بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن البصر أحد الحواس الخمس التي ندرك بها العالم حولنا... نتأثر به ونؤثر فيه....
والبصر حاسة الرؤية كوظيفة جسدية وحاسة الإدراك كأداة سلوكية فنحن لا نبصر الشيء أي نراه فقط ولكننا نكون سلوكا معينا نتيجة هذه الرؤية. وفي مختار الصحاح "بصير بالشيء أي عليم به فهو بصير" ومنها قوله تعالى: ﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ﴾ [طه: 96].
والتبصر هو التأمل والتعرف والتبصير التعريف والإفصاح ومنه قوله تعالى ﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً ﴾ [النمل: 13].
والابصار لا يكون مجرد فعل ورد فعل وانما يكون عملية تفاعل متكاملة.فنرى الشيء وندركه ونحلله ونكون عاطفة نحوه سلبية أو إيجابية ونسمى هذا الشعور حالة انفعال.
وحاسّة البصر نافذة من نوافد المعرفة، فبها نرى الأشياء التي تقع تحت نظرنا فنميّزها تمييزاً أوّلياً، لكنّ الاعتماد على البصر وحده في التشخيص والتمييز والمعرفة غير كاف، إذ لا بدّ من مرجع آخر نرجع إليه في رفع الالتباس والغموض، أي إنّنا بحاجة إلى (ضوء) آخر نكشف به الظلمة العقلية، وهذا الضوء هو (البصيرة).
وقد ميز الله الانسان عن الحيوان بنعمة الفكر بالاستبصار حيث يتدرج الطفل من التفكير بالمحاولة والخطأ والتعلم بالشرطية والتقليدية والمحاكاة إلى مرحلة الاستبصار أي جمع حصيلة التجارب الفكرية القديمة ومزجها في خليط جديد لمواجهة مشكلة مستجدة عليه في المستقبل.
وقد خاطب الله الإنسان في أكثر من موقع قال تعالى ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21].
وتفسير الآية يحمل في طياته أن التبصر أعلى مراحل الوعي عند الإنسان لا تتحقق إلا إذا وصل درجة من العقل ترقي به إلى الملاحظة والاستنتاج والاستدلال والتحليل وفي الحياة العامة نلاحظ عند عامة الناس.
إن كثيراً من المآسي تكون نتيجة هذه الهوة العميقة بين البصر والبصيرة بين رؤية الشيء والقدرة على إدراكه والصبر في تحليله ووسيلة التعبير عن هذا الشعور نحوه بالقول أو الفعل.
ألا يمكن لكلمة واحدة أن تفسد علاقة سنوات أو حركة شاردة أن تهدم أركان أقوى الصلات هذه الكلمة أو ذلك الفعل قد سقط في الخندق الذي يفصل بين البصر والبصيرة.وما كل ذي عينين بالفعل يبصر ولا كل ذي كفين يعطي فيؤجر.
والسؤال الآن ما هي البصيرة؟
البصيرة هي الحجة والاستبصار في الشيء في قوله تعالى ﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴾ [القيامة: 14].
ونفاذ البصيرة يعني قوة الفراسة وشدة المراس وقوة الحنكة والقدرة على تخطي العقبات الحالية بالخيرات السباقة المتراكمة بتطويعها وترويضها والاستفادة منها في رؤية حلول لمشاكل جديدة.
وقد تطلق البصيرة على العلم واليقين، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي... ﴾ [يوسف: 108].
وقد تطلق على نور القلب كما يطلق البصر على نور العين.
قال الراغب البصر يقال للجارحة الباصرة والقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة والبصيرة هي هذه القدرة على الرؤية الصحيحة المتشكّلة من عقل الانسان وثقافته وتربيته وتجربته ودينه، وهي ما نصطلح عليها اليوم بـ (الوعي) فقد يكون الانسان ذا بصر حاذق لكنه ذو بصيرة كليلة ضعيفة، ولذا اعتبر القرآن أن رؤية البصيرة أهم بكثير من رؤية البصر وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].
والبصيرة هي أعلى القدرات التعليمية الفطرية، ولربما انفرد الإنسان بها، إذ يصعب قياس هذه القدرة مخبرياً .....
وهذه القدرة تتفاوت قوتها بين أفراد البشر ... صحيح أننا كلنا نشعر بها حين نواجه مشكلة أعياناً حلها ثم (يأتي الجواب كلمح البرق) ولربما جاء الحل نتيجة تفكير طويل انشغل به الدماغ من حيث لا ندرى.
فالقدرة على النفاذ إلى كنه الأمور وخفايا المعضلات ملكة لا نعرف أحكامها الآلية العصبية، ونسميها بأسماء كثيرة (إلهام، رؤية، بصيرة، النظر الثاقب، أو النفاذ) وهى ليست القدرة على التحليل المنطقي والحساب أو الرياضيات، أو البلاغة.
وحادثة رؤية سيدنا عمر بين الخطاب رضي الله عنه لسارية ومناداته له بمقولته الشهيرة " يا سارية الجبل " رغم بعد المسافة التي بينهما عن مجال البصر العادي هو نقلة للرؤية عبر الضوء السريع، فألقيت في الشبكية فحذر عمر سارية، وتلك حادثة بأمر الله تعالى حيث سخر الله الضوء لسيدنا عمر (فحدث تغير فسيولوجي في البصر والبصيرة) نقل له هذه اللقطة عبر الشعاع الضوئي تأييداً ونصراً لمن ينصره.
وهذا أحد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ينظر إلى امرأة في الطريق فتعجبه فيطيل النظر إليها، ثم يدخل هذا الصحابي على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه فيبادره بقوله: أما يستحى أحدكم أن يدخل على أمير المؤمنين وفى عينيه آثار الزنا؟ ... فيتعجب الصحابي من معرفة سيدنا عثمان لذلك بالرغم من أن أحداً لم يره، فيبادر سيدنا عثمان بقوله: أوحى أُنزل بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيقول له سيدنا عثمان: اتق فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله.
وكما أنّنا لا نستطيع أن نبصر في الظُلمة حيث. تتشابه الأشياء، أو إنّها تصبح أشباحاً لا يمكن تمييز بعضها عن بعض، فكذلك إذا فقدنا البصيرة فإنّنا نتورّط في التشخيص الخاطئ للأشخاص وللأمور. وهذا هو الفرق بين إنسان صاحب وعي وبصيرة، وآخر عديم البصيرة.
فالأوّل لا يقع ضحيّة الخداع والتغرير والتزوير، والثاني عرضة لذلك كلّه أمّا النموذج الآخر فهو الإنسان العاقل الذي يعي الواقع ويدركه ويعرف الناس من حوله، أي أنّ لديه القدرة على التمييز بين ما هو مستقيم وما هو منحرف، وما هو عدل وما هو ظلم، وما هو حق وما هو باطل، فالخير منه مأمول لأنّه مستقيم في فكره وفي عمله.
النموذج الأوّل إذن هو النموذج السالب الذي لا يعطي للحياة شيئاً بل يتسبّب في المتاعب لنفسه ولغيره.
والنموذج الثاني هو النموذج الموجب الذي يأخذ من الحياة ويعطيها وقد صوّر القرآن المميز بين الاثنين في قوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ [يونس: 35].
وفي قوله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الملك: 22].
إنّ الجواب على التساؤل القرآني واضح، فالذي يمشي سوياً ببصره وبصيرته أهدى من المنكبّ على وجهه الذي لا ينتفع ببصره في المشيء ولا ببصيرته، لأنّ السير على الطريق المستقيم لا يحتاج فقط إلى عينين مفتوحتين وإنّما إلى عقل مفتوح أيضاً.
كيف تعمل البصيرة في قلب المؤمن؟
إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة.
يقول الله سبحانه: ﴿ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ... ﴾ [الزمر: 22].
-ويقول سبحانه: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ ﴾ [الأنعام: 122].
يقول الإمام ابن القيم: " أصل كل خير للعبد - بل لكل حي ناطق - كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. كذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح " (إغاثة اللهفان 1 /24).فما يكاد نور القرآن ونور الإيمان يجتمعان حتى لكأن النور الهادئ الوضيء يفيض فيغمر حياة المرء كلها ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح، تعانق النور، وتشرفه العيون والبصائر، فيشف القلب الطيب الرقراق، ويتجرد من كثافته ويتحرر من قيد العبودية غير عبودية الله الكبير المتعال، فإذا القلب المؤمن المبصر غاية في القوة والثبات وغاية في الطاعة والإخبات وغاية في التضحية والبذل بكل المتاع الزائل.
قال ابن القيم - رحمه الله - قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75]
قال مجاهد يعني للمتفرسين.
وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله "، والتوسم التفرس ولهذا خص الله بالآيات والانتفاع بها هؤلاء...وبعث الله الرسل مذكرين ومنبهين ومكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي والإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نوراً على نور فتقوى البصيرة " (مدارج السالكين 1 /110)
المصادر:
كتاب القرآن وعلم النفس- د. محمد عثمان نجاتي
كتاب مقومات الوعي والبصيرة
مجلة النفس المطمئنة -العدد 53- مقال بين البصر والبصيرة د. الزين عباس عمارة - أستاذ الطب النفسي
موقع المسلم -البصيرة الإيمانية وإيجابية السلوك الشخصي - خالد السيد روشه
إرسال تعليق