بقلم \ المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي, ورئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الأنبياء هم قادة هذا العالم نحو الحق والخير والجمال، فهم قادة الفكر والأخلاق والعواطف بلا ريب، وهذه حقائق مسلمة، لها من الأدلة العقلية، والشواهد اليقينية، والبراهين العلمية، والأخبار التاريخية، ما يثبت صدقها المطلق.
وبين أيدينا رصيد ضخم من ميراث الأنبياء وآثارهم، وهذا الرصيد يشهد لهم جميعاً بأنهم عليهم السلام هم المخلصون لهذه البشرية، والمنقذون لها من كل الانحرافات والأوهام، والفتن والشرور والآثام.
وإذا كان الأنبياء هم رجال الإصلاح في هذا العالم، وهم حملة مبادئ الحق فيه، فإن الشوكة والقوة عندما تكون لهم، فإن الخير يعم أرجاء الأرض، نتيجة ترجمة المبادئ التي يحملونها من صورتها النظرية إلى واقع ملموس معاين، وعند ذلك يصبح الوجود دوحة ظليلة من الرحمات والخيرات والحب والعطاء.
وأما إذا كانت الشوكة بيد أعدائهم، فإنهم يتعرضون مع أتباعهم لسلسلة من الابتلاءات الكثيرة الطويلة، على أيدي أعدائهم من جلادي الإنسانية، ثم ينتهي الصراع الطويل بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
والقرآن الكريم قص لنا قصصاً عن أنبياء انتصروا وآخرين استشهدوا، وعن أنبياء صاروا ملوكا فأقاموا دين الله في الأرض، وآخرين تعرضوا لمحن كثيرة، ومن هؤلاء يوسف عليه السلام.
فيوسف بعد سلسلة من الابتلاءات، خرج منها نقي الثوب كالتبر المسبوك، وصل إلى عرش مصر، فماذا كانت سياسته آنذاك؟
إنها تتلخص بخبر موجز يسوقه ابن قتيبة وهو: (قيل ليوسف عليه السلام: مالك تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ قال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع)[1].
حين يصل نبي إلى موقع المسئولية فمعنى هذا أن المعذبين في الأرض من فقراء ومساكين ومظلومين قد حفتهم الرحمة وغمرتهم السعادة، فالنبي هو أعظم من يتحمل المسئولية، وهو أحرص على الإنسان من أمه وأبيه، وهو الذي يحمل هموم المعذبين والضعفاء ويعمل على تصفيتها واحداً تلو الآخر، بكل ما آتاه الله من عون ووسائل.
فيوسف عليه السلام الذي عاش مع الطبقة العليا في مصر في بيت العزيز، وعاش مع الطبقات المسحوقة في السجن، وتنقل بين الطبقتين، وعرف هموم الناس ومشكلاتهم، ومعاناتهم في البدو والحضر، وعرف مشكلات الأسرة والمجتمع، ثم وصل برعاية الله وقدرته إلى عرش مصر، كانت لديه من خلال ذلك كله خبرة واسعة في الحياة تؤهله لكي يحكم الناس بالعدل، وينصف المظلومين، ويرعى المحتاجين والسائلين. وهنا يختط عليه السلام لنفسه طريقاً قويماً ومنهجاً واقعياً واضحاً في إنصاف الناس، عماد هذا المنهج الإحساس بالآخرين من خلال تعريض النفس لمثل ما يتعرضون له، فحرمان النفس من لذة الشبع مع القدرة عليه كان من أجل إبقاء الشعور بمعاناة الآخرين قائماً في نفسه، ليستطيع من خلال الإحساس بهذا الشعور أن يقاوم آفة الجوع في المجتمع، ويساعد الجائعين على التغلب على هذه المشكلة، حتى يتم لهم عيش الوفر والرخاء.
ولكن ماذا لو شبع يوسف؟ أكان ينسى الجائعين؟ كلا. ولكن مجرد خوف النسيان منعه من الشبع، وهو من هو سمواً في نفسه وخلقه ودينه، وما أراه فعل ذلك إلا ليعلم المسؤولين والحكام كيف يعيشون آلام شعوبهم.
تأمل عظمة الأنبياء، وهم في أعلى درجات القوة والسيطرة والتمكين في الأرض لا ينسون الضعفاء، ولا تغرهم المناصب، ولا يزيدهم النصر والتمكين إلا تواضعاً ورأفة بالعباد والبلاد، وهم عليهم السلام يختطون لأنفسهم المناهج العملية التي تساعدهم على إقامة دين الله في الأرض، ساعين إلى مسح دموع الحزن والشقاء من عيون البشر بالعمل الصادق لا بالشعارات وحدها.
وفي كلمة يوسف فائدتان:
الفائدة الأولى: للقائمين على شؤون العباد من الحكام وأعوانهم، حيث يجب على هؤلاء إقامة العدل بين الناس، وأن لا يتخذوا ما هم فيه من سلطة سبيلاً إلى الملذات واللهو الرخيص، بل إن عليهم أن يستغلوا موقعهم لدفع عجلة الحياة نحو الخير والسعادة لشعوبهم وبخاصة الفئات المسحوقة جوعاً وفقراً، وأن يرغبوا بما عند الله ويفضلوه على ما في خزائنهم، وأن يبحثوا عن السبل العملية التي تشعرهم بمآسي الآخرين، ثم يبحثوا بعد ذلك عن حل لها، فإذا فعل الحاكم ذلك، سلم ملكه، وربح آخرته، وأحبه الله، وأحبه شعبه، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [النساء:58].
والفائدة الثانية: للسالكين طريق الله عز وجل، فما أحوج هؤلاء إلى البعد عن التخمة والشبع، والانغماس في الملذات الدنيوية الهابطة، فالطعام الكثير مفسد للبدن، مضر بالروح، جالب للنوم، مهيج للغرائز البهيمية، وقد أمرنا بعدم الإسراف بالأطعمة، وبالاعتدال في كل شيء، قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [لأعراف:31].
والشبع ربما ينسيك الجائعين، فتمسك عن الإنفاق في سبيل الله عز وجل، علماً بأن الإنفاق من أفضل القربات، فلا بد من التجرد لله، ومحاسبة النفس حتى تكون خادمة للحق، وهنا يحقق التشريع الإسلامي مقاصده، لا أن نجعل الدين مطية لأغراض دنيوية رخيصة ومطالب خسيسة عاجلة.
تبقى كلمة أخيرة في هذا الصدد، وهي أن الشيوعية البائدة ظنت بأن حل مشكلة الجوع بإثارة الحقد الطبقي، والفتن العمياء، والثورات الغاشمة، وإشعال الحرب بين الفقراء والأغنياء، والعامل ورب العمل، فسلبت الأغنياء أموالهم وجعلت الملكية جماعية، مما أفشل المصانع والمؤسسات الإنتاجية، وأدى إلى تقهقر الاقتصاد وخراب المجتمعات الشيوعية، إن حل مشكلة الفقراء والطبقات الكادحة من العمال والفلاحين لا تكون من خلال الشيوعية التي تمردت على الفطرة، وأنكرت وجود الخالق عز وجل، وحولت الناس إلى عبيد عند الحزب الشيوعي، وإنما بإيجاد الفلسفة التربوية الصادقة المنبثقة من هدى الأنبياء عليهم السلام، وإيجاد الحاكم المؤمن والمجتمع المتماسك الذي يلتزم هذا الفلسفة، وأما الشعارات البراقة بأن الشيوعية كانت مع الفقراء والمساكين فهذا كذب تدحضه التجربة الشيوعية في العديد من بلدان العالم في القرن العشرين، حيث أفقرت الشعوب، واقترفت بحقها أبشع جرائم الإبادة بحجة محاربة الإقطاع والرأسمالية.
وأما الماسونية صاحبة شعارات الحب والإخاء والمساواة فليس لنا سوى أن نضحك من شعاراتها، بعد ما رأينا الكوارث تنزل بهذا العالم، والأصابع الخفية هي من وراء الأحداث، ومع ذلك فهي ترفع شعارات براقة في حين أنها تبني فوق أنهار الدم وكتلِ الجماجم مملكةَ صهيون!!
________________________________________
[1] عيون الأخبار، (6 /374)، المؤسسة المصرية العامة للطباعة والنشر (مصورة عن طبعة دار الكتب).
إرسال تعليق