بقلم \ المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربى الدولى
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
أصبح سليمان النبي عليه السلام ملكًا على بني إسرائيل وقائدًا لهم بعد أبيه داود عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16]، والوراثة في هذه الآية ليست وراثة النبوة؛ لأن النبوة درجة يَصطفي لها الله جل جلاله من يشاء من عباده، وإن كان بعض أبناء الأنبياء أنبياءَ، فهذا من باب الاصطفاء وليس الوراثة، وكذلك هي ليست وراثة المال؛ لأن الأنبياء لا يورِّثون المال؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا معشر الأنبياء لا نُورَّث، ما تركنا فهو صدقة))[1]، فتكون الوراثة هنا هي وراثةَ وظيفةِ الخلافة في الأرض، وتحمُّل أعباء الحكم بين الناس بما أنزَل الله سبحانه وتعالى وقيادتهم، وكذلك هي وراثة العلم، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وأورثوا العلم))[2].
◙ فمِن صفات سليمان عليه السلام القياديَّة التي جاء ذكرها في القرآن العظيم:
1- أنه عليه السلام أوَّاب؛ قال تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30]، وقد بيّنت صفة الأواب عند داود عليه السلام.
2- تفقُّد الرَّعية: فمِن مَهامِّ القائد أن يُتابع ويتفقَّد رعيته، فضلاً عن جنوده؛ قال تعالى: ﴿ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ ﴾ [النمل: 20]، والتفقد يكون وَفْقَ سياستين:
الأولى: المتابعة المَيدانيَّة والمراقبة، ومعرفة المقصِّرين والذين يقومون بتطبيق القوانين مِن المخالفين، ومَن يقوم بالأعمال على الوجه الأمثل مِن غيره.
الثانية: معرفة من يحتاج للمساعدة بشتى أنواعها؛ المالية والصحية، وغيرها.
وفي موضوع تفقُّد النبي سليمان عليه السلام مجموعة من المسائل:
الأولى: أن القائد سليمان عليه السلام كان يتفقَّد كل رعيته بدون استثناء، ولأن غائبًا كان في جماعة الطيور، فقد جاء السياق القرآني أنه عليه السلام تفقّد الطير، وإلا فليس من المنطق أن يتفقَّد الطير ولا يتفقد الجنود مثلاً؛ فالقائد الإيجابي يتفقد الرعية كلَّها؛ صغيرَها وكبيرها، غنيَّها وفقيرها، صحيحها وسقيمها، وهكذا كان دَأب القائد سليمان عليه السلام.
الثانية: أن الهدهد من المخلوقات الضعيفة؛ لكونه طائرًا، فمِن هنا كانت رسالة لكل قائد أن لا يَنسى في تفقُّده صِغار القوم.
الثالثة: بالرغم من صغر الهدهد وضعفه، فإنه يتمتع بقدرات هائلة؛ فهو يتميز ببصره الثاقب، حتى إنه يستطيع أن يعي ما تحت الأرض لحدٍّ معين، كما أن له القدرةَ على قطع المسافات الشاسعة، فضلاً عن جماله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: “كان الهدهد يَدلُّ سليمان على الماء”[3]، وكان الهدهد بمثابة مسؤول الاستخبارات الذي يأتي بالأخبار عمَّا يَجري في محيط الدولة التي يقودها النبي سليمان عليه السلام، ولهذا فإن على القائد متابعةَ ذَوي القدرات المتميزة والمهارات الخاصة، وتخصيصَهم بالتفقد وغيره، كما يمكنه أن يُعطيَهم مَهَمَّات إضافية، ويتواصلَ معهم بشكل دائم.
الرابعة: أن سليمان عليه السلام افتقد الهدهد بنفسه؛ حيث قال: ﴿ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾ [النمل: 20]، ولم يعتمد على تقارير الآخرين، وإن جاءت للقائد تقاريرُ هو بحاجة لها فينبغي أن يتوثَّق منها بنفسه؛ لئلا يكون ما يَدفع كاتبَها أسبابٌ شخصية أو مصالحُ دنيوية أو عداوة معيَّنة في تعيين أخطاء الآخرين وكشف عَوارهم.
3- الشعور بالمسؤولية عن هداية الآخَرين: وهي صفة من صفات القائد الإيجابي، بل هي واجبة عليه، فهو يَشعر بأن مسؤولية إضافية تقع على عاتقه تتجلَّى في هداية الآخرين ونشر الفضيلة بينهم، وإن لم يكونوا من رعيته أو أتباعه، ومن هنا كتب نبيُّ الله سليمان عليه السلام إلى بلقيس وقومها كتابًا يَدعوهم فيه للدخول في الإسلام، ويلاحظ أن كتاب سليمان عليه السلام لم يكن فيه إطناب وسَرْد طويل للكلام، وإنما كان موجزًا وواضحًا، وبِلُغة بسيطة ومفهومة، قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 30، 31]، وهذه صفة مهمة في مخاطَبات القائد الإيجابي؛ يختصر الكلام حتى لا يتيه الآخرون بين كثرة المعاني وطول الكلام؛ يقول الطبري: “وكذلك كانت تَكتب الأنبياء، لا تُطنِب، إنما تَكتب جُملاً، قال: لم يَزد سليمان على ما قصَّ الله جل جلاله في كتابه: إنه، وإنه”[4].
يقول ابن جرير الطبري في تفسيره: “وكان – سليمان عليه السلام – مع ذلك رجلاً حُبِّب إليه الجهاد والغَزو، فلما دلَّه الهدهد على مُلكٍ بموضع من الأرض، هو لغيره، وقوم كفَرة يعبدون غير الله جل جلاله، له في جهادهم وغزوهم الأجرُ الجزيل، والثواب العظيم في الآجل، وضمُّ مملكة لغيره إلى مُلكه حقَّت للهدهد المعذرة، وصحَّت له الحجَّة في مَغيبه عن سليمان”[5].
ومن هنا فإنَّ الهدهد حين جاء بالنبأ للنبيِّ سليمان عليه السلام قدَّم له بما يُلائم مقام الجهاد والغزو؛ فهو يخاطب القائد بما يَنسجم مع توجُّهه العام، وهذا يَعني أن هناك لغةً مشتركة وتفاهمًا إيجابيًّا بين القائد ومَن يعمل معه.
4- المحاسبة: من صلاحيات القائد الإيجابي أنه يحاسب من بمعيَّته، ولكنَّ الحساب يكون بالحق؛ فمن يقصِّر متعمِّدًا، أو يتهاون، أو يَخرق القوانين، فلا بد له من المحاسبة، تتبعها العقوبة إذا اقتَضَت الضرورة، ومن غير المحاسَبة يَتيه الأتباع، ويمارسون الخطأ، ويتجاوزن الأنظمة غير آبِهين بما يَجري ولا بالنتائج المترتِّبة على ذلك العمل؛ لهذا قال أحد الحكماء: “من أمِنَ الحساب أساءَ الأدب”، ومن هذا المبدأ بيَّن نبيُّ الله سليمانُ عليه السلام أنه سيُحاسِب ويعاقب الهدد إذا ثبَت تقصيره؛ قال تعالى: ﴿ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 21].
وحين يَغيب أحدُ أتباع القائد – سواء كان جنديًّا، أو يعمل بوظيفة مدنية – من غير عذر، أو طلبِ إذنٍ بالغياب، يجب على القائد محاسبته، وإذا اقتضى الأمر معاقبته، وجاءت قرارات سليمان عليه السلام بعقوبة الهدهد نتيجة لغيابه في ثلاثة احتمالات:
الأول: إذا كان الغياب تقصيرًا أو غفلةً أو انشغالاً بأمور أخرى خارج المهمَّة الوظيفية الملقاة على عاتقه، فستكون العقوبة شديدة وفيها العذاب، وربما كان هذا العذاب السَّجن أو قَطْع الغذاء أو الضرب أو غير ذلك، فمن حقِّ القائد أن يضع القوانين اللازمة والمناسبة لذلك.
الثاني: إذا كان الغياب بسبب الخيانة، واللجوء إلى دولةٍ أخرى، فهنا تكون العقوبة بالقتل، وهو ما يُعرف عندنا اليوم بالإعدام؛ لأن الجريمة هي جريمة الخيانة العظمى، فاقتضى أن تكون العقوبة تناسبها.
الثالث: في حالة أن يقدم الهدهد عذرًا مقبولاً ومشفوعًا بدليل قاطع ليس فيه لبسٌ على ما كان من سبب غيابه، عن ذلك ستُلغى فكرة العقوبة من الأصل.
وبالفعل؛ فحين عاد الهدهد قدَّم عذرًا تضمَّن أدلة علمية وحججًا واضحة؛ يقول الشنقيطي في “أضواء البيان”:
“ففي هذا السياق عشرُ قضايا يُدركها الهدهد، ويفصح عنها لنبي الله سليمان عليه السلام:
الأولى: إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان.
الثانية: معرفته لسبأ بعينِها دون غيرها، ومجيؤه منها بنبأ يقين لا شك فيه.
الثالثة: معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم.
الرابعة: إداركه ما أوتيته سبأ من متاع الدنيا من كل شيء.
الخامسة: أن لها عرشًا عظيمًا.
السادسة: إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله.
السابعة: إدراكه أن هذا شِركٌ بالله تعالى.
الثامنة: أن هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم.
التاسعة: أن هذا ضلالٌ عن السبيل القويم.
العاشرة: أنهم لا يهتدون.
وقد اقتنع سليمان بإدراك الهدهد لهذا كلِّه، فقال له: ﴿ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]”[6].
وفي حالة أن يَنطويَ حسابُ القائد لأحدٍ ما على عقوبة، فيَنبغي أن تتَّصف العقوبات المفروضة بما يأتي[7]:
◄ أن العقوبة لا تكون إلا بعد استبيان الأمر جيدًا، والاستماع للمعاقَب، ومنحُه الفرصة المناسبة للردِّ على التُّهَم الموجَّهة إليه، والاستماع لوجهة نظره، والدفاع عن نفسه بواقعيَّة، حين ذلك ستكون العقوبة معبرًا حقيقيًّا عن رصانة قوانين العمل وكفاءة المؤسسة، وعدالة القائد.
◄ في حالة وجود أكثرَ من عقوبة فإنها تطبَّق بالتدرُّج، وليس دَفعة واحدة.
◄ إن الهدف من العقوبة تقويمي وتصحيحي، وليس انتقاصيًّا تشهيريًّا، فإذا تحقَّق المراد فسيَكون من الأفضل إزالةُ آثارها بالكامل، لقد أنزل الله تعالى قرآنًا في شأن كعب بن مالك رضي الله عنه وأصحابِه؛ لإزالة كافة الآثار والتَّبِعات التي حصَلَت من جرَّاء العقوبات التي عوقبوا بها؛ قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118].
◄ إعادة الفرد المعنيِّ بالعقوبة إلى مكانته السابقة، وبالقيمة نفسِها والتقدير نفسِه.
◄ المصداقية في تطبيق العقوبات، وأن تطبَّق على الجميع من غير استثناء، فإذا رأى الأفرادُ التهاونَ في العقوبات المعلَنة تهاونوا في الانضباط بقوانين وأنظمة العمل؛ لما يرَونه من ضعفِ – أو عدمِ مصداقيَّةِ – ذلك الوعيد، وحين ذاك لن تؤدِّي العقوبات دورها الفعَّال المطلوب.
5- النفوذ الواسع: والنفوذ: هو القدرة على إحداث أمرٍ أو منعه، وهو مرتبطٌ بالقدرات الذاتية، ويُضاف لها الإمكاناتُ الماديَّة والصلاحيات الممنوحة والأدوات المتوفِّرة، فمِن أجل أن يَكون سليمانُ عليه السلام قادرًا على التغيير فإنه يحتاج إلى نفوذٍ واسع، ومن حكمته عليه السلام أنه طلَب نفوذًا عظيمًا؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ص: 35 – 39].
واستجاب ربُّ العزة جل جلاله لدعائه، وأعطاه ما طلب؛ ليُمارس دور القائد بإمكاناتٍ هائلة، فمِمَّا أعطى الله جل جلاله لنبيه سليمان عليه السلام:
◄ سخَّر له الرِّيح.
◄ سخر له الشياطين يعملون له ما شاء.
◄ علَّمه منطق الطير.
◄ فضَّله على كثير من عباده المؤمنين.
◄ آتاه ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد مِن بعده في عظَمته.
◄ خوَّله فيما أعطاه بالعطاء أو المنع أو التصرف من غير حساب.
6- رفض الرشوة: وهنا يَنبغي للقائد أن يميز جيدًا بين الرِّشوة وبين الهديَّة، وتتدخَّل في هذا التمييز مجموعةٌ من العوامل؛ فمِنها العلم، ومنها التقوى، ومنها نَقاء السريرة، ومنها صدق النِّية، فالهدية والرِّشوة في العطاء والأخذ متشابهتان، ولكن الفرق في النوايا والنتائج، ومن هنا ميَّز النبيُّ سليمان عليه السلام أنَّ ما أرسلته الملكة بلقيس إنما كانت بمثابة الرِّشوة، لعله يرجع عن قراره حين دعاهم للإسلام؛ لذلك فإنه عليه السلام رفَضها رفضًا قاطعًا، قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ﴾ [النمل: 36].
ويحقُّ للقائد أن يَقبل الهدية سواء كانت شخصيَّة أو لمصلحة الجماعة، ولا يحق له أن يَأخذ الرشوة، وللتمييز بين الهدية والرشوة:
◄ الهدية تكون من غير مقابل؛ ولهذا اعتبر النبيُّ سليمان عليه السلام هديَّة بلقيس رشوة، حين قالت: ﴿ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ [النمل: 35]، فما دامَت الملكة بلقيس تَنتظر أن يَرجع مَن أرسلته بالهدية بالنتيجة فقد كانت تنتظر المقابلَ لتلك الهدية، فتكون رشوة وليست هدية.
◄ أن لا يكون توقيتها في وقت اتِّخاذ قرارٍ بشأن معيَّن، فيؤثر وجودها في ذلك القرار بشكل كلِّي أو جزئي.
◄ وعلى العموم فإن الرشوة هي ما يُتوصَّل به إلى إحقاق باطلٍ أو إلى إبطال حق؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “قال العلماء: إنَّ مَن أهدى هدية لولي الأمر ليفعل معه ما لا يجوز كان حرامًا على المُهدي والمُهدى إليه، وهي مِن الرشوة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله الراشيَ والمرتشيَ والرائش))”[8].
7- مواكبة التطور العلمي واستثماره: ومن ذلك أنَّ سُليمان عليه السلام استغلَّ العلم في صناعة الزجاج، واستثمر ذلك في إبهار بلقيس من أجل هِدايتها، فأمر عليه السلام بأن تُزجَّج الأرض التي استقبَل عليها بلقيس، وجعل مِن تحت الزجاج الشفاف ماءً يَجري، فلما رأته ظنَّت أنه بِركةً من ماء، فرفعَت ثيابها من أجل أن لا تبتلَّ، قال تعالى: ﴿ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [النمل: 44].
8- فَهم لغات الرعيَّة وإن اختلفَت، والقائد الإيجابي يحتاج لأن يتكلم بلُغة رعيته؛ فإنها قد تختلف لهجات الأمة بسبب اختلاف الأعراق، أو المناطق، أو الجنس، وإن التفاهم بين القائد وأتباعه عبر المترجِمين قد يُحدث خللاً في الفَهم، ولقد منَّ الله جل جلاله على سليمان عليه السلام أنْ علَّمَه لغات الحيوانات والحشرات وغيرها؛ لأنها عمَليًّا كانت مِن رعاياه وتعمل تحت أمره.
فمِن اللغات التي كان يعرفها سليمان عليه السلام:
◄ منطق الطير؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾ [النمل: 16].
◄ لغة الحشرات؛ ومنها لغة النمل، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ﴾ [النمل: 18، 19].
◄ ورَدَت مجموعةٌ من الآثار في بعض التفاسير عن بعض الإسرائيليات أنَّ سليمان عليه السلام كان يستمع إلى الفاختة والقِمْري والضِّفدع وغيرها من الحيوانات، فيبلِّغ الناسَ بأقوالها، وهذه التفصيلات لم تَذكُرها آيات القرآن العظيم وهو مَقام بحثنا، كما ليس فيها نصٌّ صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فقد تجنَّبَها البحث.
9- الشكر: فكان نبي الله سليمان عليه السلام يَعلَم أن الشكر صفةٌ ينبغي أن تلازم القائد الإيجابي، فكان عليه السلام ما إن يَرى نعمةً من الله جل جلاله حتى يُبادر بالشكر لله جل جلاله؛ فقد قالها حين سمع كلام النملة وفَهِم قولَها؛ قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 18، 19].
وقال النبي سليمان عليه السلام بالشكر عندما جاء ذلك الرجلُ – الذي يَعلم اسمَ الله الأعظم – بعرش بلقيس ووضَعه أمام ناظره، قبل أن يرتدَّ إلى سليمان عليه السلام طرْفُه، قال تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 40]، وقد جرى شرحُ الشكر عند القائد داودَ عليه السلام.
________________________________________
[1] السنن الكبرى للنسائي – كتاب الفرائض – ذِكر مواريث الأنبياء.
[2] صحيح ابن حبان – كتاب العلم – ذكر وصف العلماء الذين لهم الفضل.
[3] المستدرك على الصحيحين للحاكم – كتاب التفسير – تفسير سورة النمل.
[4] جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير الطبري، ج19، ص 452.
[5] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، ج19، ص148.
[6] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد الجكني الشنقيطي، ج8، ص8.
[7] انظر: استثمار الموارد البشرية، رؤية تنموية إسلامية، للمؤلف، ص 93.
[8] مختصر الفتاوى المصرية: لابن تيمية، بدر الدين أبو عبدالله محمد بن علي الحنبلي البعلي، ص458.
إرسال تعليق