بقلم/ المفكرالعربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ,
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن مكانة المرأة في الإسلام ليست محل شك عند من له دراية بكتاب الله تعالى وأحكامه، فالمرأة كالرجل في العبودية والإنسانية، ولا فرق بينهما في نظام الزوجية الذي أقام الله تعالى عليه هذا الوجود البشري، إلا أن لكل منهما وظائفه المكملة للآخر.
يقول الله تعالى : في سورة النساء
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا
زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [1] }
ويقول عز وجل في سورة النساء :
{ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [124] }
وغير صحيح أن هناك آيات قرآنية تُنقص من حق المرأة ومكانتها، وإنما هناك فهم خاطئ لها. ومن هذه الآيات، قول الله تعالى في سورة البقرة :
{ …وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ…}
وفي نفس السورة :
{… فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ…}
{…أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى…}
وقوله تعالى في سورة النساء :
{…لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ…}
وقوله في نفس السورة :
{…وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ…}
وقوله في نفس السورة :
{…الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ }
فالمتدبر لهذه الآيات يجد أن ما يظنه البعض من عدم مساواة بين الرجل والمرأة معظمه يتعلق بتشريعات خاصة بالأموال. وليس في ذلك ما يقلل من منزلة المرأة ومكانتها في المجتمع، وإنما هو من باب إحداث التوازن الاقتصادي في توزيع الثروات تبعاً للمسؤوليات التي يتحملها أفراد المجتمع. فلقد حمَّلت الشريعة الإسلامية الرجل مسؤولية الإنفاق على أسرته، ولم تحمّلها للمرأة، بل ولم تطلب منها مشاركته فيها، مما يترتب عليه إحداث نوع من التوازن في تحديد أنصبة الذكور، وليس في ذلك تفضيل للذكر أو للأنثى في القيمة الإنسانية. فهناك مثلا حالات تأخذ فيها المرأة مثل نصيب الرجل تماماً؛ ومن ذلك :
ــ ميراث الإخوة لأم مع الأخوات لأم، حيث يقول الله تعالى في سورة النساء:
{ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ [12]}
وهي صريحة في تساوي نصيب المرأة مع نصيب الرجل في
هذه الحالة .
ــ ومعلوم ميراث الأم مع الأب في حال وجود ابن وارث :
{…وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ… }
ــ وهناك حالات تأخذ فيها المرأة أكثر من نصيب الرجل, وهذا كثير في حالات إرث النساء بطريق الفرض [ أي النسبة المحددة شرعا ], فلو هلكت امرأة عن زوج وأختين لأم, وأخوين شقيقين, فإنَّ كل أخت لأمٍّ تأخذ ضعف نصيب الأخ الشقيق، مع كونه أقرب
إلى المتوفاة .
وينبغي أن نعلم أنَّ أكبر نسبة في الفروض هي [ الثلثان ] وهي
خاصة بالنساء فقط .
ــ وحالات ترث فيها المرأة, ولا يرث فيها نظيرها من الرجال . ومن ذلك الجدات, فكثيراً ما يرثن, ولا يرث الأجداد, فلو توفي شخص عن أب أم, وأم أم, فهنا ترث أم الأمِّ, ولا يرث أبو الأم.
ــ وأربع حالات محدّدة, ترث فيها المرأة نصف الرجل، منها وجود البنت مع الابن, كما في قول الله عز وجل في سورة النساء :
{ يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ …… }
الآية [11] .
وهذه الحالات الأربع التي يرث فيها الذكر مثل حظ الأنثيين، تتفق مع ما سبق أن ذكرناه من حكمة التشريع في توزيع الثروات لتحقيق الحق والعدل الإلهي، بعيدا عن مسألة الذكورة أو الأنوثة. فكلما اقتربت الصلة زاد نصيب الفرد في الميراث. وكذلك يزداد نصيب الفرع عن الأصل، فترث البنت أكثر من الأم [ وكلتاهما أنثى ]، والابن يرث أكثر من الأب [ وكلاهما من الذكور ] .
إذن، فعندما فضلت الشريعة الإسلامية الرجل في أشياء، تتعلق بطبيعته كرجل، فضلت في مقابل ذلك المرأة في أشياء تتعلق أيضا بطبيعتها، على نفس المستوى من التفضيل، وبنفس القدر، ولكن حسب وظيفة كل منهما ودوره في الحياة .
___ ولبيان ذلك لابد من الوقوف على عدة حقائق :
▪︎ أولا : إن المتتبع للبحوث العلمية المتعلقة بالاختلافات الجوهرية بين الذكر والأنثى، خاصة بعد هذا التطور الهائل في الأجهزة الطبية، وخاصة الرنين المغناطيسي والمسح الذري، يلاحظ أن أهم ما توصلت إليه هذه البحوث هو الاختلاف الجذري الواضح بين دماغ المرأة ودماغ الرجل، فدماغ الذكر تختلف عند ولادته عن دماغ الأنثى، وأن دماغ الرجل يعالج المعلومات بطريقة مختلفة عن دماغ المرأة، حتى في حالة الراحة. والعجيب أن تصميم دماغ الرجل ودماغ المرأة جاء كل منهما متناغماً مع العمل
الذي سيقوم به .
وفي دراسة أخرى تبين أن دماغ الأنثى يختلف عن دماغ الرجل في تخزين المعلومات بالنسبة [ للذاكرة الطويلة ] ، أي أن الرجل يستعمل مناطق من دماغه تختلف عن المرأة في تخزين المعلومات [ لفترة طويلة ] . وتظهر اختلافات واضحة بين دماغ الذكر ودماغ الأنثى في المنطقة المسماة hypothalamus والمنطقة قبل البصرية . ومع تقدم العمر تتأثر المعلومات التي اختزنها الرجل في دماغه بطريقة مختلفة عن المرأة . وتبين الأبحاث الجديدة أن [ عاطفة المرأة تؤثر على ذاكرتها ] بطريقة أكبر من الرجل . ومعظم هذه النتائج منشورة على شبكة الإنترنت
يسهل التعرف عليها .
لقد أصبح من الحقائق التي لا يمكن تجاهلها أن هناك اختلافًا في التركيب العضوي والنفسي بين المرأة والرجل بما يتناسب مع أداء وظيفته المخلوق لأجلها، وأن هذا الاختلاف ليس اختلاف تضاد وإنما اختلاف تكامل، قد جعله الله تعالى مقصدا رئيسا لنظام الزوجية لولاه ما قام هذا الوجود البشري. فالأُنثى لا تصلح في كثير من الوظائف التي يصلح لها الذكر لاختلاف في التركيبة
الوظيفية لكل منهما .
وفي سياق ما سبق نستطيع أن نفهم لماذا جعل الله تعالى القوامة للرجال على النساء، فقال تعالى في سورة النساء :
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ… [34] }
تدبر قول الله تعالى { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
إذن فالاختلاف بين الرجل والمرأة هو فضل من الله تعالى يتعلق
بالتركيبة الوظيفية لكل منهما، وليس في ذلك انتقاص من
شأن أحدهما .
وبسبب هذه التركيبة الوظيفية تمر المرأة بأحوال وتغيرات عضوية ونفسية قد يكون لها أثرها على حياتها الزوجية وعلى طريقة تفكيرها وتعاملها مع الناس، وذلك بسبب زيادة الإفرازات الهرمونية المختلفة. ومن ذلك قلة التركيز وسرعة الانفعال والقلق والوهن وتغير المزاج. واللافت للنظر أن هذه الحقيقة مرتكزة في نفوس الناسوعلى مر العصور . يقول الله في سورة آل عمران :
{ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [36] }
لقد سبق لفظ [الذَّكَرُ] هنا وتقدم على [الأُنْثَى] لأنه هو الذي كانت ترجوه وتأمله امرأة عمران لتحقيق نذرها لخدمة البيت المقدس. ولكن عندما يريد الله تعالى أن تصبح الأنوثة أكمل وأعلى رتبة من الذكورة كان ما يريد وتحقق مقصود امرأة عمران وفق إرادة الله
وأوفت بنذرها على أحسن حال .
▪︎ ثانيا : من منطلق هذه التركيبة الوظيفية لكل من المرأة والرجل، أمر الله تعالى أن يكون اختيار الشهود [عند الإشهاد] من الرجال، فقال تعالى في سورة النساء:
{ وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ
أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً [15] }
وقال الله تعالى في سورة المائدة:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ…. [106] }
وقال تعالى في سورة النور:
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [4] }
وتدبر قوله تعالى في سورة الطلاق:
{ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [2] }.
وبتدبر سياق ما سبق نعلم خطأ زعم الذين يدّعون أن صيغة الجمع المذكر التي وردت في هذه الآيات تشمل الرجال والنساء معا، وعلى هذا تكون شهادة المرأة تعادل شهادة الرجل. كما ندرك عدم صحة استنادهم في ذلك إلى آيات [اللعان] لأن ما ورد في آيات اللعان هو [أيْمان] يأخذها الإنسان على نفسه على أمر شاهده ولم تتوافر فيه الشروط التي تجعل القاضي يقيم عقوبة الزنا على
أساسها .
ولقد استثنى الله تعالى من قاعدة قصر الإشهاد على الرجال حالة الدين الآجل، فجعل مقام المرأتين يقوم مقام الرجل في حالة عدم توافر أكثر من رجل واحد نرضى عنه، وذلك للمحافظة على تحقق العدالة وقت التحمل ووقت الأداء، فقال تعالى في سورة البقرة :
{ ….وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى…[282] } .
لقد أجاز الله تعالى شهادة المرأتين مع رجل واحد تيسيرا على الناس في معاملاتهم التجارية والمالية اليومية، خاصة وأن أسباب توثيق هذه المعاملات كثيرة، فتارة يكون التوثق بالكتبة، وتارة بالإشهاد، وتارة بالرهن، وتارة بالضمان.
▪︎ ثالثا : عند مناقشة موضوع مكانة المرأة في الإسلام، وطبيعة دورها في حالة طلب توثيق صاحب الحق لحقه، وحالة الإدلاء بشهادتها أمام القاضي في موضوع معين، علينا أن نتعرف على
الفرق بين الشهادة والإشهاد .
• فالشهادة : بينة يعتمد عليها القاضي في حكمه، بعد أن يطمئن إليها، بصرف النظر عن عدد من شهدوا بها أو جنسهم. فالمَعْنِيُّ بالشهادة هو القاضي. وسميت شهادة لأنها مشاهدة متيقنة من ذكر كانت أم من أنثى. وأداء الشهادة فريضة على من كلف بها، ويأثم إن لم يقم بها على وجهها. يقول الله تعالى في سورة البقرة: {… وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا…} ـ وقوله تعالى بعدها : {…. وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ …}. فللقاضي أن يقبل شهادة أي عدد من الرجال منفردين، أو أي عدد من النساء منفردات، أو مجموعة من الرجال
والنساء.
• أما الإشهاد : فهو أحد طرق توثيق الحقوق، ويتم خارج دائرة القضاء، أي قبل وقوع أي خلاف أو تنازع. وعدد الشهود ونوعهم محدد بالنص القرآني [كما سبق بيانه في البند ثانيا]. والمَعْنِيُّ بالإشهاد فهو صاحب الحق نفسه، لأنه المسئول أولا وأخيرًا عن حفظ حقه بأي طريقة يراها مناسبة. وعلى هذا فلا يعتبر الإشهاد أصلا حقا للشاهد، وبالتالي إذا سلب منه يكون في ذلك تعديا على قدره ومكانته كجنس بشري، بدليل أن من حقه أن يقبله
أو يرفضه .
ولقد بينت آية الطلاق الفرق بين الشهادة والاستشهاد في
قوله تعالى :
{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ…….. [2] }
فالإشهاد المبين بكلمة [ وأشهدوا ] جاءت حال إرادة إيقاع الطلاق، وكشرط من شروطه. وإقامة الشهادة [ وأقيموا الشهادة ] جاءت حال مثول الشاهد أمام القاضي أو لجنة التحكيم ليدلي بشهادته في حال النزاع ويأتي بالبراهين والأدلة التي تساعد القاضي في تبين الحقيقة. إذن فطرق حفظ الحقوق [ الإشهاد ] شيء، وما يحكم به القاضي بناء على هذا الإشهاد، أو على غيره من
[ الشهادات ] شيء آخر.
▪︎ رابعًا : نأتي الآن إلى بيان حكمة إقامة المرأتين مقام الرجل
الواحد في آية الدين .
يقول الله تعالى في سورة البقرة :
{ …وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ
إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى…[282] }
لقد تعرضت آية الدين إلى بعض صور المعاملات المالية والتجارية ومنها: التجارة الحاضرة ــ البيع الآجل بكتاب وشهود ــ البيع برهان مقبوضة ــ بيع الأمانة. ففي حالة الديون تكون الكتابة إلى الأجل مع وجود الشهود [أي عند الإشهاد] أقوم للشهادة [ عند الإدلاء بها]، لأن ذلك سيعين على حفظ الحقوق وتذكرها، وأقرب إلى زوال الشك والارتياب عن نفوس أصحابها. لذلك قال تعالى :
{…وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ
عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا… }
إذن هذا النوع من الإشهاد في حالة الدين أو البيع الآجل هو صورة من صور المعاملات الخاصة التي نصت الآية على شروط توثيقها ، وهي :
ــ وجوب كتابة الدين ــ عدالة الكاتب ــ حرمة امتناع الكاتب عن الكتابة ــ إملاء الذي عليه الحق أو وليه ــ الإشهاد لا بد أن يكون من رجلين من المؤمنين من ذوي العدل ــ أو رجل وامرأتين من المؤمنين ــ وأن ترضى الأطراف كلها عن الشهود ــ ويحرم امتناع
الشهود عن الشهادة .
فإقامة المرأتين مقام الرجل الواحد [ وقت تحمل الشهادة ] ليس فيه إنقاص لشأنها ولا لمكانتها لأنها في الأصل حرة أن تقبل ذلك أو أن ترفض . أما إذا قبلت تحملها فإننا نكون أمام أمر آخر يتعلق بطبيعتها وما يعلمه خالقها عنها كامرأة لها وظيفتها التكاملية مع الرجل [سواء كانت أمية أو من حملة الشهادات العليا، أو كان ذلك في عصر الرسالة أم في عصور تالية] . ومن ذلك قدرتها على [ تذكر ] موضوع هذه الشهادة وقت أدائها، الأمر الذي أشار إليه الآية بقوله تعالى { أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } .
هذه الطبيعة التي بيناها عند حديثنا عن أوجه الاختلاف بين الرجل والمرأة والتي أشرنا إلى جانب منها سابقا، وهي مسألة
ورد فيها نص قرآني محكم لا مجال للاجتهاد فيه .
والمتدبر لقوله تعالى { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى } يعلم أن المقصود ليس امرأة بعينها، فكل واحدة من المرأتين يجوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكر. وفي ذلك إشارة إلى أن المرأة بطبيعتها معرضة لقلة الضبط، فجاء بالثانية عسى ألا تنسى إحداهن ما نسيته الأخرى، وحتى لا تبطل شهادة الأولى من أصلها إذا جاء وقت الأداء فلم تتذكر موضوع الشهادة أو بندا من بنودها. فكانت شهادتهما معا بمثابة شهادة رجل واحد، فيحصل المقصود
المقابل للرجلين .
إن آية الدين ليست موجهة أصلا للقاضي لتأمره بقبول شهادة رجل وامرأتين، وإنما هي موجهة لصاحب الحق تشترط عليه وجود رجلين عند الإشهاد. ولو كانت العلة خاصة بمسألة [النسيان] ما أمر الله تعالى بامرأتين، ولاكتفى [برجل واحد وامرأة واحدة] يذكرها إذا نسيت، وفي هذه الحالة سنكون أمام شاهد واحد هو الرجل، لأن القاضي لن يقبل أصلا شهادة امرأة تقول أنها نسيت
موضوع أو بنود العقد، فتدبر!!!
فالقضية لا علاقة لها بمكانة المرأة ودورها الفاعل في المجتمع الإنساني، ولا بأميتها أو بما تحمله من شهادات علمية، ولا بخبرتها ومدى مشاركتها للرجل في مجالات الحياة، ولا بوجوب قراءة القرآن قراءة جديدة تتمشى مع دعوى التطور واستحداث فقه معاصر…..، فمع إيمانا بذلك كله إلا أن موضوع الدراسة لا علاقة له به، فقضيتنا أولا وأخيرا تتعلق بكيفية تحقق العدالة والاحتياط
فيها .
فقد تدفع قوة النزعة العاطفية [ التي تتفوق فيها المرأة على الرجل ] إلى عدم تحقق هذه العدالة على وجهها الصحيح، لا تعمدا منها وإنما بضغط عاطفي أو نفسي قد لا تملك وقت الأداء التحرر منه. لذلك أراد الشارع الحكيم أن تكون شهادتها مدعومة بامرأة معها خشية افتقاد الوعي بموضوع الشهادة أو ببند من بنوده. وهذا ليس انتقاصا من مكانتها [ بدليل أن التي ستذكرها هي امرأة مثلها ] وإنما خشية أن تتغلب طبيعتها العاطفية
[ التي هي مزية فيها أصلا ] أو النفسية على شهادتها .
أما كل ما يُستبعد أن تضل فيه المرأة، مع توافر مقومات الشهادة لها [من عدالة، ورؤية بالبصر، وسماع بالأذن] ويرجع في قبوله إلى العرف القائم بين النساء [ كشهادة النساء فيما لا يطّلع عليه غيرهنّ ] أو إلى قرار القاضي، حسب القرائن التي تستند إليها المرأة [ وليس حسب نوعها كأنثى ] أو حسب نصوص الشريعة المأمور القاضي بتطبيقها [ كمسألة اللعان، واعتبار الأيْمَان الأربعة بمثابة شهادات منفردة ] فلا خلاف عند العقلاء على قبول شهادة
المرأة فيه .
إنه من لدن آدم عليه السلام، وإلى يومنا هذا والمرأة تشارك الرجل في بناء المجتمع، كلُ حسب طبيعته ومهمته التي خلقه الله تعالى من أجلها، والاختلاف بين الماضي والحاضر ليس في مبدأ مساواة المرأة بالرجل ومشاركتها له في تحمل أعباء الحياة، وإنما في
طبيعة هذه المساواة ومجالات هذه المشاركة .
إرسال تعليق