بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
تقتضي رسالة الإنسان في تعمير الكون - وهي الرسالة التي استخلفه الله عليها - أن تكون لدى الإنسان مبررات تَدفعه وتوجِّهه لتعمير الحياة، وقد انتهى الإنسان الأوروبي من وضْع مبرراته، وهي تحقيق التقدم التكنولوجي والعلمي، والإيمان بالاستعمار كرسالة حضارية، وفي فترة تألُّق العالم الإسلامي الأولى، وفي عصور تألُّقه المختلفة عبر التاريخ، كان المبرر للمسلم هو حب الإسلام ونشْره في العالم، على أن كل ذلك كان يمضي بإيجابية وفاعلية، منتصرًا على النزعات الانعزالية والسكونية.
أما عندما يمر العالم الإسلامي بفترات قلقٍ واضطرابٍ وهمود حضاري، فإن الدوافع والمبررات تَذبُل وقد تموت، بل قد تصبح مبررات المجتمع الإسلامي - كما يقول مالك بن نبي - (حيوانية)، عليها غلاف من إنسانية بسيطة تعبِّر عنه فلسفة ساذَجة أفرَغت حِكمتها الميتة في العبارة التي تردِّدها الجماهير بالشمال الإفريقي؛ حيث يقول الفرد عندما يُسأل عن مهمة حياته: "نأكل القوت وننتظر الموت".
ولا يوجد تعبير أكثر وضوحًا من هذا التعبير عن مجتمعٍ فقَد تمامًا مبررات الوجود، وأصبح أبناؤه يأكلون القوت، وينتظرون الموت، ولا شيء غير هذا.
وبعض الناس يخطئون التصور، ويخترعون لأنفسهم مبررات وجود سلبية، لا تتجاوز محيطهم الخاص، فنجد بعض الناس يضع نفسه في إطار حركة محدودة، مثل ذلك الداعية الإمام الذي يؤمُّ الناس في الصلوات الخمس، ويُلقي خطبة الجمعة، ويظن أن هذا هو دوره.
وبعض الناس ينتمي إلى حركة من الحركات، أو طريقة من الطرق، فيدور في فلكها، وينسى أنها وسيلة لا غاية، وأنها مدرسة صغيرة يجب أن تنتهي به إلى المدرسة الجامعة، وإلى الإصلاح الإسلامي العام، لكن كثيرًا منهم يظن أن طريقته أو حركته هى الوسيلة والغاية، والبداية والنهااية!!
بل إن كثيرًا منهم - وهو يدور في هذا الفلك الضيِّق - يظن أنه أدَّى واجبه تُجاه الإسلام، دون أن يسأل نفسه: ماذا قدَّم للمجتمع والأمة؛ اجتماعيًّا، واثقافيًّا، واقتصاديًّا؟!!
●●●
إن الإيمان الصادق هو الإيمان الذي ينتج عنه تغيير وتطويرٌ في كل يوم، وهو - أيضًا - الذي يَلتحم بالناس، ويجاهد في سبيل سيادة الحق والمعروف، وهزيمة الباطل والمنكر، وذلك بوسائل الجهاد الشرعية، الملتزمة بإطار الإسلام وبسنة الله في التغيير.
لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أعبد الناس وأزهدهم، وكان يصوم النهار ويقوم الليل حتى تتورَّم منه الأقدام، ومع ذلك كان يحتفظ بالميزان الحق، الجامع للوسطية، فيُعطي لنفسه حقها ولأهله حقَّهم، ولتغيير الناس والحياة والدعوة إلى الله حقَّها.
لكن كثيرًا من المسلمين - في عصور الضَّعف - قد أهمَلوا هذا النموذج، وأخذوا بعضه وترَكوا بعضه، ففقَدوا مبررات العمل والإنتاج، وصناعة الحياة، ولم يَعُد لوجودهم غاية عامة، تَنتظم بها حركة العقل والروح والمادة، بل اكتَفوا بتبرير عاجز، يُسوِّغون به وجودهم، ويُقوِّمون به أعمالهم، وبالتالي يخدعون أنفسهم ويَرضون عنها!!
وإذا كان هذا المنحى العاجز قد ظهَرت له بصمات في كثيرٍ من الحركات، فإن الصوفية - في رأي مالك بن نبي - هم أشهر مَن تنطبق عليهم أزمة فِقدان المبررات؛ لأن كثيرًا من الصوفية - لا سيما الأدعياء - وقَعوا في مصيدة (الدوافع السلبية) التي تدفع إلى انتحار الفرد الذي فقَد مبررات حياته، فالصوفي يخرج عن النظام الطبيعي للحياة، ويتخلص من مسؤولياته، عن طريق الأوراد والمِسبحة، كما يتخلص المنتحر العادي من مسؤولياته بوسيلة الخنجر، فالصوفي ينتحر بوسائل الروح.
وقد لا يُعجب هذا الرأي كثيرًا من إخواننا المتصوفة، وللصادقين منهم العذرُ في ذلك، إلا أننا نؤمن بضرورة أن يقوم المتصوفة بتغيير هذه الصورة، وأن يكونوا فاعلين، لهم مدارسهم وصُحفهم، ومشروعاتهم الاجتماعية والاقتصادية، حتى يشعر بهم المجتمع الذي يربط بينهم وبين الموالد؛ لأنه - في رأيه - قلَّما يحسُّ بهم في النواحي العمرانية والإصلاحية.
إرسال تعليق