الاعتبار كذلك أن طبيعة كل علم وموضوعه ربما يفرضان بعض الاختلاف في التفاصيل، لكن تبقى الملامح الأساسية مشتركة بين أبناء الثقافة الإسلامية.
والحديث عن ملامح المنهاج المبتغى يتطلب أن نشير إلى جانبين اثنين يتكاملان لإبراز هذا المنهاج:
الجانب الأول: طريقة الفكر.
الجانب الثاني: روافد المعرفة أو الجانب المعلومات.
وقد أشرنا إلى بعضها، لكن لأهميتها نعيد الإشارة بشكل موجز[10].
أولًا: بالنسبة لطريقة التفكير، اهتم الإسلام بما يلي:
البعد عن اتباع المعميات، باعتبار أن السلوك ترجمة لفكر ينطلق من العقيدة.
الاعتداد بالحقائق ورفض ما عداها.
لا تقبل الدعاوى إلا بدليل.
احترام الخبرة والتخصص الدقيق في كل مسألة موضع البحث.
العدل في الحكم على الظواهر موضع البحث، وهو أدق من الموضوعية.
ثانيًا: بالنسبة لجانب الروافد التي تمد الإنسان بالعلوم التي يحتاج إليها، تشمل ما يلي:
الأوامر والنواهي في أمور لا يستطيع العقل البشري أن يقضي فيها بقضاء عادل.
الدعوة إلى إعمال العقل في خلق الله، وصولًا إلى اليقين في الاعتقاد والحقائق في العلم.
الدعوة إلى التبحُّر في العلوم المختلفة؛ مثل علوم الفضاء والفلك والجيولوجيا والبحار وغيرها.
ونؤكد ما ألمحنا إليه سابقًا من أن الالتزام بهذه المنهاجية هو إطار عامٌّ يسمح داخله بوجهات النظر المتعددة، ولعل هذا يُفسِّر تعدد المذاهب الفقهية لأسباب مقبولة ومعقولة، هذا في ضوء حقائق ينبغي ألا تَغيب عن الذهن:
مثل أن المتفق عليه أكثر من المختلف فيه.
ومثل أن الخلاف في الفروع وليس في الأصول.
ومثل أن بعض الخلاف يذهب عند التحقيق؛ لكونه لفظيًّا أو لظروف الزمان أو البيئة أو نحو ذلك.
وفي ضوء هذا ننظر إلى ما كان بين الأئمة الأعلام مِن اختلاف في الرأي، ونقارن بينه وبين الاختلافات الموجودة بين فصائل الأمة ومثقَّفيها بخاصة، وهنا أنقل في إيجازٍ ما يظهر هذه المقارنة، وذلك ببيان ما كان عليه الأئمة الأعلام (والفقهاء المجتهدون وإن اختلفت آراؤهم يحترم بعضهم بعضًا، ويحترم حريته في مخالفته، وقد رأينا مالك بن أنس يرفض حمل الناس على مذهبه في كتابه (الموطأ)، ويقول: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرَّقوا في الأمصار وقد يكون لديهم ما فاته.
وقد أنكر عبدالله بن مسعود إتمام الصلوات الرباعية في الحج أيام التشريق، لما بلغه أن عثمان فعل ذلك، وقد رئي ابن مسعود بعدها يصلي وراء عثمان متمًّا، فلما كلم في صنيعه هذا قال: أكره الخلاف.
وقد كان أحمد بن حنبل يرى أن الحجامة تنقض الوضوء، فسئل عمَّن رأى الإمام احتجم وقام إلى الصلاة ولم يتوضأ، هل يصلِّي خلفه؟ فقال رضي الله عنه: كيف لا أصلي خلف مالك وسعيد بن المسيب.
وكان أبو حنيفة وأصحابه يرون الوضوء من خروج الدم، ولكن أبا يوسف رأى هارون الرشيد احتجم وصلَّى ولم يتوضأ؛ لأن مالكا أفتي الخليفة بأن لا وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى أبو يوسف خلفه ولم يُعِد الصلاة.
ورووا أن الشافعي ترك القنوت في صلاة الصبح لما صلى مع جماعة الأحناف في إحدى مساجد بغداد، وذلك رعاية لآداب الإسلام، ورغبته عن الخلاف[11].
هذا خلاف العلماء أساس في الوحدة الفكرية؛ لأنه في الإطار العام الذي أشرنا إليه.. ويسهم بشكل أو بآخر في الحال التي نحن عليها.
كيف نخرج من مأزق الاختلاف إلى الوحدة الفكرية؟
الحديث عن وسائل الخروج من المأزق الفكري الذي تعيشه الأمة حديث صعب ومتعدد المناحي، مما يجعل بحثًا كبحثنا هذا لا يتَّسع له، وإنما حسبنا أن نشير إلى أمور:
الأمر الأول:
أن العوامل التي نتج عنها ما نحن فيه متعددة، بعضها من داخل الأمة تراجع حضاري، وكسل عقلي، وجمود فكري، وبعضها خارجي داخل في دائرة الاحتكاك الثقافي بين جهتين غير متكافئتين لا في الظروف ولا في الآليات المستخدمة عند كل، وهذا معناه أنَّ الوسائل اللازمة ينبغي أن تتعدد وأن تدرك أبعاد هذه العوامل.
الأمر الثاني:
أن الموقف صعب عند دخولنا حيِّز التنفيذ؛ لأنه مع تعدد وتشابك العوامل الحاكمة للظاهرة، فإنه لا يزال هناك انفصام بين اقتراحات الحلول وجهات التنفيذ، وبخاصة إذا تعلق الأمر بما يسمى بالمهام القومية؛ كالتعليم والإعلام ونحو هذا.
الأمر الثالث:
أن الوسائل اللازمة للخروج من المأزق الحضاري الذي نعيشه متعددة، فعندنا التعليم وعندنا الإعلام، وعندنا المؤسسات والفعاليات الثقافية الأخرى، وهناك الجهات العلمية المهتمة بقضايا الفكر والثقافة في حقل التربية وصياغة الوعي العام؛ مثل الندوات والمؤتمرات ونحوها.
وهذه الوسائل المتعددة تتكامل أو ينبغي أن يكون الأمر كذلك، لكن تكاملها يتوقَّف على فهم القائمين على كل منها، وخطتهم للإسهام في إنجاز المهمة المشار إليها.
ولأن هذا التفصيل فوق خطة هذا البحث، فإننا نعتبر التعليم أساسًا لكل الوسائل الأخرى، ونرى أن ما نشير إليه في مسألة التعليم يمكن اعتباره في الوسائل الأخرى، وبالنسبة للتعليم نشير إلى حقائق ينبغي استحضارها ونحن نعالج فاعلية التعليم في الخروج من الأزمة الفكرية للأمة.
الحقيقة الأولى:
أن الفكر الإسلامي شهد خلال عصور ازدهاره وحدة فكرية تمثلت في جو الحوار والمناظرة، والجدل العلمي الذي أسفر عن علوم ومعارف كان لها شأنها في عقل الأمة والأمم الأخرى، دون أن يقلِّل هذا من جو الاجتهاد وتعدد الآراء.
وقد كان ذلك نتيجة للتربية التي كان يتربى عليها العلماء ومثقفو الأمة، باعتبارهم روادًا يعلمون غيرهم، ويأخذون بيدهم نحو الفكر الموحد نظرًا للالتقاء على مصدر ومنهاج موحدينِ.
وقد امتلك علماء الأمة آليات توحيد الفكر لأنهم؛ حفظوا قدرًا من القرآن، وعلمًا بالسنة، شكل عقلهم وحدَّد اتجاههم وموقفهم من العلم والتعلم للأمة، وهذا الفكر هو الذي جمع بين العقل والنقل ومقتضيات العصر والاحتكاك بالثقافات المجاورة، وكان هذا الانفتاح رافدًا مهمًّا من روافد المعرفة عند علمائنا؛ لذا أبدعوا وأضافوا، وقادوا الأمة نحو شخصية مستقلة قوية تأخذ دون أن تفقد ذاتها وهُوِيتها، واتصل بهذا ما أشرنا إليه من وجود مناظرات بين العلماء دون أن يتحول ذلك إلى اختلاف يمزق وحدة الأمة ويجهض مصلحة الجماهير المسلمة[12].
وبمقدار ما تبرز هذه الحقيقة دور التعليم والتربية بقدر ما تلقي على التعليم المعاصر مسؤوليَّةَ الاستفادة وتحديد الهدف من دراسة تراثنا في هذا الجانب الذي برز في بحث الأسلاف لقضايا التعليم والتعلم، وما يتَّصل بهذا من مسائل الكتب ونحوها[13].
الحقيقة الثانية:
أنَّ ما نعانيه اليوم من تمزُّق في الشخصية العربية الإسلامية؛ بَدْءًا من اضطرابها في مفاهيم عقيدتها مثل تصور الإسلام لله تعالى والكون والإنسان، ومرورًا بفقدانها روح المسؤولية الحضارية المنوطة بها، وانتهاء باستمرائها التبعية الفكرية لسبب أو لآخر، هذا كله من أثر التعليم والتربية، وقد فطن أعداء الأمة إلى أن خير وسيلة لإفساد الأمة هو إفساد التعليم، باعتباره رافدًا أساسيًّا في صياغة الشخصية، وحسبنا أن نشير إلى مواقف لها دلالتها:
أ - موقف محمد علي من الأزهر؛ حيث أغفله وهو يبني نظام تعليم مصري جديد، بل إنه فرض ضرائب على ممتلكات الأوقاف ليحجم موارد نشاط الأزهر.
ب - موقف إسماعيل - مع اعترافنا بإيجابيات في التعليم تحسب له مثال بناء دار العلوم وغيرها - من اهتمامه بجعل مصر جزءًا من أوروبا، وسماحه للهيئات التبشيرية الكاثوليكية بالوجود وإنشاء مدارس ابتدائية وثانوية بلغت سبعين مدرسة، بل أكثر من هذا يسمح للأقليات القبطية واليهودية بإنشاء العديد من المدارس، وساعدتها الحكومة المصرية في شكل أموال أو أراضٍ للبناء.
ويضاف إلى ما سبق تعميق ازدواجية التعليم في عصر إسماعيل.
ج - موقف كرومر (المعتمد البريطاني) ودانلوب (مستشار التعليم) من التعليم في مصر بعد احتلال بريطانيا لها عام 1882 م؛ حيث حرَص على وضع خطة تحرم الأمة من أن يكون التعليم أداة لتطويرها أو تنويرها، ونشير إلى أبرز ملامح هذه الخطة:
تخفيض ميزانية التعليم في مصر.
تشجيع نوع التعليم الحر، متظاهرين بالاهتمام بالكتاتيب لخداع الجماهير المسلمة.
العمل على إضعاف اللغة العربية، حتى إن اللغة الإنجليزية كانت لغة التعليم سنة 1888 م.
تفريغ التعليم من مضمونه الديني والوطني.
فرض الرسوم على التعليم لتضييق نطاقه.
وقد نتج عن هذا كله آثاره الطبيعية من انفصال بين التعليم ونهضة الأمة، ومن انحسار التعليم العالي، ومن تأجيل الازدواجية بين التعليم الديني والمدني، لا بل إن السلطة المحتلَّة حاولت التدخُّل في شؤون الأزهر، غير عابئة بحساسية تدخلها، فعينت مستر ويلكوكس رئيسًا لتحرير مجلة الأزهر 1892 م، وقد ساعد ذلك على تفاقم ظاهرة الازدواجية والفصام الفكري والثقافي بين خريجي التعليم التقليدي الأزهري، وخريجي التعليم المدني شبه العلماني[14].
ولا ننكر - بما أشرنا إليه - جهود المصلحين في هذا الشأن؛ أمثال الطهطاوي وعلي مبارك، أو كل الجهود التي بذلت لتعريب التعليم وإنشاء الجامعات، لا ننكر هذا، ولكننا نشير إلى أن التعليم الذي جمع الأمة زمنًا هو الذي شتت فكرها حين وجه وجهة معينة كما أشرنا.
الحقيقة الثالثة:
ما دام الأمر كذلك، فإن التعليم المتضمن للتربية ينبغي أن يحدد لنفسه فلسفة إسلامية محضة تبعده عن مسائل الترقيع التي كثيرًا ما نلجأ إليها، فتكون النتيجة عدم تحقيق استقلال فكري، وعدم الإفادة الحقيقة مما استوردناه من أفكار الآخرين؛ لأنها نتاج ظروف مختلفة وخادمة لأهداف مغايرة لأهدافنا من التعليم الإسلامي، وإن جاز أن نفيد من خبرة الآخرين فإن الشرط أن ننقي هذه الخبرة من ظلالها المرتبطة ببيئتها هناك، وأن نطوعها - إذا أمكن ذلك - لظروفنا وأهدافنا[15].
وجوب أن يكون لنا فلسفة إسلامية هو الموقف الصحيح؛ إذ إنه كما أن للغرب فلسفة تربوية مؤسسة على مفاهيم معينة للشيوعيَّة تعتمد على رؤيتها العقدية، فإن المنطق أن يكون للتعليم الإسلامي فلسفة أساسها تصور الإسلام للإله والإنسان والكون[16].
هذه الحقائق وما سبقها من أمور ينبغي أن تكون في وعينا ونحن نوظف وسيلة من الوسائل اللازمة للخروج من أزمتنا الفكرية والضرورية في محاولة صياغة مشروع حضاري للأمة.
وهناك قضايا عديدة يمكن أن تلتقي الأمة عليها إذا قدم لها التصور الإسلامي الصيح فيها؛ مثل:
بناء الإنسان في جوانبه المتعددة، عقديًّا وحضاريًّا وفكريًّا، ونحو ذلك.
العقيدة والفهم الصحيح لها، باعتبارها باعثًا على العمل وضابطًا لحركة التنمية.
المسؤولية بين جانبها الفردي وجانبها الاجتماعي، وأثر ذلك في الإسهام الحضاري.
قضية الاحتكاك الثقافي والتعامل مع أفكار الآخرين.
الحضارة الإسلامية مفهومها - تاريخها - اتصالها بالحضارات الأخرى في ضوء التراجع الحضاري السائد الآن لدينا.
قيم العمل، والتنمية، فقه الأولويات في حياة المسلمين.
هذه وغيرها حين توضع في إطارها الإسلامي بعيدًا عن الخلافات الفردية أو الطائفية، يمكن أن تكون نواة للالتقاء الذي يغذي الاجتهاد وتعدد الرأي لصالح تنوير الأمة وتبصيرها بالطريق نحو هدفها المحدد لها في التصور الإسلامي.
________________________________________
[1] شاكر، رسالة الطريق إلى ثقافتنا، 48، 49.
[2] السابق: 50.
[3] السابق: 51.
[4] تفسير القرطبي، 5، 293
[5] العقاد، الإنسان في القرآن، 233 - 239 بتصرف، عبدالكريم عثمان، عالم الثقافة الإسلامية، 18.
[6] أبو اليزيد العجمي، فقه العقيدة عند الشافعي وأحمد، 60 دار الصحوة 1987 م.
[7] محمد الغزالي، الإسلام والطاقات المعطلة، 85، دستور الوحدة الثقافية، 25.
[8] الشافعي، السابق: 239.
[9] الغزالي، دستور الوحدة الثقافية، 185.
[10] من أراد التفاصيل فليراجع: أبرز ملامح المنهاج العلمي في الإسلام من المبحث الثالث.
[11] الغزالي، دستور الوحدة الثقافية، 82، 83.
[12] انظر: الرازي، أدب الشافعي ومناقبه، 24 تحقيق عبدالغني عبدالخالق، الذهبي، سير أعلام النبلاء، 10/ 85، أبو اليزيد العجمي، فقه العقيدة عند الشافعي وأحمد، 112، ابن خلدون، شفاء السائل لتهذيب المسائل، 65، تحقيق محمد بن تاويت.
[13] نشير فقط إلى: أخلاق العلماء للآجري، وجامع بيان العلم وفضله لابن عبدالبر، وأدب الدنيا والدين للماوردي، والذريعة للراغب الأصفهاني، وتذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة، وغيرها كثير.
[14] حسن الشافعي، في فكرنا الحديث والمعاصر، 67، 68.
[15] سيد دسوقي، مقدمات في البعث الحضاري، 72.
[16] زغلول النجار، أزمة التعليم المعاصر وحلولها الإسلامية، 131، ط/ 1990، نشر المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
إرسال تعليق