مقال بعنوان: في ظلال الغياب
بقلم ا.د ابراهيم محمد مرجونة
في لحظة مفاجئة، استيقظ "سامي" ليجد نفسه في مكان غريب، بعيدًا عن كل ما يعرفه، وكل من حوله يعتقد أنه مات. لم يكن سامي قد مات فعلاً، بل كانت حادثة غامضة جعلت الجميع يظن أنه رحل عن الحياة، حتى أسرته وأصدقاؤه. لكن الحقيقة كانت أكثر تعقيدًا مما تخيل.
تخيل معي أن تستيقظ ذات صباح لتكتشف أن اسمك قد أُعلن في النعي، وأن الناس من حولك بدأوا يتحدثون عنك وكأنك لم تعد موجودًا. لم يعد هناك من ينتظرك، ولا من يسأل عنك. في البداية، كان سامي يشعر بالصدمة، لكنه سرعان ما أدرك أن هذه الفرصة الغريبة قد منحت له نافذة لرؤية العالم من منظور جديد.
الوجه الحقيقي للناس
مع مرور الأيام، بدأ سامي يلاحظ تغيرًا غريبًا في تصرفات من حوله. بعضهم أظهر وجهاً حقيقياً لم يكن يراه من قبل: أناس كانوا يدّعون المحبة والاهتمام، لكنهم في غيابه لم يبدوا أي حزن حقيقي. آخرون استغلوا غيابه لتحقيق مصالح شخصية، بينما بعضهم الآخر بدأ يظهر نفاقه وجشعه.
لم يكن سامي مجرد مراقب، بل تعلم الكثير عن نفسه وعن الناس. أدرك أن الحياة الحقيقية ليست في الظهور أو الكلمات، بل في الأفعال والنية الصادقة. هذه التجربة القاسية جعلته يعيد تقييم علاقاته، ويختار من يستحق أن يبقى في حياته.
دعونا نتأمل أنه في لحظة غريبة من الزمن، استيقظ سامي ليجد نفسه بين عالمين؛ عالمه الذي يعرفه حيث الجميع يظن أنه مات، وعالم جديد يكشف له وجوهًا لم يرها من قبل. لم يمت جسديًا، لكنه عاش تجربة الموت الاجتماعي، ذلك الموت الذي لا يُقاس بنبض القلب، بل بغياب الاعتراف والاهتمام من الآخرين. هنا، تتجلى حقيقة وجودنا التي لا تنفصل عن نظرات من حولنا، كما قال سارتر: "الآخرون هم الجحيم"، فغيابهم قد يكون موتًا أعمق من الموت ذاته.
في هذا الفراغ الذي تركه اختفاء سامي الظاهري، انكشف له الوجه الحقيقي لمن كانوا يحيطون به. وجوه تحمل أقنعة النفاق، تلك الأقنعة التي تحدث عنها أرسطو، والتي يلبسها الإنسان أحيانًا لحماية نفسه أو لتحقيق مصالحه. لكن في غيابه، لم تعد هذه الأقنعة تخفي شيئًا، فظهرت الأنانية، الزيف، واللامبالاة التي كانت مختبئة خلف كلمات الحب والاهتمام.
هذه التجربة ليست مجرد ملاحظة، بل هي رحلة عميقة في فهم الذات والآخر، حيث لا يُعرف الإنسان إلا من خلال تفاعل الآخرين معه، كما قال هيجل: "الذات لا تعرف ذاتها إلا من خلال الآخر". سامي، الذي كان يظن نفسه معروفًا ومحبوبًا، وجد نفسه أمام مرآة الحقيقة التي كشفت له من هو حقًا.
في هذا الكشف المؤلم، برزت أهمية الصدق والوعي في العلاقات الإنسانية. فكما قال فوكو، "السلطة الحقيقية هي معرفة الحقيقة عن الذات والآخر". الصدق هنا ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل هو حجر الأساس الذي تبنى عليه علاقاتنا، وبدونه تتحول الحياة إلى مسرحية من الأكاذيب والوجوه المزيفة.
تجربة سامي تعلمنا درسًا عميقًا: أن الحياة ليست فقط في التنفس، بل في أن يُعترف بوجودنا، في أن نكون حقيقيين مع أنفسنا ومع من نحب. في عالم تتعدد فيه الأقنعة، يصبح الوعي بحقيقة من حولنا وبأنفسنا ضرورة للحفاظ على سلامنا النفسي والاجتماعي.
هذه القصة، رغم أنها تبدو خيالية، تحمل في طياتها مرآة تعكس واقعًا نعيشه جميعًا. فهي دعوة للتأمل في طبيعة العلاقات التي نبنيها، وفي الأشخاص الذين نختار أن نثق بهم. هل هم حقًا بجانبنا في كل الظروف؟ أم أن بعضهم يظهرون وجوهًا مزيفة لا نراها إلا حين نختفي؟
ودائماً يبقى الإنسان يبحث عن الحقيقة، عن ذاته، وعن من يرافقه في رحلة الحياة. ومثلما قال نيتشه: "كلما ارتفع الإنسان، رأى أكثر من الناس"، فإن الوعي الحقيقي هو أن نرى ما وراء الأقنعة، لنختار بوعي من يستحق أن يكون جزءًا من حياتنا.
إرسال تعليق