مقال بعنوان: فارس الحريف
ا.د إبراهيم محمد مرجونة
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية
فيلم الحريف (1984) للمخرج محمد خان وبطولة عادل إمام يُعد أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية، حيث يناقش موضوعات اجتماعية وإنسانية عميقة، وينقل واقع حياة الطبقة العاملة والصراعات التي يواجهها الفرد في المجتمع. يتميز الفيلم بإسقاطات اجتماعية وسياسية تُعبّر عن حال الفرد في ظل واقع ضاغط، وتطرح عدة أبعاد تحتاج إلى تحليل دقيق لفهمها.
بداية من الإسم فارس الذي يحمل معاني ودلالات من بينها كونه محارب يخوض أشد وابشع أنواع المعارك ويحلم بتحقيق الانتصار.
ومن اللافت للنظر أن فارس حريف كرة القدم صاحب الموهبة والمهارة والكفاءة من يديره ويتحكم في مصيرة وينظم له المباريات ذات المقابل المادي يدعى رزق،وجسد دوره الفنان عبد الله فرغلي وجاءت رمزية الاسم تعكس أن رزق حريف كرة القدم من يقوده ويتحكم فيه ويديره مبتور القدم ، وما أكثر هذا ال رزق في معظم المجالات والأعمال
وللفيلم إسقاطات اجتماعية: حيث يعرض الحريف حياة الفرد البسيط الذي يكافح في بيئة تعج بالمصاعب، ويتمثل هذا في شخصية “فارس” (عادل إمام)، الذي يعمل كحرفي بسيط ويعتمد على كرة القدم (اللعب الحر في الشوارع) كوسيلة للتنفيس عن ضغوط حياته. يبرز الفيلم الجانب المظلم للحياة في الطبقات الدنيا من المجتمع المصري، حيث يعتمد الأفراد على العمل الشاق والبسيط في سعيهم للعيش بكرامة.
من خلال تجسيد هذه الحياة الصعبة، يعكس الفيلم واقع الفرد المصري الذي يجد نفسه محاصرًا بين الظروف الاقتصادية والاجتماعية القاسية، دون فرصة حقيقية للتحسين أو التقدم. ويظهر ذلك بشكل واضح في مشاهد العلاقات المعقدة بين فارس وأسرته وأصدقائه، حيث يسعى كل منهم للنجاة بطرق مختلفة، مما يعكس ضغوط الحياة في مجتمع متأزم.
وحمل العمل إسقاطات سياسية: تم إنتاج الحريف في فترة كانت مصر تمر بتحولات سياسية واقتصادية كبرى بعد انفتاح السوق، وما رافقه من آثار على حياة الطبقات الكادحة. يمكن اعتبار قصة فارس ورحلته كمحاولة هروب من واقع ضاغط إسقاطًا على حالة المواطن العادي في مواجهة تغيرات كبيرة لا يملك تجاهها قدرة كبيرة على التأثير.
يحاول فارس، في بحثه عن الحرية والانتصار الشخصي عبر كرة القدم، التغلب على قسوة واقعه، لكنه في النهاية يجد نفسه يعود إلى نفس الدائرة المغلقة، مما يمكن اعتباره انعكاسًا لمعاناة المجتمع المصري من ضغوط الواقع السياسي والاقتصادي. عبر اختيار شخصية فارس الذي يتمتع بقدرات رياضية مذهلة لكنها محدودة التأثير، يبرز الفيلم فكرة أن الأفراد قد يملكون طاقات كبيرة، لكنهم غالبًا ما يجدون أنفسهم في صراع مع نظم أكبر تعيقهم عن تحقيق طموحاتهم.
وهناك إسقاطات نفسية وشخصية: حيث يقدم فيلم الحريف صورة نفسية معقدة لشخصية فارس، الذي يبدو كرجل وحيد يبحث عن ذاته وهويته في عالم مليء بالخيارات المحدودة. يجسد فارس الصراع الداخلي بين رغبته في الحرية واستقلاليته وبين الضغوط الاجتماعية والعائلية التي تدفعه نحو الاستقرار والاندماج في المجتمع. ومن خلال التركيز على مشاعر الوحدة والضياع التي ترافق فارس، يعكس الفيلم جوانب من الاغتراب النفسي الذي يشعر به الأفراد الذين يجدون أنفسهم غير قادرين على تحقيق طموحاتهم بسبب الظروف القهرية.
تسعى هذه الإسقاطات النفسية إلى تسليط الضوء على معاناة الفرد الذي يعيش بين تحقيق ذاته أو الرضوخ للواقع، مما يضفي على الفيلم بعدًا فلسفيًا يعكس قضايا الهوية والحرية والبحث عن الذات في ظل قسوة المجتمع.
أما عن إسقاطاته الثقافية والرياضية: يعتبر فيلم الحريف واحدًا من الأعمال النادرة في السينما المصرية التي تناولت موضوع كرة القدم من منظور شعبي، حيث لم يركز على المباريات الرسمية والفرق المحترفة، بل على كرة الشوارع، التي تعكس شغف الشعب بهذه اللعبة كوسيلة للترفيه والهروب من أعباء الحياة. يُظهر الفيلم كيف أن الرياضة، وخصوصًا كرة القدم، لها مكانة خاصة في قلوب الشباب البسطاء، الذين يجدون فيها وسيلة للتعبير عن طموحاتهم وتحديهم للظروف الصعبة.
تسعى هذه الإسقاطات إلى إظهار كرة القدم كوسيلة تحرر للفرد من قيود حياته اليومية، لكنها في نفس الوقت تحمل جانبًا مأساويًا، بسبب سوء إداراتها حيث لا تعطي للفرد حقه الكامل، إذ يجد فارس نفسه مضطرًا للعودة إلى حياته القاسية بعد نهاية كل مباراة، مما يعكس حدود هذا الهروب المؤقت.
وتأتي نهاية الفيلم بقراءة عبقرية للواقع فأخيرًا يودع فارس حياة البروليتاريا ويترك عمله بسبب إهماله له بسبب الكرة، ويترك الكرة ذاتها.. يترك الفرح في مقابل النقود، يترك الهواية في مقابل الثراء، يترك الفن الذي يقدمه بقدميه، من أجل أن يركب سيارة.. هكذا يستجيب فارس تحت وطأة العالم الاستهلاكي الأعمى إلى متطلبات العصر، هكذا يستسلم بعد ضغط.. ويتحول إلى أحد المستفيدين من الانفتاح.. ليجد نفسه مهرب سيارات بفضل أحد أصدقاءه الذي فطن للمسألة من أولها وترك الكرة واتجه للعمل الحر، في نفس الوقت كانت سعاد قد أقامت علاقة مع محسن الوافد الريفي الجديد قريب فارس، مع ابتسامة من فارس وتأسيه على وضعه.
لكن بعد أن يلعب ماتش الوداع أسفل كوبري اكتوبر بميدان عبد المنعم رياض.. للتنكيل باللاعب الشاب" المختار" .. الذي يريد رزق الاسكندراني سمسار المباريات إعطاءه لقب الحريف بعد نزعه من فارس الذي كان يرفض استغلاله له، والمتاجرة بحرفيته ومهاريته في اللعبة.. ويحتضن ابنه أخيرًا الذي يسأل: "مش هتلعب تاني يابه!؟"
لينطق فارس الجملة الأخيرة في الفيلم التي تشي بانتهاء زمن الفرح وسيطرة عصر المال، تلك الجملة التي تنذر بمزيد من السحق للفقراء مالم يناضلوا كي ينضموا لطائفة الأثرياء أو حتى المستفيدون منهم.
" مـا خــلاص يابـنـي، زمـن اللـعـب راح "
إرسال تعليق