بقلم / المفكر العربي الدكتور خالد محمود عبد القوي عبد اللطيف
مؤسس ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي ,
رئيس الإتحاد العالمي للعلماء والباحثين
مما لاشك فيه أن الْـمُتَأَمِّلَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى يَجِدُ الْعَطَاءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَعَدِّدَ الْأَوْجُهِ، وَمُخْتَلِفَ الْـمَجَالَاتِ؛ يَرِدُ تَارَةً مَقْرُونًا بِالتَّوْحِيدِ، وَمَرَّةً أُخْرَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، وَمَرَّةً بِالْحَجِّ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْقَصَصِ الْقُرْآنِيِّ وَمَآثِرِ الْأَوَّلِينَ، وَغَيْرِهَا مِنْ مَوْضُوعَاتِ الْقُرْآنِ الْـمُخْتَلِفَةِ؛ فَتَارَةً يَسُوقُهُ الْقُرْآنُ بِلَفْظِ الطَّعَامِ: ﴿أَوِ اِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ اَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾، وَيَذْكُرُهُ مَرَّةً أُخْرَى بِلَفْظِ الْإِنْفَاقِ: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾، وَكَذَا بِلَفْظِ الْعَطَاءِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِيثَارِ وَالصَّدَقَةِ وَالْبِرِّ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يَقِفُ عَلَيْهَا الْـمُتَتَبِّعِ لِـمَعَانِي الْعَطَاءِ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْعَطَاءُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ كَبِيرَيْنِ؛ هُمَا: اَلْعَطَاءُ الْـمَادِّيُّ؛ وَهُوَ الْـمُتَبَادِرُ إِلَى الْأَذْهَانِ عِنْدَ ذِكْرِهِ. وَالْعَطَاءُ الْـمَعْنَوِيُّ أَوِ (للَّامَادِيُّ)؛ وَهُوَ الَّذِي يَغْفُلُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، أَوْ عَلَى الْأَقَلِّ يَغْفُلُونَ عَنْ أَهَمِّيَّتِهِ وَدَوْرِهِ فِي الرُّقِيِّ بِالْـمُجْتَمَعِ. وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى فَضْلِ الْعَطَاءِ الْـمَادِّيِّ وَوُجُوهِ إِنْفَاقِهِ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ، وَفِي الْخُطْبَةِ الْقَادِمَةِ نَتَنَاوَلُ الْعَطَاءَ اللَّامَادِّيَّ بِحَوْلِ اللَّهِ.
فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْعَطَاءِ أَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْجَلِيلَةِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْـمُحْسِنُ، وَيُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ، وَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ، وَيُحِبُّ الْكُرَمَاءَ، وَيُعْطِي سُبْحَانَهُ قَبْلَ السُّؤَالِ، وَيُجْزِلُ الْعَطَاءَ، وَيُحِبُّ مَنِ اِتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ عِبَادِهِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ وَالنَّجَاحِ فِي الْآخِرَةِ؛ اَلْوَفَاءَ بِالنُّذُورِ وَالْإِطْعَامَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَقَالَ جَلَّ شَأَنُهُ: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾.
وَأَمَّا أَوْجُهُهُ فَمُتَعَدِّدَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ؛ فَمِنَ الْوَاجِبِ: اَلنَّفَقَةُ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ؛ يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ: (اِبْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ، فَلِذِي قَرَابَتِكَ، فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ، فَهَكَذَا وَهَكَذَا. يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ). وَمِنَ الْوَاجِبِ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ فِي مَالِ الْأَغْنِيَاءِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾، وَمِنْهُ كَذَلِكَ حُقُوقُ الْغَيْرِ الْـمُتَعَلِّقَةُ بِمَالِ الْـمُسْلِمِ لِسَبَبٍ أَوْ لِآخَرَ؛ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِالْعِوَضِ أَوِ الْإِجَارَةِ أَوِ النَّذْرِ أَوْ غَيْرِهِمَا.
وَمِنَ الْعَطَاءِ التَّطَوُّعِيِّ اَلتَّبَرُّعَاتُ الْـمُخْتَلِفَةُ؛ مِنْ صَدَقَةٍ، وَهِبَةٍ، وَوَقْفٍ، وَنِحْلَةٍ، وَمِنْحَةٍ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ التَّبَرُّعَاتِ الْـمُفَصَّلَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَالْـمُرَغَّبِ فِي إِسْدَائِهَا لِلْغَيْرِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ.
وَالْعَطَاءُ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْـمُؤْمِنُونَ وَالْأَخَوَاتُ الْـمُؤْمِنَاتُ -، لَهُ أَثَرٌ كَبِيرٌ وَفَوَائِدُ عَظِيمَةٌ وَجَلِيلَةٌ عَلَى الْفَرْدِ وَالْـمُجْتَمَعِ؛ عَلَى الْـمُنْفِقِ وَعَلَى الْـمُنْفَقِ عَلَيْهِ؛ وَمَنْ هَذِهِ الْفَوَائِدِ: أَنَّهُ يَنْشُرُ الْـمَحَبَّةَ بَيْنَ النَّاسِ عَبْرَ قِيَمِ التَّضَامُنِ وَالْـمُوَاسَاةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيُزَكِّي الْأَنْفُسَ مِنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ وَحُبِّ الذَّاتِ، وَيَحُلُّ مَشَاكِلَ الْـمَسَاكِينِ وَالْـمُعْوِزِينَ، وَيُعِيدُ تَوْزِيعَ الثَّرْوَةِ حَتَّى لَا تَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَيُسْهِمُ فِي التَّنْمِيَةِ وَالرُّقِيِّ بِالْـمُجْتَمَعِ؛ وَهَذَا مَعْنىً مَنْ مَعَانِي قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّبْتِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (اَلْوُجُودُ يَنْفَعِلُ بِالْجُودِ). وَالْـمُتَأَمِّلُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُدْرِكُ أَنَّ الْإِحْسَانَ بَيْنَ النَّاسِ وَإِسْهَامَ كُلِّ فَرْدٍ بِمَا يُحْسِنُ قَدْرَ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ يَجْعَلُ الْوُجُودَ مُنْفَعِلًا مُتَنَامِياً، مُحَقِّقًا لِلنَّاسِ مَصَالِحَهُمْ بِكُلِّ يُسْرٍ وَسُهُولَةٍ.
إِنَّ مِنْ مُنَاسَبَاتِ الْجُودِ وَالْعَطَاءِ، هَذِهِ الْأَيَّامَ الْـمُبَارَكَاتِ الَّتِي تُضَاعِفُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ، وَتَتَنَزَّلُ فِيهَا الرَّحَمَاتُ، أَيَّامَ عِيدِ الْأَضْحَى الْـمُبَارَكِ؛ أَيَّامَ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللَّهِ، وَهِيَ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ، فَاعْمُرُوهَا بِالذِّكْرِ وَالشُّكْرِ لِلْجَوَادِ الْكَرِيمِ سُبْحَانَهُ، اَلَّذِي غَمَرَتْنَا عَطَايَاهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَاشْغَلُواْ أَنْفُسَكُمْ فِيهَا بِصِلَةِ الأَرْحَامِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْـمَسَاكِينِ، وَارْحَمُواْ مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ.
وَاعْلَمُواْ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ ذَبَحَ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ فِي عِيدِ الْأَضْحَى الْـمُبَارَكِ؛ وَاحِدًا عَنْ نَّفْسِهِ وَوَاحِدًا عَمَّنْ لَّمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِهِ، وَهَا هُوَ وَلِيُّ أَمْرِنَا أَمِيرُ الْـمُؤْمِنِينَ، جَلَالَةُ الْـمَلِكِ مُحَمَّدٌ اِلسَّادِسُ حَفِظَهُ اللَّهُ وَأَعَزَّ أَمْرَهُ، سَيَسْتَنُّ بِسُنَّةِ جَدِّهِ الْـمُصْطَفَى ﷺ، وَيَذْبَحُ كَبْشَيْنِ؛ وَاحِدًا عَنْ نَّفْسِهِ، وَوَاحِدًا عَنْ أُمَّتِهِ وَشَعْبِهِ، لِـمَا تَعِيشُهُ بِلَادُنَا مِنْ شُحٍّ فِي الْـمَاشِيَةِ بِسَبَبِ التَّقَلُّبَاتِ الْـمُنَاخِيَّةِ؛ أَخْذًا بِمَبْدَإِ التَّيْسِيرِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْأُمَّةِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُمَتِّعَ إِمَامَنَا بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَيُعِيدَ عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا جَمِيعًا هَذِهِ الْـمُنَاسَبَةَ فِي أَحْسَنِ الظُّرُوفِ وَالْأَحْوَالِ.
إرسال تعليق