بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لا شك فيه أن كثيرٌا من العلماء شغل مناصبَ في الدول التي عاشوا فيها، ونفع الله بمناصبهم تلك في شؤون الدِّين، وكذلك في شؤون الدُّنيا؛ لأنهم أرادوا من وراء هذه المناصب مرضاة الله تعالى، ويحفظ لنا التاريخ من أسماء هؤلاء العلماء ملوكًا وأمراء ووزراء وما دون ذلك، فمِن هؤلاء صديق حسن خان صاحب التآليف المبدعة الرائعة؛ ومنها كتاب الروضة النديَّة وغيرها، فقد كان وزيرًا وزوجًا لملكة بهوبال من أعمال الهند، وكان يلقَّب بأمير بهوبال، ومنهم محمد بن إبراهيم الوزير صاحب كتاب “العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم”، في اليمن، ومنهم صاحب قصَّتنا هذه ابن حزم، وَزَرَ لخلفاء كثيرين، وهو وزير ابن وزير؛ فقد كان والده يرأس الوزارة أيضًا لخلفاء دولة بني أميَّة في الأندلس، فنشأ صاحبنا أميرًا في هذه البلاد “الأندلس”، تلك التي ينبئ اسمها عن ترف، ومَغَانٍ، ورياض فيحاء، وخصب طيب، ومروجٍ خضراء، ومناظر مبهجة، زيَّنها بها ربُّ العالمين، حتى كانت – بحقٍّ – فردَوسًا من فراديس الأرض، وكانت ريحانة أرض الإسلام، حتى إننا لا نعجب أن يبتدئ صاحبُنا حياتَه بالكتابة عن “العشق والعشَّاق والإلف والألاف، كتابة من ذاق طعمَ الحب، وعرف ما تعتلج به نفس المحبِّ، وما يختلج في ثنايا صدره من لواعج العشق”[1]، حتى لقد وصفه ابنُ القيم بأنَّ كلامه في العشق تنماع فيه نفسه انمياعًا[2]، وهذا مظهر النفس العطوف الألوف في صاحبنا، صنعتها الطبيعةُ التي حولها والبيئة التي تضمُّه، تمدَّانه بصفاء ورقَّة حسٍّ وإرهاف ذوق، مع رقَّة أسلوبٍ وجمال تعبير وحسن تصوير، لكن في خلوٍّ من العلم والفقه إلا بعض ما كان قد تعلم في صِغره ما يتعلمه من هو في مثل مكانته من حفظ القرآن والأشعار، وتعلم القراءة والكتابة، وإذا عرفنا أن ذلك كان على أيدي النساء، عرفنا إلى أي مدًى وصلَت تلك النفس اللعوب، لكن في عفَّة واستقامة نفس ظاهرتين.
فلا نتعجَّب ونحن نقرأ في معجم الأدباء كلام ياقوت الحموي راويًا عن أبي محمد بن العربي ما نصه:
“قال لي الوزير أبو محمد بن العربي، أخبرني الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أنَّ سبب تعلُّمه الفقه أنه شهد جنازةً لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجدَ قبل صلاة العصر والحفل فيه، فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه – يعني الذي رباه – بإشارة -: أنْ قم فصلِّ تحيةَ المسجد، فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: أبلغت هذه السنَّ ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟ وكان قد بلغ حينئذٍ ستة وعشرين عامًا، قال: فقمتُ وركعت وفهمت إذن إشارة الأستاذ إليَّ بذلك، قال: فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحياء من أقرباء الميت، دخلتُ المسجد فبادرتُ بالركوع، فقيل لي: اجلس اجلس، ليس هذا وقت صلاة، فانصرفتُ عن الميت وقد خزيت، ولحقني ما هانت عليَّ به نفسي، وقلت للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله بن دحون، فدلَّني فقصدته من ذلك المشهد وأعلمته بما جرى فيه، وسألتُه الابتداء بقراءة العلم واسترشدته، فدلَّني على كتاب “الموطأ” لمالك بن أنس رضي الله عنه، فبدأتُ به عليه قراءةً من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام وبدأتُ بالمناظرة”[3].
ومثل ركعتي تحية المسجد، سجدة السهو التي تَجبر الخَلل الذي يقع في الصلاة لم يكن ابنُ حزم وهو في هذه السن يدري عنها شيئًا؛ فقد ذكر أيضًا ياقوت عن تلميذ ابن حزم هذا قوله: “إني بلغت هذه السن – أي: سن ست وعشرين سنة – وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات”[4].
لقد كانت تلك الحادثة في حياة ابن حزم رحمه الله بمثابة أفعى رقطاء أفرغت سمَّها الزعاف في جسده، فطار إلى الطبيب يلتمس لها الدواء، فإذا ابن حزم يلومُ نفسَه على عدم العلم، فيتعهدها من يومها بالعلم، حتى إنه ليناظر أبا الوليد الباجي إمامَ المالكية في الأندلس فيغلبه في المناظرة، وذلك بعد حادثة المسجد هذه بسنين معدودة، وابن حزم بعد ذلك هو ابن حزم!
ومن ذا في الدنيا كلها لم يسمع به، أو لم ينعم على ناظريه برؤية “المحلَّى” الذي صاغته يداه؟
وفي قصَّة ابن حزم من دُرَر الفوائد وغرر الدروس كثير، وأولاها بالإشارة هاهنا ما نبهتُ عليه قبل ذلك في سيرة شيخ نحاة الكوفة ومقرئيها الإمام الكسائي؛ أنَّ كبر السنِّ ليس عائقًا أبدًا عن التفوُّق العلميِّ والنبوغ فيه، ومن نوادر ما يذكر في ذلك – بعثًا للهمَّة وتقوية للعزيمة – أن الإمام “القفَّال” ذهب ليطلبَ العلم وعمره أربعون سنة، فقال: كيف أطلب العلم، ومتى أحفظ، ومتى أفهم، ومتى أعلِّم الناس؟
فرجع فمرَّ بصاحب ساقية، يسوق على البقر، وكان رشاء هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مرَّ، فقال: “أطلبه، ولا أتضجر من طلبه”، وأنشأ يقول:
اطْلُب ولا تَضجَر من مَطلَبٍ
فآفةُ الطالب أن يَضجَرا
أما ترى الحبل بطول المدى
على صليب الصخر قد أثَّرا
واستمر يطلبُ العلمَ وصار إمامًا من كبار الأئمة، ومن جهابذة الدنيا[5].
وجاء في ترجمة يحيى النحوي أنه كان ملاَّحًا، يعبر الناس في سفينته، وكان يحب العلمَ كثيرًا، فإذا عبر معه قومٌ من دار العلم والدرس التي كانت بجزيرة الإسكندرية يتحاورون فيما مضى لهم من النظر ويتفاوضونه، يسمعه فتهش نفسه للعلم، فلما قوي رأيه في طلب العلم فكَّر في نفسه، وقال: قد بلغت نيفًا وأربعين سنة وما ارتضت بشيء ولا عرفتُ غير صناعة الملاحة، فكيف يمكنني أن أتعرض لشيء من العلوم؟ وفيما هو يفكر إذ رأى نملة قد حملت نواة تمرة وهي دائبة تصعد بها، فوقعَت منها فعادَت فأخذتها، ولم تزل تجاهد مرارًا حتى بلغت بالمجاهدة غرضها، فقال: إذا كان هذا الحيوان الضعيف قد بلغ غرضه بالمجاهدة والمناصبة، فبالحريِّ أن أبلغ غرضي بالمجاهدة.
فخرج من وقته وباع سفينتَه، ولزم دارَ العلم، وبدأ يتعلَّم النحو واللغة والمنطق، فبرع في هذه العلوم؛ لأنه أول ما ابتدأ بها، فنُسب إليها واشتهر بها، ووضع كتبًا كثيرة، ويحيى هذا لقي عمرو بن العاص وأعجب عمرو به[6].
________________________________________
[1] ابن حزم (8)، أبو زهرة.
[2] روضة المحبين، ابن القيم، نقلاً عن ابن حزم (8)، أبو زهرة.
[3] معجم الأدباء (12/ 241،242)، ياقوت الحموي.
ورجح العلامة أبو زهرة أن ذلك كان وابن حزم في سن السادسة عشرة من عمره، وقال عن الرواية: إنه قد “يكون في الكلام تصحيف من النساخ، وقد كتبوا بدل العشر عشرين”؛ لأسباب ذكرها، انظر كتابه ابن حزم (ص 11).
[4] معجم الأدباء (12/ 241،242).
[5] علوُّ الهمَّة (206)، محمد إسماعيل المقدم.
[6] نفسه.
إرسال تعليق