بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
إن النفس البشرية مطبوعة على الخصال الحميدة والخصال الذميمة، ومفطورة على المحاسن وعلى المساوئ؛ ليتم التكليف والابتلاء بمجاهدتها على تثبيت الفضائل في النفس، ومراغمتها على كبح جماح الرذائل.
أما من ترك نفسه وهواها دون تقويم فإنها ستقوده إلى كل هلاك، ومن زمّها وصقلها حتى أشرقت بالفعل الجميل علت به على كواكب العز والنجاح في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ [الشمس9-10].
إن من الأخلاق التي طبعت عليها النفوس: خلق الحسد. هذا الخلق الذي لا يسلم منه جسدُ حيٍّ حتى يموت. غير أن هذا الخلق من المحمود ومنه المذموم.
فالمحمود منه ما ساق صاحبه إلى الجد والعمل؛ ليحصل على ما حصل عليه غيره من الخيرات والنعم من غير إيذاء قولي أو فعلي يوصله إلى من رآه على خير ديني أو دنيوي. فهو يرجو ويعمل ليصل إلى ما ناله غيره مع تمنيه بقاء النعمة على صاحبها من غير زوال. وهذا تنافس شريف وهمة عالية محمودة يحسن بالإنسان العاقل أن يتخلق به ويسعى إليه؛ لأنه من كمال العقل ودليل علو الهمة، وبه صلاح الدنيا والدين.
فمن رأى أخاه المسلم على عبادة أو خلق كريم أو علم نافع أكثر منه فليجدّ ويجتهد حتى يكون مثله أو أحسن منه، مع صلاح النية وحسن القصد.
والمصنوعات والمخترعات المتنوعة ما جاءت إلا عبر هذا السبيل، فكل شركة أو صانع أو مخترع يحب أن ينتج أجود وأتقن مما يوجد في السوق؛ ليحصل على ربح ومكانة أعلى من غيره، وبهذا تطورت الحياة وتقدم الأحياء.
أما الحسد المذموم فهو ذلك المرض العضال الذي يتمنى صاحبه أن تزول النعمة عن محسوده، أو يسعى هو إلى إيذائه والإضرار به ليزيلها عنه.
وهذا مجال حديثنا هذه الخطبة بعون الله تعالى.
إن الحسد صفة ذميمة لا تتخلق بها إلا النفوس المريضة التي لا تحب إلا العيش منفردة والاستئثار على غيرها بما تهواه.
الحسد بوابة الآثام، وبضاعة اللئام، يبدأ بالقريب قبل البعيد، والصديق قبل العدو، فهو أكثر ما يكون بين الأقارب، وبين الجيران، وبين الزملاء.
فالقريب الحاسد لا يحب أن يكون قريبه أحسن منه فيما يتباهى به الناس، ولو كان أخاه لأبيه وأمه.
والجار الحاسد لا يحب أن يكون جاره أفضل منه في مال أو جاه أو قوة أو جمال أو علم.
والزملاء في الدراسة أو الوظائف أو الأعمال لا يرضى الواحد منهم أن يتقدم عليه في معلومات أو ترقيات أو مكافآت أو زيادة خير.
ولذلك لا تستغربوا من حصول المشكلات والمكايدات، والبغضاء والتقاطع، والهجران وفساد العلاقات وتعثر المشروعات، والتقاتل والأضرار بين الأصناف السابقة، فما ذلك إلا نتيجة من نتائج مرض الحسد.
فإذا لم يرافق المسلمَ من أهل هذه الجهات إيمانٌ وتقوى وقناعة فإن الحسد سيكون أسرع إليه من السيل إلى منحدره.
إن الحسد مرض ينشأ من ضعف الإيمان بالقضاء والقدر وقلة الفهم لمعاني الأسماء والصفات. فالحاسد لو كان عنده إيمان قوي بقضاء الله وقدره ما حسد الناس على ما قضاه الله وقدره، ولو كان عنده علم وفهم لاسمي الله: العليم والحكيم ما حسد؛ لأن الله حكيم في قضائه وقدره وعليم بخلقه، فمن علم ذلك انكف عن حسده.
إن أسباب نشوء الحسد: العجز عن الوصول إلى تلك الأمنية التي وصل إليها المحسود مع وجود رغبة الحاسد فيها وبذله الأسباب للوصول إليها، وقد يحصل عليها غيره بدون بذل ما بذل.
ومن الأسباب: صدور الإساءات إليه ممن حصل تلك النعمة، فيرى أنه كان أحق بها ويجب سلبها من صاحبها.
ومن الأسباب: عيش فاقد النعمة وسط واجديها، كعيش الفقير بين الأغنياء، والداني بين الوجهاء والقبيحة بين الحسناوات. وهذا التفاوت له أثره الكبير في بسوق شجرة الحسد الخبيثة.
إن داء الحسد مرض يورث آثاراً سيئة ضارة على الحاسد وعلى غيره. والحاسد قد يشعر وقد لا يشعر أنه أول المتضررين بلفح نار حسده، فالحسد نار متأججة تحرق أول ما تحرق مذكيها ومشعلها. وقد قالوا: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.
فإبليس حينما حسد آدم عليه السلام فأبى السجود له بأمر الله له عصى ربه بذلك؛ حسداً لآدم وقال: ﴿ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ﴾ [الإسراء61]. فطرده الله تعالى من رحمته وأهبطه من سماواته؛ ليكتوي بنار حسده في الدنيا ويكتمل عذابه في الآخرة.
قال معاوية رضي الله عنه: "ليس من خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود".
إن الحاسد يعيش في حزن و غم وهم واكتئاب ومصائب لا يؤجر عليها، يحترق داخله عندما تكون عيونه في جنة مما يرى من نعمة المحسود وقلبه في نار حينما حرم ذلك.
والحاسد أفراح الناس لديه مآتم، وابتساماتهم شهب تحرق فؤاده، وصحتهم رسل مرض إلى جسده، وراحتهم تعب عليه. فمسكين هذا الحاسد مدنف القلب والروح والجسد ليس له دواء حتى يستيقظ ويرى نعمة محسوده وقد ذهبت فذلك شفاؤه الذي يتمناه.
هذا المريض يعيش في سجن ضيق كأنما يتنفس من ثقب إبرة، فلا تسمع منه إلا الآهات والزفرات، ولا ترى عليه إلا سحائب الظلمات تلوح على وجهه؛ لما يرى أصحاب النعمة وهم يرفلون فيها.
إن الحاسد معترض على نعم الله تعالى أن تصل إلى عباده، وهذا سوء أدب مع الله عز وجل.
ألا قل لمن كان لي حاسداً
أتدري على من أسأتَ الأدب
أسأت على الله في حكمه
لأنك لم ترض لي ما وهب
فجازاك ربي بأن زادني
وسدَّ عليك وجوه الطلب
الحاسد يخرب عيشه بنفسه، وقد يخرب دينه وآخرته، فيظل طائش الفكر، مشغول القلب بما لا يعنيه ولا ينفعه. وربما ساقه الحسد إلى التضجر والتسخط على الله تعالى فيفوه بعبارات قد توصله إلى الكفر.
أيها الأخوة الكرام، إن الحسد يمزق المجتمع ويفرقه، ويزرع فيه الشحناء والضغينة، قال النبي صلى الله عليه و سلم قال: (دب إليكم داء الأمم: الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذاكم لكم؟ أفشوا السلام بينكم) [2].
والحسد ذنب ينبت ذنوباً أخرى فقد يحصل به: غيبة ونميمة، وتجسس وسوء ظن، وإيذاء وشتم ووقيعة، وقد يصل إلى القتل. كما فعل ابن آدم بأخيه.
قال تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [ المائدة 27-31].
وكما حاول إخوة يوسف عليه السلام ذلك، فحال الله بينهم وبين ما يشتهون.
إن الحسد ينافي الإيمان؛ لأن الإيمان يأمر صاحبه بالتسليم لأفعال الله. فلو حسد العالم أو العابد أو الصالح فإن ذلك يدل على ضعف إيمانه؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله وفيح جهنم ولا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد) [3].
الحسد يمنع قبول الحق والإذعان له إذا جاء من المحسود، بل يحاول الحاسد أن يتمحل حججاً واهية ليبطل بها ذلك الحق الناصع، لا لأنه حق، وإنما لكونه جاء ممن يحسده، ولو جاء من غيره لقبله، وهذه آفة خطيرة خاصة بين العلماء وطلبة العلم.
لقد كان اليهود يعلمون أن محمداً عليه الصلاة والسلام نبي الله حقاً، لكن حينما جاء من غيرهم -أي: من العرب- كفروا به بغياً وحسداً. قال تعالى: ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً ﴾ [النساء54].
الحسد مرض، ولكل مرض علاج، فمن علاجه: أن يقوي الحاسد إيمانه بالله تعالى وقضائه وقدره، ويرضى بما قسم الله له، ويكثر من الطاعات والقربات. ويلجأ إلى الله تعالى بالدعاء والتضرع بين يديه؛ ليزيل عنه هذا الداء.
وعليه أيضاً: أن يفكر في نتائج الحسد وعواقبه الوخيمة؛ فالإنسان العاقل لا يقدم على ما يجلب له التعب والضرر.
وعلى الحاسد أن ينظر بعين التأمل إلى ما أعطاه الله تعالى من النعم؛ فإنه لو نظر جيداً سيجد أن لديه نعماً كثيرة قد لا توجد عند غيره. فقد يحسد فقير غنياً ولا يدري ذلك الفقير أنه أحسن منه صحة وأتم عافية وهدوء بال. وقد يحسد إنسان ليست له وظيفة مرموقة أو مسؤولية عالية من نالها في المجتمع، ولا يعرف ذلك الحاسد أنه في أمن واطمئنان وسرور وانشراح صدر أفضل من ذلك المسؤول أو الموظف الكبير.
من أراد سلامة الدين، وصحة البدن، والنجاح في الحياة فلا يسلك مسلك الحسد، وليرحم نفسه؛ فإن الحاسد مصاب لا يجد أحداً يرحمه. وليكن حال الإنسان كما قال الشاعر:
وإني امرؤ لا أحسد الناس نعمة
إذا نالها قبلي من الناس نائل
أأحسد فضل الله أنْ ناله امرؤ
سواي وعندي للإله فضائل
وهبني حسدت المرء بالجهل رزقه
وحال به عني من الله حائل
ولم يضرر المحسود مني نفاسة
أليس على قلبي تحوم البلابل؟
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم7].
وقال: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق 1-5].
وعليك أن تعلق قلبك وعقلك بالله وكفايته، ولا تجعلهما رهيني الوساوس والشكوك، وأن تقبل على الله بالتقوى وأعمال الإيمان. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ﴾ [الحج38].
وعليك أن تمد يد الإحسان إلى الحاسد وغيره، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت34].
وعليك أن تخفي بعض النعم التي يخاف عليها الحسد. قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: ﴿ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [يوسف67].
وعليك أيضاً أن تصبر على حسد الحاسد؛ فإن حسده سيناله ضرره قبل أن يصلك.
قال الشاعر:
اصبر على حسد الحسود
د فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله
نسأل الله تعالى أن يقينا شر الأشرار، وكيد الفجار، وشر طوارق الليل والنهار.
إرسال تعليق