مقال بعنوان: الملك لير بقلم ا.د ابراهيم محمد مرجونة

مقال بعنوان: الملك لير بقلم ا.د ابراهيم محمد مرجونة

 



مقال بعنوان: الملك لير

بقلم ا.د ابراهيم محمد مرجونة 


يا طير يا عالي في السما طز فيك

ما تفتكرشي ربنا مصطفيك

برضك بتاكل دود و للطين تعًًًًودً

تمص فيه يا حلو .. و يمص فيك

عجبي !!!


في عمق مسرحية "الملك لير" لشكسبير، لا نجد مجرد قصة ملك يتخلى عن عرشه، بل نُسج أمامنا نسيج مأساوي معقّد يكشف هشاشة الروابط الإنسانية حين يعلو صوت المصلحة على نداء المحبة. هي دراما تنفذ إلى جوهر النفس البشرية، وتفضح آليات المجتمع عندما تنكسر الثقة وتذوب القيم.


منذ المشهد الأول، حين يقرر لير تقسيم مملكته بين بناته، لا نرى فقط قرارًا سياسيًا، بل نبوءة بانهيار وشيك، حيث يصبح التودد المصطنع عملة مقبولة، بينما تُقصى الحقيقة الصامتة. في لحظة واحدة، يتخلى لير عن كورديليا، لأنها لم تتغنَّ بحبه كما فعلت أختاها. لكنه لا يعلم أن هذا القرار سيفتح أبوابًا لصراعات مريرة لا تقتصر على قصر الحكم، بل تمتد لتشمل الأسرة، والسلطة، والمجتمع بأسره.


كورديليا، بصمتها النبيل ورفضها للمساومة على صدق مشاعرها، تمثل صوتًا غريبًا في محيط يعجّ بالنفاق. لم تخرج فقط عن طوع والدها، بل كسرت صورة المرأة الخاضعة لقواعد اللعبة الطبقية والاجتماعية. رفضها كان إعلان تمرد أخلاقي قبل أن يكون خلافًا عائليًا. ومن هنا، تُفتح نافذة رمزية نحو نقد اجتماعي حاد: ماذا يحدث حين يُكافأ الكذب ويُعاقب الصدق؟ حين تتحول القيم إلى واجهات؟


هذا التمزق لا يظل حبيس الجدران الملكية. بل ينسحب على ملامح المجتمع كلّه، حيث تختفي العدالة ويغيب الإنصاف. انهيار السلطة لا يعني فقط سقوط التاج، بل زلزلة القيم التي ظنّ الناس أنها ثابتة. في خضم هذه الفوضى .

يظهر إدموند، ابن غير شرعي يسعى إلى انتزاع مكان له وسط عالم لا يعترف به، فيتحوّل إلى مرآة للشر الاجتماعي الذي ينشأ حين يُقصى الإنسان ويُدفع إلى الهامش.


وفي غمرة الأحداث، تلعب رمزية العمى والجنون دورًا مفصليًا.  حيث غلوستر يفقد بصره حين يفقد قدرته على رؤية الحق، وبعد فقدان البصر تنكشف له البصيرة ويدرك جميع ما غاب عنه ،

 ولير يهيم في البراري بعدما خذله من أحبهم. لكن هذا الجنون ليس جنون العقل فقط، بل جنون عالمٍ اختلطت فيه القيم حتى صار الصدق متهماً، والمحب خاسرًا. كل لحظة من لحظات السقوط تحمل في طياتها مرآة لمجتمع مأزوم، يتآكل من داخله تحت وطأة الأنانية والصراع على النفوذ.


مما لاشك فيه أن رمزية العمى والجنون في المسرحية لا تنبع من البعد النفسي فقط، بل من هشاشة الاتصالات الاجتماعية حين ترفض النظر للحقيقة وتحجب الانتماء والمودة الحقيقية. فقدان غلوستر للبصر يعني فقدان المجتمع لبصيرته ومروءته، كما أن جنون لير يرمز إلى الضياع الاجتماعي والنفسي وسط عالم يفتقر للمحبة والعدل، وهو ما يظهر بصورة واضحة في احتدام صراعات الولاء والخيانة بين الشخصيات المختلفة


وعلى خشبة المسرح المصري، أعاد يحيى الفخراني تجسيد هذه التراجيديا بلغة مشاعر لا تخطئها العين. كان ليره رجلاً مكسورًا، غارقًا في دهشة الاكتشاف المتأخر، يحمل في نظراته أسى الآباء الذين لم ينتبهوا لصرخات قلوب أبنائهم. لم يكن أداءً فنيًا فحسب، بل معايشة صادقة لزمنٍ تتآكل فيه الأسرة وتُهمَّش فيه العاطفة.


وببقى "الملك لير" أكثر من نص كلاسيكي. إنها دعوة للتأمل، وصفعة تذكّرنا بأن المجتمعات التي تغفل عن إنصاف أفرادها، التي تكافئ التملّق وتقصي الإخلاص، 

لابد  أن تعاني من شروخ لا تُرمم. تظل المسرحية، بكل ما تحمله من ألم ودهشة، جرس إنذار يدعونا للعودة إلى إنسانيتنا، إلى المحبة التي لا تطلب مقابلاً، وإلى الصدق الذي لا يُساوَم عليه.


ويبقى السؤال : هل يمكن للإنسان أن ينجو من الخراب إذا لم يضع الرحمة والعدل في قلب العلاقات؟ 

لعل "الملك لير" يجيب، لا بالكلمات، بل بالدموع التي تفيض من عيون من فهموا متأخرين.

اكتب تعليق

أحدث أقدم