مقال بعنوان :رحلة في أعماق النفس
بقلم ا.د إبراهيم محمد مرجونة
من روائع العم صلاح جاهين
إيـديا فـى جيوبـى وقلبـى طـرب
سـارح فى غربة بس مش مـغترب
وحـدى لكـين ونسـان وماشـى كده
وبـابتعد … ما اعرفش … أو باقترب
عـجبى !!
الغربة ليست مجرد مكان نغادره أو نبتعد عنه، بل هي حالة تسكن الروح، تزرع في القلب شعورًا غريبًا لا يزول. هي ذلك الصمت الذي يملأ فراغًا داخليًا، وحيرة تلتف حول الذات، تجعلنا غرباء حتى عن أنفسنا.
في لحظات الغربة، لا يكون الإنسان غريبًا فقط عن الأرض التي يمشي عليها، بل عن ذاته التي لم يعد يعرفها، عن أحلامه التي تبددت، وعن العالم الذي صار غريبًا بلا ملامح مألوفة. إنها حالة من الانفصال العميق، حيث يصبح القلب سجينا في قفص من الوحدة، والروح تائهة بين ظلال الأسئلة التي لا تجد جوابًا.
في رواية "الغريب" لألبير كامو، نجد ميرسو، ذلك الرجل الذي لا يتماهى مع مشاعر المجتمع ولا مع قواعده، يعيش في عزلة داخلية، لا يشارك العالم إلا في صمته، وكأن الحياة من حوله مجرد مشهد عابر لا يلامس جوهره. ميرسو هو الغريب الذي لا ينتمي، ليس فقط إلى المكان، بل إلى ذاته، إلى معنى الوجود ذاته.
والغربة ليست فقط في المكان، بل في الزمن أيضًا. في رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، تتبدل الأرض وتتغير، ويشعر الإنسان بأنه غريب في ذاكرته، غريب في أحلامه التي تبددت مع رياح التغيير. الغربة هنا هي اغتراب الهوية، اغتراب الجذور التي لم تعد تثبت في تربة متغيرة.
أما في أعماق النفس، فإن الغربة هي ذلك الصراع الدائم بين الرغبة في الانتماء والخوف من الفقدان. هي ذلك الشعور بأننا نعيش في عالم مزدحم بالناس، ومع ذلك نشعر بالوحدة، كأننا نغرق في بحر من الوجوه التي لا تعكس صورتنا الحقيقية.
الفيلسوف جان بول سارتر تحدث عن الحرية التي تكبل الإنسان، وعن الاغتراب الذي ينشأ عندما يواجه الإنسان عبء اختياراته وحريته في عالم لا يمنحه إجابات جاهزة. الحرية هنا ليست هبة، بل عبء ثقيل، يجعل الإنسان يعيش في عزلة داخلية، غريبًا عن ذاته، يبحث عن معنى وسط الفوضى.
الغربة إذن ليست فقط حالة مكانية، بل هي حالة وجودية، رحلة في أعماق النفس، حيث يلتقي الإنسان مع ذاته الحقيقية، مع مخاوفه، مع آلامه، ومع أمله. هي دعوة للتأمل، لفهم الذات، وللبحث عن جذور الانتماء الحقيقي الذي يبدأ من الداخل.
في الاخير، الغربة هي جزء من تجربة الإنسان، لكنها ليست قدرًا محتمًا. بل هي فرصة لاكتشاف الذات، ولإعادة بناء الجسور التي تواصلنا مع العالم ومع أنفسنا. فربما في عمق الغربة، يولد الانتماء الحقيقي، ذلك الانتماء الذي لا يتغير مع المكان أو الزمن، بل ينبع من القلب.
إرسال تعليق