بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن القرآن الكريم والسنة الشريفة – وهما وحي الله سبحانه إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم – حافلان بالنصوص الكريمة التي تحدِّد علاقة المسلم بالآخرين من غير المسلمين، سواء كانوا يعيشون في داخل المجتمعات الإسلامية كمواطنين غير مسلمين، أم كانوا خارج المجتمعات الإسلامية، لكنهم يرتبطون بالمسلمين بعلاقة سلام – عهد أمان دولي أو ثنائي – وحتى بعلاقة حرب ومواجهة مباشرة، أجل:
ماذا يقول الإسلام – من خلال مصدريه الأصليين – في هذه القضية التي تشغل بال الإنسانية الآن، ويريد بعضهم أن يجعل الصدام الحضاري (أو الشذوذ) القاعدةَ، بينما يجعل (قاعدة الحوار والتفاعل الحضاريين) هي الشذوذ والاستثناء؟!
إن الإسلام يرفض قلب الأوضاع على هذا النحو، وهو يجعل من التعايش السِّلمي قاعدة الحياة الإنسانية، مع الإيمان الكامل بفطرية الاختلاف وتنوع العقائد، بل ضرورة هذا الاختلاف الإيجابي لاستمرار الحياة وازدهارها إذا ما التزم الناسُ بضوابط الاختلاف والتنوع وآدابهما، وبالتالي أصبحا سبيل تكامل وثراء وازدهار، وليسا سبيل تصادم وقهر وانتحار.
ونحن نلحظ – في البداية – أن القرآن الكريم يتحدَّث عن نفسه على أنه (الحق) الذي جاء مصدقًا (للحق) الموجود في الكتب السماوية الصحيحة السابقة؛ فهو آخر حلقاتها، وهو المحقق لرسالتها؛ يقول الله في كتابه الكريم عن اليهود: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91].
ويقول – أيضًا -: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ﴾ [البقرة: 101].
ويقول – أيضًا – في خطابه لرسول الله – عليه الصلاة والسلام -: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: 2 – 4].
وفي الموقف الإسلامي الكريم من توراة موسى – عليه السلام – التي أنزلها اللهُ على عبده موسى، والتي قرأها على بني إسرائيل في حياته، وحكم بها هو وأخوه هارون فيهم، ثم ترَكها بينهم وانتقل إلى الرفيق الأعلى؛ يقول الله في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].
وقد امتدح اللهُ توراة موسى في القرآن، وبيَّن أنها كانت تدعو إلى التوحيد الخالص، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، ومخاطبة الناس – غير الإسرائيليين – بالحسنى، وعدم المكر والاستكبار؛ قال -تعالى-: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [البقرة: 83].
لكن هذه التوراة التي يمدحها اللهُ في القرآن ليست هي التوراةَ التي عبثت بها أهواء اليهود، والتي يقول فيها: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75] إلى قوله -تعالى-: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79].
وقال – سبحانه -: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ﴾ [المائدة: 15].
وقال – عز وجل -: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13].
فالتوراة التي أنزلها الله على موسى، والإنجيل الذي أنزله الله على عيسى – جزءٌ من إيمان المسلمين بالوحي السماوي، ولا يكتمل إيمان المسلم إلا إذا آمن بوحي الله وكتبه التي سبقت القرآن، وقد ورد ذلك إجمالاً في قوله -تعالى-: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 84].
وقد بيَّن الله – سبحانه – في القرآن الكريم أنَّ المسلمين هم – وحدهم – على ظهر الأرض الذين يؤمنون بكل كتب الله المنزلة؛ قال – تعال -: ﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 119].
أما محمد نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- فهو – أيضًا – الحلقة الأخيرة في سلسلة واحدة مباركة، هي (سلسلة الأنبياء) التي تُشبِه العِقد الواحد، والبيت الواحد، بل إن (محمدًا رسول الإسلام) يبين للسابقين أنه – عليه السلام – “لبنة” في بناء “النبوة” الكبير… يقول: ((إن مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجُل بني بيتًا إلا موضع لَبِنة فيه، فكان الناس يمرون بالبيت ويقولون: لولا هذه اللبنة، فأنا هذه اللبنة، وأنا خاتم النبيين))[1].
وهذا الحديث الشريف – في الحقيقة – لم يكن إلا ترجمة نبوية كريمة للتوجيهات الإلهية الواردة في القرآن، والتي تؤصل وتؤكد عقيدة أن الأديان السماوية جميعًا إنما جاءت لتبين مكانة الإنسان في الكون، من خلال تعليم الإنسان وتعريفه بمصدر الكون، خالق الكون، وبمصير الكون والإنسان، وبالتالي فإن كل الأديان تقدم – مهما اختلفت في بعض الشرائع والفروع – نظامًا كاملاً للعقيدة والعبادة، يعكس (الموقف الديني) الذي يجب أن يتبناه الإنسانُ في تعامله مع الحياة والكون؛ ولهذا المعنى المتكامل لم يكن بدعًا أن يركز القرآنُ على عقيدة أنَّ رسل الله جميعًا يعزز بعضهم بعضًا، ويتضامنون في تبليغ حقيقة واحدة، وأن الأنبياء أمة واحدة تحت لواء الله الواحد، وأن هذه الوحدة كانت تجمع الناس فيما مضى، وإنما الأجيال اللاحقة هي التي بذرت الخلاف والفُرقة[2]؛ قال -تعالى-: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ﴾ [البقرة: 213]، ويقول الله -تعالى-: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
ويقول: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾ [الشورى: 13].
ويقول – سبحانه وتعالى – عند عَرْضه لقصص عدد من الأنبياء في سورة الأنبياء: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، وفي سورة “المؤمنون” يأتي المعني نفسه تقريبًا: ﴿ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ [المؤمنون: 52].
ومع هذه الخصائص المتعددة والقسمات الكثيرة التي يؤصلها الإسلام ربطًا بين القرآن والكتب السماوية، وبين محمد والأنبياء السابقين – عليهم جميعًا السلام – لدرجة توجب على المسلم الإيمانَ بكل الأنبياء إيمانًا واحدًا وكاملاً، مع هذا كله، فإنه لم تظهر في نصوص الوحي الكريم – قرآنًا أو سنة نبوية – أيُّ إشارة إلى عدم الاعتراف بالآخرين، أو أي إشارة إلى السماح بإكراههم، أو عدم معاملتهم بالحسنى، أو بكل الحقوق الإنسانية التي هي حق لكل إنسان، بل إن الإسلامَ يأمر المسلمين باتِّباع الأوامر التالية التي وردت في القرآن الكريم: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 – 6]، وفي نهاية السورة التي تقول للكافرين: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾، وفي الحوار يقول القرآن: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].
ومن المعروف أنه من المقومات الأساسية التي يتميز بها المسلمون على غيرهم أنَّ الإيمانَ في الإسلام لا يكتمل – بل لا يُعتدُّ به – إلا إذا كان إيمانًا بالأنبياء جميعًا، وبالكتب السماوية الصحيحة كلها، أما غيرهم فيؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض، وبالتالي يؤمنون ببعض الكتاب (الوحي) ويكفرون ببعض، وقد سماه القرآنُ كتابًا على أساس أن الكتبَ السماوية كتاب واحد تتغير طبعاته وبعض قضاياه؛ لتتلاءمَ مع التطور البشري في الوعي والتحديات الخارجية.
كما يتميز إيمانُ المسلمين بأنه يعترف – بل يوجب على أتباعه – حماية المتدينين ورؤساء الأديان من غير المسلمين، وعلى حين تنكر كلُّ الأديان غيرَها؛ فإن الإسلام يبحث عن (الحكمة)، ويبحث عن الأخبار في كل دين من الذين يؤمنون بالوحي كله والأنبياء جميعًا، حتى لو أضمروا دينهم ولم يظهروه: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ [آل عمران: 113].. إلى أن يقولَ فيهم: ﴿ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 115].
________________________________________
[1] رواه مسلم.
[2] محمد عبدالله دراز: مختصر مدخل القرآن الكريم، ص 25، طبع مصر.
إرسال تعليق